جيفري تايلور يكتب: العالم وفق روسيا



 جيفري تايلور

يقدّم الفيلم الوثائقي Miroporyadok (النظام العالمي) الذي يعرض على محطة التلفزيون الحكومية الروسية لمحة عن فلسفة فلاديمير بوتين الذي يرى أن أصل كل الشرور الدولية ميل الولايات المتحدة إلى نشر الديمقراطية إما بطريقة خفية عبر دعمها “الثورات الملونة” في مدار الاتحاد السوفياتي سابقاً، أو واضحة كما رأينا مع الإطاحة بصدام حسين.

سأل بوتين في الأمم المتحدة في شهر سبتمبر: “هل تدركون ماذا فعلتم؟”، فشكل هذا السؤال انتقاداً لكتلة الدول التي تقودها الولايات المتحدة والتي نظرت في البداية بتفاؤل إلى الربيع العربي، الذي انطلق في مثل هذا الشهر قبل خمس سنوات، إلا أن هذا الربيع اختفى وحلت محله الفوضى والعنف الإسلامي في أجزاء كانت مستقرة سابقاً في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لكن هذه الأحداث تبدو مختلفة عندما تُرى من منظار روسيا، لا منظار الولايات المتحدة، وقد أوضح فيلم وثائقي بُث عبر محطة التلفزيون الحكومية وجهة النظر العالمية وراء هذا السؤال.
يتناول هذا الفيلم، الذي يدوم أكثر من ساعتين بعنوان Miroporyadok (النظام العالمي)، “ماذا يحدث معنا [الروس]؟ وما نوع العالم الذي ورثناه عن أهلنا؟ وما نوع العالم الذي سنخلفه لأولادنا؟”، حسبما يذكر راويه فلاديمير سولوفيوف، ويقدّم هذا الفيلم أيضاً، من خلال مقابلات مع الرئيس الروسي نفسه وغيرها من المواد، لمحة عن نظرة بوتين إلى الواقعية السياسية، نظرة لاحظتُ خلال السنوات الكثيرة التي أمضيتها في هذا البلد أنها واسعة الانتشار في روسيا. تعتبر وجهة النظر العالمية هذه أن العلاقات الدولية تتألف من كتل متنافسة من الأمم التي تسعى إلى تحقيق مصالحها، وأن انتهاك السيادة يشكل وصفة لعدم الاستقرار، ويقف هذا في تباين تام مع موقف أوباما الخاص الذي أعلنه في الأمم المتحدة قبل سنتين: “لا يمكن أن تشكل السيادة درعاً للطغاة تحميهم من جرائم القتل المشينة، أو حجة يتذرع بها المجتمع الدولي ليشيح بنظره عن عمليات القتل”.
قال بوتين لسولوفيوف: “أعتقد ألا أحد يحق له فرض أي نوع من القيم التي يعتبرها صائبة على مطلق إنسان، لدينا قيمنا الخاصة ومفهومنا الخاص عن العدالة”، فلا يأتي بوتين على ذكر أسماء، إلا أن ما يلمح إليه واضح: يسعى هذا الفيلم إلى إدانة السياسة الخارجية الأميركية وإلقاء مسؤولية الفوضى الراهنة في الشرق الأوسط على عاتق الولايات المتحدة، صحيح أن الميل المعادي للولايات المتحدة في هذا الفيلم مبطن، إلا أنه متواصل، وتعتمد حبكته في المقام الأول على حذف الوقائع ذات الصلة، ولا شك أن هذا الفيلم ولد في قلب آلية الدولة الروسية الدعائية، إلا أن بعض انتقاداته الموجهة إلى السياسة الأميركية الخاطئة والتدخلات المتهورة في الشرق الأوسط منذ 11 سبتمبر عام 2001 لا تشكل مصدر خلاف بين الأميركيين الليبراليين الوسطيين، حتى عدد من المحافظين، لكن هذا الفيلم الوثائقي لا يقف عند هذا الحد، معطياً انطباعاً قوياً عن أن المتآمرين “عبر الأطلسي” (عبارة يستعملها بوتين مراراً في الفيلم لوصف القيادة الأميركية) الجشعين، والأغبياء، والقصيري النظر على نحو ميؤوس منه، والعاقدي العزم على السيطرة على العالم يتحملون المسؤولية. وهكذا، يبدو أن روسيا تُظلم حين تصور في دور الشرير وأن الروس أنفسهم أرغموا على مواجهة معاناة اقتصادية نتيجة ذلك.
لا يعبر الفيلم عن هذه النقطة الأخيرة صراحةً، بل يلمح إليها، مما يعطينا دليلاً آخر على الشكل الذي يتخذه العالم من منظار روسيا، يعتبر الروس إلى حد يرفضه الأميركيون تماماً أن السياسة الخارجية تشكل أيضاً سياسة داخلية. ويعود ذلك في المقام الأول إلى أن دول الجوار تشمل أوكرانيا، التي تجمعهم بها روابط دم، وتاريخ، وثقافة لا تزال قوية. وبفضل غزوات روسيا المتعددة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، يتجلى الانشغال بالأمن القومي والفخر الوطني بقوة في السياسة الروسية، مع بقاء احتمال نشوب حرب عالياً دوماً، ولا  شك أن نظريات الواقعية السياسية (لا الترويج للقيم مثلاً) تولد تلقائياً في ظل ظروف مماثلة. يكشف لنا هذا الفيلم أن أصل كل الشرور الدولية ميل الولايات المتحدة إلى نشر الديمقراطية إما بطريقة خفية (مع دعم الولايات المتحدة “الثورات الملونة” في مدار الاتحاد السوفياتي سابقاً) أو واضحة (كما رأينا مع الإطاحة بصدام حسين).
لكن رسالة “النظام العالمي”، كما يشير العنوان، تمتد جغرافياً وتعود تاريخياً إلى ما قبل سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط عقب اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، فكما يذكر الفيلم وبوتين، حسبما نفترض، لا تكمن المشكلة الفعلية اليوم في بروز “داعش”، بل في تفكك العلاقات بين روسيا والغرب، ومن أبرز أسباب هذا الصراع توسع حلف شمال الأطلسي شرقاً منذ سقوط جدار برلين عام 1989، علماً أن هذا الحدث أدى إلى تمركز القوات على حدود روسيا مع دول البلطيق، ورسم خطط لانضمام أوكرانيا (وجورجياً أيضاً) ذات يوم إلى الحلف، وتدخل روسيا في النهاية في أوكرانيا.
يسأل بوتين، مشيراً إلى الانتفاضة التي أطاحت بالرئيس الأوكراني آنذاك فيكتور يانوكوفيتش عام 2014: “لمَ دعم [الغرب] الانقلاب؟”. ثم يتحدث عن مخاوف الغرب من أن تحاول روسيا إعادة تأسيس الاتحاد السوفياتي، ويضيف: “أعتقد أن الكثير من شركائنا يظنون أنهم اقترفوا خطأ، مع أنهم يرفضون الإقرار بذلك، فاستغلوا الاستياء الشعبي ليس من يانوكوفيتش فحسب، بل من العودة إلى الاستقلال أيضاً. هل يظن أحد اليوم أن الأوضاع أفضل في هذا البلد؟”.
لا شك أن قليلين يعارضون وصف بوتين القاسي للوضع الأوكراني بعد مرحلة التظاهرات، يقول: “شهد مستوى المعيشة تراجعاً جذرياً… وعلامَ حصلوا في المقابل؟ قد يُسمح للأوكرانيين بالسفر إلى أوروبا من دون تأشيرة دخول وربما لا”.
ينتهي هذا الفيلم مع طرح سولوفيوف السؤال الذي استُخدم لشد انتباه المشاهد في المقدمة: هل تقع حرب عالمية ثالثة؟
يجيب بوتين: إن هذا مستبعد، شرط ألا يحاول أي مجنون استخدام الأسلحة النووية لبدئها، وبما أن هذا الاحتمال يظل قائماً، “ستواصل روسيا تطوير أسلحتها [النووية]. فيشكل اللحن النووي أساس سياستنا الأمنية، لم يسبق لنا أن أشهرنا أسلحتنا النووية ولن نقدم على ذلك اليوم، إلا أنها ستحتفظ بمكانتها الملائمة ودورها المناسب في عقيدتنا العسكرية”. إذاً، ما الخلاصة وفق هذا الفيلم؟ يفكر بوتين في احتمال تجديد العلاقات مع أوروبا، إلا أنه لا يعتبر هذا ممكناً مع الولايات المتحدة، ومن المؤسف أن واشنطن وموسكو لا تختلفان بشأن هذه النقطة بالتحديد.

المصدر: الجريدة من أتلانتك

أخبار سوريا ميكرو سيريا