العراق: مقاهٍ شعبية لاستئجار المتظاهرين


يبدو أنه لا يُمكن توقّع أمر “اعتيادي” في العراق، إذ إنه عادة حين تستشري مشاكل الفقر والبطالة، يزداد نفوذ الأحزاب، لكن الأمر معكوس في بلاد الرافدين، التي تعاني أحزابها وحركاتها السياسية، البالغ عددها وفقاً لآخر مسح، 172 حزباً وحركة وتجمّعاً سياسياً، من ضائقة مالية. غير أن مشكلة تأمين أعداد كافية من المتظاهرين أو المحتجّين، باتت محلولة، فمقاهي العاطلين، أو ما يُعرف بـ”مقاهي التظاهرات”، صارت كافية لتأمين من 100 إلى 200 شخص في ساعة واحدة، على أن يتقاضى كل متظاهر منهم نحو 5 دولارات في الساعة الواحدة. وتختلف الأجور تبعاً لمنظم التظاهرة، أو الحزب الراعي لها، ونوعية المطالب ومكان التظاهر وفقاً لخطورته أو أمنه.

ويصف الناشط محمد عدنان، هذه الظاهرة بـ”المخيفة والكارثية على العراق”. ويضيف في حديثٍ لـ”العربي الجديد”، أنه “عندما يصل الحال إلى استئجار الصوت والكلمة بالمجتمع، ويُصبح الأمر متعلّقا بمن يدفع أكثر، يستغل حينها المتنفذون والسياسيون من أصحاب الأموال بؤس الفقر ووجع البطالة”.

أحد تلك المقاهي، هو مقهى في منطقة الباب الشرقي، المطلة على ساحة التحرير في قلب العاصمة بغداد. يزداد عدد روّاد المقهى بشكل مستمرّ، لم يعد معه مبدأ أن “المكان الممتلئ يُبعد الناس عنه”، بل يعمد الزوّار إلى افتراش الرصيف، في انتظار من يدفع لهم للمشاركة في تظاهرة.

“مقهى المتظاهرين”، كما يُطلق على مقهى العم حسن الساعدي (61 عاماً)، ليس سوى “مقهى دجلة”، كما هو مسجّل في أمانة بغداد. يقول الساعدي، لـ”العربي الجديد”، إن “غالبية الشباب المتواجدين الآن، بمعدل يومي يتراوح بين 100 و120 شخصاً، ينتظرون، في الداخل والخارج، من يشتري أصواتهم”. ويضيف “أنا لا أمنعهم، فهم يدخلون ويجلسون ويشربون الشاي ويدخنون الشيشة، وعندي دفتر للديون أسجل على كل شخص منهم، وعندما يأتي رزقهم يسددون لي”.

ويتابع “هم أشخاص طيبون، دفعتهم الحاجة إلى هذا الأمر، والعيب على من يستغلّهم، لا عليهم. وهؤلاء الشباب من جميع الفئات، بينهم متعلمون وآخرون لم يكملوا دراستهم. جميعهم يتشاركون الفقر والبطالة، وقد أُصيبوا باليأس من العثور على عمل مستمر أو حتى مؤقت. بيوتهم فارغة وبطونهم وبطون من يعيلون خاوية، كما أن الوضع الصحي لأشخاص آخرين سيئ، وبسبب انعدام اهتمام الحكومة بهم، وجدوا أنفسهم هنا”. لا يخفي الساعدي انزعاجه من تسمية مقهاه بـ”مقهى المتظاهرين”، إلا أنه يؤكد على عدم تفكيره في طردهم، معتبراً أن موافقته فيها أجر وباب رزق له، ما دام يساعد في أرزاق الآخرين.

ووفقاً لتقديرات محلية غير رسمية، فإن ما بين 13 إلى 20 مقهى في جانب الرصافة من بغداد وحدها، مخصص لاستئجار المتظاهرين. كما يبدو لافتاً وجود صور أخرى لظاهرة الاستئجار من خلال مكاتب تأمين حفلات الأعراس والمآتم، أو من خلال وجاهات قبلية وعشائرية، تقوم بمهمة التنسيق هاتفياً مع المتظاهرين المُستأجرين لجمعهم. وهو أمر مقلق، كما يراه رئيس منظمة “الشفافية” في العراق، محمد عبد العظيم الراوي.

ويشير الراوي إلى أن “الظاهرة تستفحل مع اشتداد الفقر والبطالة والتنافس المحموم بين الأحزاب السياسية، وهو أمر مقلق للغاية، فصوت الشارع سيُدجّن ويُصَادَر من قبل أصحاب الأموال”.

ويُشدّد على أنه “تمّ رصد عشرات المراكز لاستئجار المتظاهرين، وبسعر يدلّ على أن المواطن الفقير والعاطل وصل مرحلة الطلاق مع المشاعر الوطنية والإنسانية، وبات يكفر بها بسبب النظام السياسي القائم والويلات التي جلبها له”.

مع العلم أنه يخرج أسبوعياً ما معدله ثلاث إلى أربع تظاهرات في بغداد وحدها، تدعو إليها أحزاب سياسية وكتل برلمانية. وعادة ما تكون التظاهرات في ساحة التحرير ببغداد، أو في شارع المتنبي على ضفاف دجلة، ولا تتجاوز أعداد المتظاهرين بضع عشرات في كل مرة، وتستمر ما بين ساعتين إلى ثلاث، مع رفع يافطات وشعارات تتناسب مع سبب التظاهر.

من جهته، يقول م. سالم (اسم مستعار)، لـ”العربي الجديد”: “أجني أسبوعياً نحو 50 دولاراً من عملي في التظاهرات من خلال مشاركتي فيها، لامتلاكي صوتاً جهورياً، وقدرة على حفظ أغان وشعارات. كما أن لدي قاعدة أصدقاء أتصل بهم عند الحاجة للحضور”.

ويتابع “اكتشفت هذا العمل عن طريق الصدفة، في العام الماضي، خلال تظاهرة دعا إليها أحد السياسيين، للتنديد بالفساد، وكنت صادقاً في الذهاب إليها، لكن عند وصولي ومشاركتي هناك وبفعالية، جاء أحد الأشخاص وأعطاني خمسة دولارات، فسألته: ما هذه؟ فقال لي: اسكت، هل تريد أن أعطيك 100 دولار؟ وكان يعتقد أنني أعترض على المبلغ”.

ويُردف “أخذت المبلغ وشاهدت الآخرين يتسلمون المال ويرحلون، فأوقفت أحدهم وسألته عما يجري، فأخبرني بالوضع. وانتبهت إلى كونه لم يذهب إلى موقف الباصات القريب منا، أثناء عودتنا، بل ذهب إلى مقهى قريب. وفي اليوم ذهبت إلى هذا المقهى لأكتشف من أين يبدأ كل شيء. ومن ذلك التاريخ أعتبر هذه الوظيفة بمثابة عمل ثانوي لي، بعد العمل في بيع وشراء المواد المستعملة، فالوضع صعب وعندي ستة أطفال”.

وحول المبلغ الذي يحصل عليه كل متظاهر، يقول سالم إن “المبلغ لا يقل عن 5 دولارات في الساعة، لذلك لا تستمر التظاهرة الواحدة أكثر من 3 ساعات، وإلا تُعتبر خسارة على منظمها. كما أن هناك من يأخذ أكثر منا، مثل منتحلي صفة رجال الدين وشيوخ العشائر، فوجود متظاهرين بعمائم أو زي عشائري، مهم جداً إعلامياً”. ويُردف ساخراً “المشكلة أن شكلي لا يناسب رجل دين أو شيخ عشيرة”.

من جهته، يقول عضو “اتحاد القوى العراقية” محمد عبد الله، لـ”العربي الجديد”، إن “الخوف لا ينبع من الظاهرة حالياً، فالتظاهرات المستأجرة باتت متلازمة لعمل السياسيين، لكننا نخشى من الانتخابات المقبلة، فمن يبيع صوته بالتظاهرات بخمسة دولارات يُمكنه بيعه بـ50 أو 100 بالصندوق. وهناك أحزاب وشخصيات فاسدة تدفع بسخاء لقاء بقائها في المنصب، فالانتخابات تجارة بالنسبة لهم”.

ويضيف عبد الله، أن “شراء الأصوات في الانتخابات السابقة كان موجوداً، لكن بنسبة أقلّ مما يتوقع أن يكون في الانتخابات المقبلة. الفقر ضرب أركان المجتمع، ونحو 40 في المائة من الشعب، بات تحت خط الفقر والبطالة، ونسبة أخرى أسيرة التعصب المذهبي والقومي في مسألة منح أصواتهم، من دون النظر إذا كان يستحق ذلك أم لا”.

ويقول القيادي في “التحالف الكردستاني” حمة أمين، لـ”العربي الجديد”، إن “مقاطع فيديو تم تداولها حول تسلّم متظاهرين أموالا من أفراد حمايات المسؤولين وموظفين في مكاتبهم، ولكن مع الأسف لم يفتح القضاء أي تحقيق في الموضوع”. ويضيف أن “النائحة الثكلى ليست كالنائحة المستأجرة، لذا تجدهم في تظاهرات من المفترض أن تكون غاضبة وحزينة، يضحكون ويأكلون”.

ويشعر أعضاء الحراك المدني في العراق من الخوف إزاء تلك الظاهرة. ويقول الناشط عمار أحمد، لـ”العربي الجديد”، إن “الحراك المدني سيستمر ضد الفساد، ويمكن أن تحكم أو تميز بين التظاهرة المستأجرة والحقيقية، فالمستأجرة لا يتجاوز عدد أفرادها الـ300 شخص، بينما يصل العدد في التظاهرة الحقيقية إلى الآلاف، وهو ما يُعتبر صوت الشعب”.

ويضيف أن “الموضوع متعلق بمن يملك المال، وقادر على استئجار أشخاص يرفعون صوره ويافطات تُمجّده، ويقطعون الشارع وينتظر وسائل الإعلام لتصوير تظاهراته، للقول أنا رقم صعب ولي مؤيدون من الشعب. وهذه الظاهرة خطرة وتأكل ما تبقى من إيجابيات التجربة الديمقراطية في العراق التي مُسخت من دون أدنى شك”.

ويروي أحمد إحدى مشاهداته على التظاهرات المستأجرة، أن “أحد السياسيين دعا إلى تظاهرة شعبية واسعة تدعو للتنديد بتفجيرٍ استهدف مقر حزبه في بغداد. ثمّ تمّ بعدها استئجار متظاهرين في اليوم الثاني، لكن متعهد التظاهرة اختلف مع مدير مكتب هذا السياسي حول السعر، فقام المتظاهرون بترديد نشيد للأطفال، معروف في العراق، بدلاً من ترديد اسمه”. ويكشف أحمد أن “عشرات المتواجدين غنوا: يا بط يا بط اسبح بالشط قل للسمكة… إلى آخره من عباراتٍ، جعلت من يقفون على جانبي الطريق ينزلون ويشاركون معهم في الغناء، وسط ضحك وسخرية”.

المصدر: العربي الجديد – عثمان المختار