يسار الأسد ويسار الملك

باسم شيت - المنشور
 منذ بداية السيرورة الثورية في المنطقة العربية، كَثُر الكلام عن أزمة اليسار العربي، وغياب ذلك اليسار عن الساحة السياسية، بينما سُجِّل ظهور قوى جديدة أو متجددة يغلُب عليها الطابع الديني والطائفي، أو قوى ليبرالية انتهازية بالإضافة إلى وجود أنظمة سلطوية قائمة أصلاً.

بالطبع لا يستطيع أحد نكران التراجع الكبير الذي شهِدَته قوى اليسار منذ ثمانينيات القرن الماضي، وخاصة في المنطقة العربية ومحيطها، وما تبع ذلك من ابتعادها، وفي كثير من الاحيان، انسلاخها التام عن الحراك السياسي، وتذيلها لقوى النظام أو لتلك المعارضات النظامية الصفراء، أو في حالات أخرى الجمود الاستقطابي، أو عدم قدرتها على انتاج تنظيمات جماهيرية قادرة على التأثير على مجريات الأحداث، وخاصة في السيرورة الثورية الحالية.

ولكن لمقاربة المسألة، من المنهج الماركسي، لا بد لنا أولاً الابتعاد عن ترداد أن حال اليسار هو واقع ثابت لا يجوز الجدل فيه، إلى النظر في الأسباب التي جعلت من هذا التراجع واقعاً حالياً؛ فالماركسية ليست فقط نظرية وممارسة بل هي أولاً "فلسلفة نقدية، نظرية لفهم النظرية، ووعي للوعي نفسه. فهذه الفلسفة النقدية تعني قبل كل شيء النقد التاريخي. فهي تحلل الجامد، وما هو غير تاريخي، والظاهر الطبيعي للمؤسسات الاجتماعية؛ وتكشف أصولها التاريخية وتظهر بالتالي بأنها عرضة للتاريخ في كل جوانبه، بما يشمل ذلك التراجع التاريخي"(المصدربالانكليزية، بالعربية).

لذلك، فالنقد التاريخي الذي نتوجه به كماركسيين/ات لمقاربة الواقع المعاش في مجتمعاتنا علينا أيضاً أن نتوجه به لفهم واقع الأحزاب اليسارية التي هي إحدى المؤسسات الاجتماعية لمجتمعاتنا؛ فالأزمة التي نتكلّم عنها عن واقع اليسار لم تولَد من عدم، أو فقط بسبب الثورة السورية، بل لهذه الأزمة أيضاً، كما الأزمات الاخرى في مجتمعاتنا، جذورها التاريخية، ونكران هذه الجذور هو ليس سوى نكران للماركسية نفسها من موقع الدفاع عنها!

لذلك إن الازمة التي نتكلّم عنها، لا تأتي بسبب بعض الأخطاء السياسية أو التنظيمية الآنية لليسار، بل لديها جذورها في الإرث السياسي والأيديولوجي والتنظيمي لهذا اليسار، أي إرث الاستراتيجيات والأفكار والقرارات الماضية، الذي يعود مجدداً ليفرض نفسه في نمط من العلاقات السياسية والعمل السياسي لهذا اليسار في الواقع الحاضر. والتحرر من هذا الماضي ليس فعلاً جميلاً، بل هو فعلٌ عنيف بطبيعته، لأن قيود الماضي لن تنكسر بصمت أو تذهب بعيداً دون أن يكون هناك معركة مع من يريد كسرها. بالإضافة إلى ذلك، التحرر من تلك القيود ليس فعلاً فردياً أو ذاتياً فقط، بل هو أيضاً فعلٌ اجتماعي تحكمه موازين القوى الاجتماعية والسياسية المشكّلة له، والعلاقات السياسية والاجتماعية والأيديولوجية التي تجمع وتفرّق في ما بينها.

لذلك فدور اليسار الثوري لا يقتصر فقط على مقاربة المواقف المخزية لليسار التقليدي أو اليسار المعادي للثورة، بل عليه أيضاً أن ينظر إلى الجذور التاريخية لهذه المواقف، وإلى الأوزان السياسية والاجتماعية التي تحكمها.

أزمة للماركسية أو أزمة لمنظومات "ماركسية"

يعتبر الكثير من المعلقين أن أزمة اليسار العربي هي أزمة للفكر الماركسي نفسه، وعادة ما نسمع هذه العبارات ممن يصفون نفسهم بـ"يساريين سابقين" أو "ليبراليين"، وتبدو هذه المواقف في الكثير من الأحيان محاولة للهروب من مقاربة أخطاء الماضي، ومحاولة للتطهر منها بنبذ كامل التجربة اليسارية "القديمة" و"الخشبية" التي كانوا جزءاً منها اصلاً، من دون مقاربتها وتحليلها أو دراستها.

وبينما يصف آخرون، وخاصة من جهة الحزب الشيوعي اللبناني، هذه الأزمة بكونها أزمة قيادة أو أزمة تنظيمية، بالطبع من دون أدنى مقاربة نقدية للممارسة النظرية والاستراتيجية التاريخية للحزب، بل عادة ما يصبح الاختلاف ما بين التيارات المختلفة داخل الحزب إلى اتهام طرف لآخر بخيانة إرث الماضي، من دون مقاربة هذا الإرث أصلاً. فالخلاف ما بين اليسار الديمقراطي والحزب الشيوعي في بدايات القرن الحالي، اتجه بطبيعة الحال إلى التحاق الأول بتحالف ١٤ آذار والثاني بتحالف ٨ آذار، أي أن الخلاف لم يكن مثلاً على فكرة أو استراتيجية التحالف مع إحدى أقطاب البرجوازية اللبنانية أو حول استراتيجياتهم للوصول إلى البرلمان، بل هي حول أي طرف من تلك الأطراف يجب التحالف معه للوصول إلى السلطة وأي سياسة تنتهج لذلك الهدف. أما بالنسبة للمعارضات الجديدة في الحزب الشيوعي اللبناني، فكثير منها ينحصر بشكل عام حول اعتراضات حول الممارسة التنظيمية، أو تسجيل اعتراضات سياسية شكلية، أو استقطابية، وبالطبع ليس هناك فعلياً أي نقد جدي يقدم من هذه المعارضات على الاستراتيجية العامة للحزب، أو أي مقاربة للإرث الاستراتيجي والنظري الذي يحمله الحزب لمقاربة الواقع المتغيّر، بل في كثير من الأحيان ينتهي الكثير من الخلافات فيما بين المعارضة الحزبية للقيادة بأنهم "يخونون إرث الماضي".

وهنا تقع صلب المشكلة في مقاربة مسألة أزمة اليسار العربي، أي بأنها تقرأ في تفاصيلها السياسية والتنظيمية من دون قراءتها تاريخياً، قراءة الجذور الاجتماعية والسياسية والفكرية لهذه التفاصيل، ومن هنا ينشأ خطاب العتب أو التبرؤ الكامل من التصرفات المخزية للقيادات اليسارية التقليدية، وتصوّر المشكلة هي مشكلة انعطاف خاطئ لا غير، أو من جهة أخرى يصوّر اليسار والفكر اليساري والماركسي أصبحوا بمجملهم "خارج التاريخ".

لذا يجب الإجابة عن مسألتين، الأولى، هل هناك ممارسة نظرية وتاريخية ماركسية تستطيع مقاربة الأحداث الثورية الحالية وجذورها التاريخية، والثانية، تكمن في تحديد مساحة وماهية الأزمة في المنظومات اليسارية والماركسية القائمة.

الامبريالية وأزمة استراتيجيات الأحلاف

في العام ٢٠٠٣، انقسمت الحركة المناهضة للحرب في لبنان، ما بين موقف رافض للحرب وغير نقدي تجاه الانظمة العربية الحاكمة، وآخر نقدي ضد الامبريالية والديكتاتوريات، وخرجت مظاهرتين، الأولى انطلقت من البربير باتجاه الاسكوا رُفِعَت فيها ثلاث صور ضخمة لكل من جمال عبد الناصر، وبشار الأسد وصدام حسين، والثانية انطلقت من المتحف إلى ساحة الشهداء رُفِعَت فيها شعارات معادية للديكتاتورية ومعادية للحرب الأميركية على العراق وكان اسم الحملة "لا للحرب لا للديكتاتوريات". وانقسم حينها اليسار حول هاتين المظاهرتين، فبينما شارك الحزب الشيوعي والأحزاب اليسارية القومية في الأولى، في حين ضمّت الثانية مجموعات من اليسار الجديد، والذي كان جزء منها يضم معارضين داخل الحزب الشيوعي اللبناني كمجموعة الطلاب الشيوعيين وغيرهم، وجزء آخر تشكل من تروتسكيين وآناركيين وغيرهم من المجموعات الشبابية اليسارية اللبنانية والفلسطينية.

لتلك المرحلة دلالات كبيرة في تاريخ القريب لتشكيل النسيج السياسي والفكري والتنظيمي لليسار اللبناني الحالي، وهي تشير إلى افتراق في مقاربة مسألة الصراع الوطني وعلاقته مع الصراع ضد الأنظمة العربية القائمة، فهناك من اعتبر الصراع الوطني هو الصراع المركزي، الذي يُخفِت صوت أي صراع آخر في حال وجد (كالحزب الشيوعي، واليسار القومي)، وغيرهم من اعتبر الصراع من أجل الديمقراطية والاصلاح هو الصراع المركزي ويخفت أي صراع آخر تحته، وأن دخول الامبريالية إلى المنطقة قد يحسن من ظروف هذا "الإصلاح" (كاليسار الديمقراطي على سبيل المثال لا الحصر). بينما خرج طرف ثالث من تلك التجربة، وضع مسألة النضال ضد الأنظمة القائمة، وضد الاضطهاد المحلي، على نفس المستوى والمكانة من الصراع الوطني، أي جزئين من سيرورة نضالية واحدة، لا تطغى واحدة على أخرى.

فمعضلة الديكتاتورية والامبريالية لم تكن فقط مسألة لبنانية أو عربية فقط، بل كانت مسألة عالمية لليسار بمجمله، وخاصة بعد انهيار التجربة الستالينية في روسيا، فلو كان هناك اعتقاد قبل انهيار الاتحاد السوفياتي بأن التوازن التنافسي ما بين السوفييت والأميركيين قد يشكل مساحة يمكن من خلالها تحسين ظروف التحرر الوطني، لكن عام ٢٠٠٣ لم تكن هذه المساحة موجودة أصلاً!

وهنا نرى الكثير من التجاذبات التي أجمع الكثير من اليسار حول العالم على  ردمها حينها حفاظاً على وحدة الحركة، تعود لتشكّل إحدى القواعد الاستراتيجية الأساسية لفرز موقف اليسار الحالي من الثورات العربية، والثورة السورية بشكل خاص، ونرى كيف أن التحالفات المناهضة للحرب حول العالم، وخاصة في أوروبا والولايات المتحدة انقسمت بشكل كبير حول الموقف من الثورة السورية، مما أدى إلى ان الزخم الشعبي الذي أنتجته في السابق تفتت بشكل كبير، بالإضافة إلى عوامل اخرى، من خلال طمر هذه التجاذبات، وأدى إلى انفصال اليسار الثوري الداعم للثورة حول العالم عن هذه التحالفات والحملات.

ونرى كيف أن إرث التجارب الماضية يرمي بنفسه بعنف على الحاضر، وأن منظر حسم التجاذبات الماضية الذي يجري اليوم حول هذه المسألة، والتي كانت يجب أن تحسم حينها، لا يبدو جميلاً، أو أنه لا يتم فعلياً بشكل رفاقي أو ديمقراطي، كما يعتب البعض.

فالموقف المبهم لليسار القومي والستاليني، وذلك اليسار التروتسكي المعادي للثورة (او كما يصفهم أندرو بولاك بالستالينيين الجدديعتمد بشكل أساسي على قراءة إمكانية التغيير في موازين القوى من خلال الكتل البرجوازية المتنافسة القائمة، من دون أدنى قراءة للتحولات الطبقية والتاريخية في النسيج الاجتماعي للدول التي يتكلّمون عنها، فيتم تصوير الصراع على أنه فقط صراع أحلاف، ما بين الأميركيين والنظام السعودي من جهة (الغرب والمتحالفين معه) وروسيا وإيران من جهة أخرى (الشرق)، ويصبح الخطر الوحيد هنا هو الغرب، باعتبار أن تاريخه الامبريالي أكبر من تاريخ الروس والإيرانيين، لن أبحث هنا فيما كانت أي من هذه القوى كانت أكثر أو أقل شراسة في امبرياليتها، كما يحلو للكثيرين المساجلة، لأن المسألة هي كيف نتحرر من الامبريالية، وليس إذا كنّا نفضّل امبريالية على اخرى.

فالامبريالية في المنهج الماركسي ليست صفة أخلاقية تعطى للسياسة الخارجية لبعض الانظمة، بل هي نمط من أنماط العلاقات الرأسمالية، فلتتحرك الجيوش والقواعد العسكرية والدبابات ومصانع الاسلحة، هي أولاً بحاجة إلى الرساميل التي تجعل من حركتها ممكنة، وللحجج السياسية والأيديولوجية التي تبررها، وإلى أجهزة الدعاية التي تستطيع أن تبني الرضى الشعبي عنها، وغيرها من الأمور.

لذلك، فإن التحرر من هذه الحروب لا يمكن أن يتم إلا من خلال مواجهة كل محركاتها الاقتصادية والأيديولوجية والسياسية والثقافية، في آن، والامبريالية هي اعلى مراحل التراكم الرأسمالي، وهي الوجه الأكثر وضوحاً للحرب التنافسية الضروس القائمة يومياً ما بين الكتل الرأسمالية الحاكمة، وليست فقط سياسة سيئة تتبعها بعض الدول الرأسمالية.

فالقضاء على الامبريالية لا يمكن أن يتم كمرحلة سابقة للقضاء على الرأسمالية، بل هما وجهان ضمن معركة ثورية واحدة، وهذا هو الفخ القومي الذي يقع فيه معظم اليسار الممانع واليسار المعادي للثورة، والذي يقول الكثير من المنتسبين اليه بأن على الشعب السوري "تأجيل معركته" ضد نظامه لحين الانتهاء من معركة "القضاء على اسرائيل". بالطبع هم ليسوا معنيين بإثبات هذه المسألة لا سياسياً ولا تاريخياً، ففي محاججتهم يتكلون بشكل كبير على الإرث القومي نفسه الذي أنتج الأنظمة القائمة، والذي برر في السابق تحالفهم معها في أكثر من محطة.

ففي كل هذا الكلام المختزل للواقع الثوري، وللأزمة التي تعاني منها مجتمعاتنا، إن لم نقل مجتمعات العالم، يختفي أي أثر لشعوب، أو أي حق لها بالتحرّك قبل أخذ الإذن من هذه الكتل الرأسمالية، أو التموضع إلى جانب واحدة ضد الأخرى.

هذه النظرة المشوهة لماهية الامبريالية وعلاقتها مع الرأسمالية، تتضح أكثر فأكثر في محطات أخرى من الحركة المحلية والعربية والعالمية المواجهة للامبريالية والاحتلال، ففي عام ٢٠٠٩، عقد منتدى بيروت العالمي للمقاومة، والذي جمع ما بين أحزاب المقاومة الفلسطينية (كحماس)، واللبنانية (كحزب الله)، والحزب الشيوعي اللبناني، والحزب السوري القومي الاجتماعي، وحركة الشعب وغيرهم مما يسمى "بالقوى والوطنية والاسلامية" وكما ضم المؤتمر ممثلين عن حركات مناهضة الحرب العالمية، من أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وممثلين عن جبهات مناهضة للعولمة.

وفي ذلك المؤتمر رفض الكثير من الأطراف اليسارية اللبنانية والعربية والعالمية الدعوة التي وجهتها منظمات يسارية لبنانية تروتسكية حينها إلى التوجه للاعتصام أمام السفارة المصرية، فانقسمت بعض الوفود الأوروبية وتوجه جزء منها إلى السفارة المصرية بينما بقي الآخرون عند رغبة حزب الله وحماس بعدم التوجه إلى السفارة المصرية.

وكانت تلك الدعوة إلى الاعتصام أمام السفارة المصرية نتيجة انفصال رفاقي حصل في الأيام السابقة للمؤتمر في الحركة الشبابية اليسارية، والتي اعتصمت في وسط بيروت اعتراضاً على الحرب الاسرائيلية على غزة، حول وجهة التحرك الاخير قبل فضّ الاعتصام، فتوجه جزء من الاعتصام الى السفارة الأميركية (الحزب الشيوعي واتحاد الشباب الديمقراطي)، بينما الجزء الآخر (مجموعة من التروتسكيين وبعض الناشطين الافراد) توجه إلى السفارة المصرية.

المفيد قراءته في تلك الحادثة، ليس حول مكانة كل من السفارتين الجغرافية، أو أحقية الاعتصام أمام إحداهما دون الأخرى، فلقد قام الاعتصام الشبابي بالاعتصام سابقاً على السفارات العربية والاجنبية، بل المسألة هنا هي أن الحجج التي استخدمت في السجال السياسي في المؤتمر وفي الاعتصام، عبرت عن اتجاهين مختلفين في مقاربة العلاقة ما بين الامبريالية، والديكتاتورية واتجاهين استراتيجيين مختلفين في مقاربة مسألة التحرر الوطني والتغيير الداخلي.

وانسحب ذلك لاحقاً على اختلاف ما بين اليسار على مستوى الموقف النقدي من حركات المقاومة، وخاصة تجاه الموقف من حزب الله وحماس، فكان المؤتمر حينها حتى في توقيته مناسب جداً لحزب الله لتقوية موقعه على الساحة السياسية اللبنانية الداخلية، وخاصة بعد مغامرته الأمنية في أيار عام ٢٠٠٨، والانتخابات النيابية التي أجريت في صيف العام ٢٠٠٩. ولذا كان من الضروري على حزب الله حينها حشد رضى عربي من جهة، وحشد دعم أممي، من قبل من سماهم المنتدى "بأحرار وثوار العالم المواجهين للامبريالية والنيوليبرالية وسياسات العسكرة والهيمنة"، والذي حددهم البيان الختامي للمؤتمر، في تفضيل دعمه لحق إيران بامتلاك السلاح النووي السلمي، ودعم هيوغو شافيز، والنظام الكوبي، وأهمية التجارة المتكافئة والتعاون الشامل بين دول الجنوب. وبالطبع دون توجيه أي نقد لأي من الأنظمة العربية القائمة.

إن تغييب مسألة الصراع ضد الحكام المحليين، ومحاولة "إقناعهم" بالعدول عن سياساتهم المجحفة ضد شعوبهم، تتمظهر في أكثر من موقف سابق لحزب الله حين وجه حسن نصر الله في كانون الأول عام ٢٠٠٨ (قبل اسابيع من انعقاد المؤتمر المذكور) رسالة "إلى الإخوة في مصر والحكومة المصرية والقيادة المصرية" وناشدهم بـ"فتح معبر رفح بشكل دائم ونهائي". وأضاف نصر الله: "ستحفظ الأمة والتاريخ للقيادة المصرية هذا الموقف فالالتزام باتفاقية المعابر لا قيمة له إذا كانت ستؤدي إلى مجزرة إنسانية".

وبالطبع فإن هذه المناشدة تكللت لاحقاً بتغييب نقد النظام المصري من البيان الختامي للمؤتمر أو أي نظام عربي آخر تواطأ مع إسرائيل في حربها على غزة.

بالطبع المشكلة هنا ليس موقف حزب الله، لأن حزب الله لم ولن يناصر يوماً الشعوب بمواجهة حكامها، كما يروج بعض اليسار من أوهام حوله، بل بسبب طبيعته البرجوازية، حيث يعتمد أولاً على دعم الكتل البرجوازية له، فحزب الله لن يخرج يوماً عن شبكة العلاقات التي تجمعه مع النظام الايراني والسوري، إلا اذا تمكنت منه التناقضات الطبقية والسياسية التي تحكم قاعدته، والتي قد تدفعها للخروج عن باب الطاعة للقيادة الحزبية والسياسية والدينية له. 

لكن المشكلة هي في مكان آخر حيث تكمن في انصياع الجزء الاكبر من اليسار الستاليني والقومي لهذه الاستراتيجية، والتنقل ما بين أطيافها دون نقدها، فعوضاً أن يدفع اليسار نحو نشوء قيادة عمالية للصراع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، كان دوماً ينصاع إلى دعم طرف برجوازي ضد آخر، رافضاً بشكل مباشر أي دور اساسي للطبقة العاملة في الحيز السياسي والفكري، بل قد ساهم بشكل أساسي في حصر نضالها في طبيعته الاقتصادوية والنقابية البحتة أي حصرها في الحيّز الاصلاحي، من دون أي مقاربة لبنية الأنظمة العربية القائمة.

وهنا الاشكالية الاهم في النهج الذي يعتمده هذا اليسار المعادي للثورة، الذي، وبحسب هذه الاستراتيجيا، يستبدل دور الطبقة العاملة في تحقيق التحرر والتحرير، بل أنه بسبب شعبويته سيدمج بين الشعوب والأنظمة العربية، وهذا الموقف لا ينحصر بمواقف اليسار الستاليني والقومي، إنما يمتد إلى مجموعات من اليسار المناهض للامبريالية في العالم الملتزمة عدم توجيه النقد للأنظمة العربية في مقاربتها لمسألة الامبريالية في الشرق الاوسط.

لذلك فإن الثورات العربية، والسورية خاصة، تحاكي في تناقضاتها وسيرورتها ذلك الإرث القديم لليسار التقليدي؛ رغم أن الحاضر نفسه قد اختلف جذرياً عما حصل في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وأن التنظيمات اليسارية الحالية في واقعها هي أيضاً مختلفة جذرياً عما كانت عليه في تلك الفترة.

بالطبع لسنا بصدد إنكار الأزمة هنا؛ نعم هناك أزمة، وإنكار هذا الواقع هو إنكار للثورة بذاتها، فالثورة هي، أولاً، تعبير عن أزمة تضرب المجتمع وأجهزته الفكرية والسياسية والثقافية، وهي، ثانياً، تعبير عن التناقضات المتفجّرة في أحشاء المجتمع، والتي لم تعد الأجهزة السياسية، والاجتماعية والأيديولوجية الحاكمة قادرة على احتوائها، هذه الظروف تشكل باختلافها المحركات المباشرة وغير المباشرة لانتفاضة الجماهير على واقعها.

ولكن انتفاضة الجماهير تلك تحمل معها ترسبات الماضي، ومخزونا كبيرا من الأفكار السياسية والفكرية والاجتماعية التي هيمنت على أفكار الكثيرين في المجتمعات العربية عبر العقود الماضية، والتي من خلالها تحاول أجزاء مختلفة من المجتمع استخدامها لفهم ومقاربة الواقع، وتناقضاته، ومن خلالها يتم محاولة تخيّل الحلول التي يمكن وضعها لتخطي الواقع الحالي نحو مستقبل أفضل.

وفي ظل هذه التحولات، والمحاولات المختلفة لمقاربة الاحداث، تصعد أصوات وأفكار مختلفة ومتناقضة، منها من يقول: "الاسلام هو الحلّ"، وآخر يقول "التدخّل الاجنبي هو الحلّ"، وغيرها ينفي الثورة من اساسها، ويعتبرها "مؤامرة امبريالية وصهيو-أميركية" يجب مواجهتها وآخرون يقولون "الشعب يعرف طريقه" للقول إن الجماهير بعفويتها ستصحح مسار الثورة، وغيرها من العبارات والمواقف.

لكن صعود هذه الأفكار والتقلبات الكبيرة التي تشهدها المنطقة في النسيج السياسي والفكري، ليست بالضرورة دليلاً على انتفاء الثورة، إنما تدل على وجودها، فتلك التقلبات لم تكن لتحدث أصلاً لو كنّا في واقع متجانس، لذا اولاً إن اعتبار الثورة إما تكون يسارية أو لا تكون هو أقرب الى منطق التمني من الواقعية. فالجوهر الطبقي للثورات العربية، لا يجب ترجمته تلقائياً كونه جوهراً يسارياً، بل كونه مساحة يستطيع اليسار من خلالها استقطاب الجماهير الى مواقف يسارية، وهنا تقع المعضلة الأساس في مقاربة وجهة نظر اليسار التقليدي (الستاليني والقومي خاصة) لمسألة الثورة بشكل عام والثورة السورية بشكل خاص، وهنا تقع صلب أزمة اليسار تلك التي كثر الكلام عنها.

فالحجج المستخدمة عادة من اليسار الستاليني والقومي لنفي وجود ثورة في سوريا، هي بالقول أنها أنتجت داعش، وأن المعارضة السورية تلتجئ إلى القوى الامبريالية وتناشد تدخلها، وغيرها من الحجج، وبالطبع تراهم يزايدون بكل عنفوان لـ"عدم وقوفهم الى جانب نظام الاسد"، ولكونهم يعون للمؤامرة القائمة "على سوريا"، و"الحرب التي تشنها الامبريالية على سوريا والمقاومة".

ومجمل هذه الحجج تفترض ان الثورة تسمى ثورة فقط ان انتهجت الجماهير بعفويتها نهجاً تحررياً يسارياً، أو مراحل حددها هؤلاء اليساريين المزعومين سابقاً، وبالطبع ولأن الجماهير العربية لم تسمع جيداً ولم تتبع هذه الخطوات، فإذا، بطبيعة الحال، وحسب منطق هذا اليسار، فإنهم يفقدون الحق بالثورة.

والمشكلة هنا ليست نتيجة لموقف سياسي خاطئ فقط، بل هو نتيجة لمنهج أيديولوجي بائس يسمى زوراً منهجاً يسارياً او ماركسياً، وهو منهج تعتمده معظم الأحزاب اليسارية الستالينية والقومية منها، وهو منهج ينظر من جهة إلى كون الوعي الثوري هو نتيجة عفوية مباشرة لحركة الجماهير، ومن جهة أخرى لا يرى الثورة إلا في كونها محدودة في مساحة سياسات الأحلاف الجيواستراتيجية.

مسألة الوعي في الفكر الستاليني والقومي

هناك تشويه كبير للنظرية الماركسية في مقاربة مسألة الوعي من قبل هذا اليسار الستاليني والقومي، والوعي الطبقي بشكل خاص، فاعتبار أن الوعي الثوري هو نتيجة مباشرة للثورة، وانعدام وجوده هو دليل عن انعدام وجود الثورة، هو دليل عن قصور في فهم النظرية الماركسية قبل كل شيء، وليس فقط مقاربة ماركسية سيئة لماهية الثورة أو الوعي.

لذلك فإن الأزمة التي يواجهها اليسار العربي حالياً ليست أزمة للماركسية بحد ذاتها قبل أن تكون أزمة لرواية معينة من الماركسية، اعتمدت قبل كل شيء على تحويل الماركسية من "نظرية لفهم النظرية، ووعي للوعي نفسه، ونهج للنقد التاريخي"، إلى نظرية تحاول تثبيت السائد، وتبرير التحالفات مع السلطة لسبب انعدام الوعي الثوري.

بالطبع بالنسبة لأجزاء كبيرة من اليسار العربي، الستاليني والقومي خاصة، كان هذا الواقع أحد أبرز الحجج التي استخدمت لتبرير مواقفهم الرافضة لتلك الثورات (رفض اليسار الستاليني والقومي اعتبار ما يحدث في سوريا أو ليبيا ثورة)، أو تبرير انحيازهم لأحد أقطاب السلطة أو العسكر (انحياز اليسار المصري التقليدي إلى جانب العسكر بمواجهة الإخوان المسلمين، أو انحياز الحزب الشيوعي اللبناني إلى جانب حلف ٨ آذار، خاصة حزب الله بمواجهة قوى ١٤ آذار)، أو إلى جانب إحدى التحالفات الإقليمية القائمة (انحياز اليسار الليبرالي للتدخل الاميركي في العراق وسوريا، وليبيا، كما انحياز اليسار الستاليني والقومي لتدخلّ ايران وروسيا في سوريا، الخ…).

ولكون هذا اليسار يشكل جزءاً من هذا الواقع، فعليه أيضاً مواجهة هذه الأزمة، بكامل تشعباتها وأبعادها، وبناءً على موقفه ومقاربته لتلك الازمة، فهو إما يعيد انتاجها في بنيانه الحزبي والسياسي، أو يتصالح معها ويهادنها، أو يسعى الى تخطيها من خلال تموضعه في الواقع الثوري الجديد.

من هنا فإن أزمة اليسار، لا تأتي من كون أن الثورة "أنهت الفكر الماركسي" كما يروج البعض، أو أنها أزمة "الفكر الماركسي نفسه" بل هي فعلياً أزمة مزج أو اجتهادا معيّنا للماركسية، وفي الكثير من الأحيان تصل إلى حد التشويه النظري الكامل. فطالما أن بنى المنهجية الماركسية لا زالت قادرة حتى اليوم على تفسير الازمة التي تعصف في مجتمعاتنا، ومعرفة كيفية مقاربتها، وطالما ان هناك عمل دؤوب من ماركسيين وماركسيات لتطوير النظرية الماركسية لتستطيع مقاربة الواقع الجديد، فهذا كله دليل على الحياة، وليس إعلاناً للموت.