عن شهر اعتقال لدى داعش
15 يناير، 2015
أحمد إبراهيم
لم يكن صباح 1072013 صباحاً عادياً، كان أول أيام شهر رمضان، وكانت قوات النخبة لتنظيم ’الدولة الاسلامية‘ تحاصر مبنى ’المجلس المحلي لمدينة تل أبيض‘ بقيادة «الأمير أبو مصعب» (خَلَفَ الذياب الحلوس).
اختطفونا واحداً واحداً ووضعونا في سيارة نقل ركّاب صغيرة. كان أغلبنا نحن الستة قد ركب بها سابقاً إذ كانت تعود لفرع ’الأمن السياسي‘ في مدينتنا الحدودية الصغيرة. قيّدونا بقيود حديدية إلى الخلف، وعصّبوا عيوننا، وساروا بنا في كل شوارع المدينة، السيارة كانت تمشي ببطء وأبوابها مُشرَعَة، وهم يكبّرون.
بعد هذه الزفّة المحترمة أخذونا إلى مقرّ التنظيم، وهو عبارة عن مخفر سابق بين مدينة تل أبيض وبلدة عين العروس، وهناك قام «أبو مصعب»، راعي الغنم الذي لم يتجاوز تعليمه الصف الثالث الابتدائي، باستعراض طريقته في إذلالنا. أثبت، وبالدليل القاطع، للموجودين حوله من عناصره وممن صدف وجودهم في المقر أننا ثلة من المرتدين والكَفَرَة الزناديق والعلمانيين والعياذ بالله، وأن ’الدولة الإسلامية‘ إنما جاءت لتطبيق شرع الله، وأن هؤلاء العلمانيين الأنجاس هم من يقف في وجه إقامة دولة الخلافة.
أميرا الأَمْنيّات 1 أبو بكر (حبيب النجم) وأبو عمر (مصطفى الجاسم العمر، الشهير بالتمساح) أعادا تكبيلنا وتعصيب أعيننا، ونقلونا إلى الرقة المدينة، وتحديداً إلى مقر قيادة التنظيم في قصر المحافظة 2 .
نزلت السيارة داخل قبو القصر فهبّت علينا رطوبة خفّفت من حرّ القيظ، مختلطة بأصوات عدد كبير من الناس الذين يتعرضون للتعذيب، وأحياناً صوت طَلَقَات وأنين، وصوت ارتطامات متكرّرة افترضتُها لأجساد ورؤوس على الجدران.
أجلسونا على كراسي في ممرّ طويل. كان جميع الذين يمرّون أمامنا مقنّعين، ومن كان يتفاجأ بوجودنا كان يسارع إلى وضع قناعه.
الثالثة عصراً، وبعد انتظار حوالي ساعة جاء رجل ملثّم، وضع كرسياً مقابلنا وجلس. عرفتُه من عينيه ومن صوته: «الأمير أبو الهمام» (محمد اليوسف) مدرّس الرياضيات وابن أخ إبراهيم اليوسف بطل مذبحة مدرسة المدفعية 1980 3 .
تحاورت أعيننا، ولكنه تنكّر لمعرفتي، عرفتُ ذلك من عينيه. بدأ حديثه هادئاً واثقاً، تكلم عن إقامة شرع الله وإقامة دولة الخلافة، تكلم عنا أننا مغرّر بنا، وأنه يجب أن نعود إلى ديننا. شَرَحَ واستفاض عن مدينة الرقة الكافرة الفاجرة، وأنهم إنما جاءوا ليُدخلوها الإسلام. كرّر جملة: «والله ما جئنا إلا لنصرة هذا الدين وإقامة شرع الله ودولة الخلافة» أكثر من عشرين مرة.
لا أدري لماذا فكرت بصلاة أمي وأبي.
بقيت عيناي تحاوران «عيونه» التي كانت تلوب المكان كعينَي ذئب، وكان كل مرة يُشيح ببصره إلى اتجاه آخر.
لم يسمح لنا بالكلام، رغم كل محاولاتنا لشرح وجهة نظرنا كأعضاء منتخَبين في ’المجلس المحلي لمدينة تل أبيض‘، ورغم كل الخوف والهلع الذي كنا نعيشه أحسست أنني انتصرت عليه بمعركة العيون. تدخّل شخص آخر، صغير الحجم طفولي الصوت، وعرفته بدوره: إنه علاء المطرفي الذي يعاني من نقص نموّ، وهو الآن أحد أكبر أمنيّي تنظيم ’الدولة‘ ومسؤول عمليات خطف الناشطين، هو و«أبو أنس العراقي».
بدأ حديثه بحِدّة أكبر من سابقة، وهدّد وتوعّد: مجتمع مدني، حرية، ديمقراطية، أحزاب…، كذبات اخترعها الغرب الكافر ليحارب بها الإسلام! عودوا إلى دينكم! توبوا، وسنقبل توبتكم! تابع: رغم الظرف الصعبة، ورغم كفركم سنترككم اليوم، ولكن تأكدوا أنكم تحت المجهر!
لم يصدق أحد منا نحن الستة أننا خارجون من هذا الجحيم. كنا نتعثّر ببعضنا على الدرج وحتى السور الخارجي، وهناك ركضنا كالأطفال. لم نحلّل القضية كعادتنا، بل ضحكنا بشكل هستيري محاولين تقليد ذاك «الأمير» ذي الصوت الطفولي.
كان موعد الإفطار قريباً حين وصلت الحافلة التي أقلّتنا. قرّرنا أن نكون ضيوفاً عند فراس الحاج صالح 4الذي أكرم وِفادتنا، ليس لأن أحد إخوته كان منّا ومعنا بل لأنه كريم مضياف، وثوري حتى العظم، وصديق الجميع.
ركبنا الحافلة الصغيرة، ولم نكن نعرف أن السائق أحد عناصر التنظيم، واتجهنا شمالاً إلى تل أبيض، وفي الطريق ناقشنا خطة العمل القادمة: الهروب أم الاستمرار؟ تم التصويت في الحافلة، وكنا 5 مع الاستمرار و1 مع الانسحاب.
ولكن عند وصولنا تل أبيض قام التنظيم بخطفنا مرة أخرى، ومن جديد يقوم بتكبيلنا وتعصيب أعيننا بعد أن يطلق سراح الذي صوّت للانسحاب، ثم يضعنا في الحافلة نفسها ونتحرك عند العاشرة ليلاً إلى جهة مجهولة.
ربما ثلاث ساعات وتوقفت الحافلة. أنزلونا واحداً تِلوَ الآخر، أزالوا العصبة عن أعيننا. بَهَرَنَا ضوء ساطع من غرفة فُتِح بابها الحديدي ذو الدرفتين على مصراعيه. يجلس على الباب ملثّم يضع على ركبتيه سجلّاً كبيرًا، وداخل الغرفة عدد كبير من الأشخاص الراكعين على ركبهم، ظهورهم إلينا وأيديهم معقودة بتشابك خلف رؤوسهم. طُلب من أوّلنا أن يتقدم قرب صاحب السجلّ الذي نظر مستفهماً باتجاه «أبو مصعب» الذي بادره: سجّل، هذا كافر وضد إقامة شرع الله! ورَفَسَه رفسة أوصلته فوق الراكعين داخل الغرفة. واستأنف: سجّل، هذا مرتدّ لا يقبل بدولة الإسلام! وألحقه برفسة. ثم: سجّل، هذا علماني! وهكذا تم تسمية التّهم خلال دقائق. انتهت الحفلة وأُغلق الباب علينا مع من كانوا قبلنا.
كنا مكسورين، مكبّلين، وبدأت نظراتنا تلوب المكان مستكشفة غرفة أبعادها ربما 5×6 متر، ذات إضاءة باهرة جداً، في زاويتها من يسار الباب طاولة قذرة اصطفّت فوقها قدور وأواني طبخ وصحون، وتحت الطاولة سخانة كهربائية، وفي الزاوية المقابلة مقعد خشبي طويل دون مسند، عليه عدد كبير من المصاحف وكمية من النشرات الدعوية، وكسرة مرأة ومشط قذر. يعشعش العنكبوت في كل الزوايا، وفي السقف تدور مروحة شفراتها ملوية للأسفل وتصدر صريراً عالياً يضغط مباشرةً على العَصَب.
التهمْنا المعتقلين القدامى بالأسئلة، وكانوا كلهم معاً عما يحدث بالخارج، بل إن بعضهم مارس علينا عقدة الأقدمية. رويداً رويداً بدأ أمان مزيَّف يسيطر علينا، وحلّت طمأنينة كاذبة محل الخوف.
أين نحن؟؟ تجرّأتُ وسألت بصوت مرتجف. أجابني أكثر من صوت: سدّ البعث في المنصورة، غرب الرقة بـ30كم. أعطَونا مكاناً قرب زاوية الطبخ فافترشنا الأرضية الإسمنتية القذرة والدسمة، وبدأ التحقيق من قبل المعتقلين معنا: «شنهو التهمة تبعكم؟»، وتلته جلسة إصدار الأحكام، فالأقدم عنده معرفة بأحكام كل التهم. وما زاد الضغط النفسي علينا أن أغلبهم «حَكَمَ» علينا بالقصاص، وأعتقد أن تقديرات الأحكام هذه نوع من ممارسة للسلطة يقوم بها الأقدم ليعطي لنفسه أماناً زائفاً: هناك أُناس «جرائمها» أكبر من «جريمته».
طقطق المفتاح بالقفل الخارجي للباب. نهض الجميع بسرعة عجيبة وركعوا على ركبهم وأداروا وجوههم على الحائط، وأيديهم مرفوعة فوق رؤوسهم، لم نجد بدّاً من أن نفعل ما فعلوا. «يالله، وقت الصلاة!»، قالها الملثّم وطلب أن ندير وجوهنا باتجاه الصلاة.
هناك طقس آخر لا يعرفه من فرضه بل من وقع عليه الفرض. تبدأ الطقوس بالذهاب إلى الحمّامات للوضوء، وتبعد الحمامات 20م عن باب غرفة التوقيف التي تقع هي والحمّامات ضمن صندوق مفتوح من غرف متلاصقة هي بالأصل ورشات صيانة في سدّ البعث. الصندوق مفتوح باتجاه الشمال حيث محطة تحويل الكهرباء الأساسية للسد.
يصطفّ الجميع بشكل ملاصق للحائط داخل الغرفة. يقف الأول بالباب، هناك ملثّم بجانب الباب، وملثّم بوسط الساحة التي يتوسّطها كومة من البحص، والملثّم الثالث عند باب الحمّامات. معك دقيقتان لتستخدم التواليت وتتوضأ، وتعود، وإذا تأخرت يتم تسجيل الاسم ليتمّ جَلدك لاحقاً. يبدأ سباق التتابع بطلقة من بندقية الملثم الواقف عند الباب، ثم طلقة بين رجليك من الذي في وسط الساحة، وعند باب الحمامات الذي يجب ألا تغلقه الطلقة الثالثة، والتوديع بمثل ما استقبلت به.
الصلاة جماعة، والملثّمون يراقبون طريقة الصلاة ليقطعوها كل حين حتى يُعلَم هذا الكافر أو ذاك من من صلاته الحقّة.
أُغلق الباب من جديد. 1172013.
صباح اليوم الأول، العاشرة صباحاً، سمعنا صوت المفتاح بالقفل، حفظنا الدرس: على الرُّكَب، وجوهنا للحائط، أيدينا مرفوعة، لا يحق لأحد أن يُدير وجهه إلا عندما يسمع اسمه: إذن يرفع يده اليمنى وينتظر الأمر بأن يدير وجهه.
طُلب منا جميعاً أن نُدير وجوهنا.
أربعة ملثّمين يُحيطون بشخص كاشف الوجه ذي لحية حمراء طويلة، في نهاية الأربعينات من عمره، يحمل بندقية روسية قصيرة ويزنّر خصره بحزام ناسف أبيض اللون، وعُلّقت بالحزام قنبلتان يدويتان. عرفنا فيما بعد أنه «أبو علي الشرعي» (فوّاز العلي) رئيس ’الهيئة الشرعية‘ لتنظيم ’الدولة‘، ومقرّه بلدة المنصورة، وهو من مدينة الكرامة.
أشار الشيخ أبو علي باتجاهنا، فتقدّم حامل السجلّ من الخلف، قرأ الشيخ التهم وهو يمسّد لحيته، وهمس أحدهم في أذنه فتركَنا، وأشار إلى شخص اسمه عبد الرحمن في الخامسة والعشرين. زحف عبد الرحمن باتجاه «الشيخ»؛ زحف لأنه محطم الأضلاع ومنزوع الأظافر من حفلة سابقة. عبد الرحمن يعمل بائع محروقات على الطريق العام بعد أن يقوم بتصفية البترول الخام بواسطة حرّاق يدوي، وهو متّهم بأنه ومجموعة معه يخطّطون للقيام بمظاهرة ضد «الدولة». لم أشهد ولم أسمع ولم أتخيّل في حياتي شخصاً يتعرّض لهذا القدر من التعذيب الذي تناوب فيه أبو علي وملثّموه الأربعة. حملوا عبد الرحمن، وألقَوه كخرقة بالية في زواية الغرفة: «ولك يا عرصة، هاذ ربع اللي شفناه بصيدنايا!». وجيء بشخص آخر يكنى «أبو صالح»، طُلب منه أن يعترف كيف ساعد ’الجيش الحرّ‘. أيضاً تم جلده وقُطع إصبعه الذي أشار به إلى «الشيخ» بأنه ظالم. وهكذا تابع التحقيق مع الكل وأمام الكل ما عدا نحن الخمسة.
حل مساء 1172013 وحان وقت صلاة التراويح. وافق «أبو المقدام»، أمير السجن، أن تقام الصلاة بالساحة. أَمّ أحدنا الصلاة، كان صوته جهيراً، ويحفظ أجزاء كثيرة من القرآن. أدهش الإمام الملثّمين الذين تحلقوا حولنا عند انتهاء الصلاة مستغربين معرفتنا للصلاة وترتيل إمامنا: «إنتم تْصَلّون وتِحفظون القرآن وتْجوّدونه… شلون إنتم علمانيين»؟؟
117 مساءً طُلبنا للتحقيق من قبل والي الدولة، «الأمير الشيخ أبو لقمان» (علي الشواخ) ومعه «أبو حمزة الرياضيات و«أبو علي الشرعي» و«أمير السدّ أبو بكر». في لحظات الخوف، ولا شيء سوى الخوف في لحظة التحقيق هذه، ومعه الرغبة الشديدة للتعلق بالحياة، يرفع أحدهم جهاز آيباد أمام وجه الشيخ: «شيخي شوف أخوه شو كاتب!». قرأ الشيخ باهتمام، وقال: «هاد واحد علّاك، بس رح نجيبو! هاد اللي مسمّي دولة الخلافة داعش!».
لا أدري أكان صوت الشيخ أعلى أم صوت دقّات قلبي التي كنت أسمعها بوضوح. رغم ذلك، ورغم كل الأدرينالين الذي أنتجه جسدي، لم أسمح لهم بشم رائحة الخوف عندي.
واضح من التحقيق أننا سوف يتمّ رمينا في نهر الفرات أو بحيرة السد، إن لم نرجع الى الله: «يا شيخي، وحياة الله إحنا ما دشّرناه! 5 ».
ولكن ذلك لم يحصل، وبقينا شهوداً بُكْماً على ما يحدث.
توالت الأيام على هذا المنوال: تعذيب، جلد، شَبْح 6 ، ذبح، وإعدامات، عالم بلا خصوصيات لأحد ولا أسرار. الوقت آسِن.
صباح 1572014 ينادى على ثلاثة من مجموعتنا، يُغلَق الباب خلفهم، ولا نعرف أين ذهبوا. قيل لنا إنه أفرج عنهم، وفي اليوم نفسه مساءً، يتندّر أحد المعتقلين على الشرعي «أبو علي»، مشبّهاً إياه بـ«طاش ما طاش»، شخصية أحد المسلسلات الخليجية. في صباح يوم 167 تم إعدام أبو صالح الذي سبق أن قُطع إصبعه، وهو أب لسبعة أطفال قُتل بطلقة في الرأس أمام الجميع. عند إغلاق الباب بدأت عيوننا تبحث خلسةً عن الكاميرا السرية المركّبة بالغرفة.
صباح 177 أُحضر أخوان من مبنى المحافظة، يعملان بتجارة الأحذية في محل لهما عند دوار الساعة، وهما من اللاذقية ويقيمان بالرقة منذ 1985. بدأ التحقيق أمام الجميع. كالعادة أخرج الأخ الأكبر أوراقاً، بعضها ممهور بخاتم إسلامي، وبعضها بجناحَي نسر ’الجيش الحرّ‘، هذه من ’جبهة النصرة‘، وهذه من ’أحرار الشام‘، وهذه من ’المجلس العسكري‘، وووو «يا شيخي والله نحنا مسلمين، وليس لنا علاقة بالنظام!». كان كفّ الأمير أسرع إلى وجه الرجل من كلماته، فكان أن تهاوى كومة على الأرض. حاولوا إسعافه، لكنه كان قد مات! كان أخوه يقف وقفة عسكرية وملامحة الخشبية لا توحي بأي تعبير، ولكن دمعة نزلت رغماً عنه. انتبه أحد الأمنين عليه وأشهر مسدّسه وقال: «لم ترحمونا بصيدنايا، وتبكي بدّك الرحمة!؟» وأطلق رصاصة بين عيني الرجل فتناثر فتات المخ والعظم وقطرات الدم على وجوهنا، دون أن يجرؤ أحد منا أن يُبدي أي تعبير على وجهه أو أن يمسح ما عَلِقَ على وجهه.
صباح 1872013 جيء بشخص اسمه خليل الحليسي، يعمل ممرّضاً في مشفى التوليد، وهو من حي المشلب. تهمته لقطة فيديو على جوّاله من عام 2007 حسب أقواله تجمعه مع صديقة له، استمتع الشيخ أبو علي بالمقطع من نظرة شَبَق في عينيه ومن طلبه من مرافِقِهِ إعادة الفيديو أكثر من مرة. ثم أصدر عليه حكم إقامة حدّ الزنا؛ وانتهت المحاكمة بأسرع من شهوة الشيخ الشبق. اقتيد خليل لجهة مجهولة، ثم لنرى في اليوم التالي مقطع فيديو على جوّال الشيخ الذي تعمّد أن يمرّره على كل واحد منا لنكون مرة أخرى شهوداً بُكماً على جريمة جديدة باسم الإسلام.
مساء اليوم ذاته سمعنا صراخاً وأصوات جَلد خارج غرفة التوقيف، أعقبتها أصوات إطلاق نار كثيف. نكتشف صباح اليوم التالي ثلاث جثث قيل لنا أنها لـ«صحوات» ’الجيش الحرّ‘ (كتائب ’أحفاد الرسول‘)، وقد بقيت الجثث ملقاة على الباب حتى صباح 207 عندما طُلب من الخمسة الأوائل من اتجاه الباب رَبْط الجثث بأمراس من النايلون المجدول ذات لون برتقالي، ثم شدّها بثقّالات من كتل الإسمنت لها حلقة من الأعلى تستخدم لتثبيت أغطية أكداس الحبوب. حُملت الجثث المنتفِخة المشوَّهة والمخترقة بأكثر من عشر رصاصات على الأقل لكل واحدة بسيارة بيك-آب لونها أبيض، وألقي شهداء ’الجيش الحرّ‘ في بحيرة السد.
صباح 2372013 طُلب مني ومن شخص آخر أن نرعى شخصين في غرفة أخرى، كانا وحدهما فيها، وأطرافهما العُلْوية متيّبسة ولا يستطيعان استخدامهما نتيجة شبْحهما فترة تجاوزت الخمسة عشر يوماً على ما يذكران. الرجلان كانا «يرعيان» الأكل كالأغنام، نظراتهما زائغة، ولا يستطيعان استخدام المرحاض من دون مساعدة، وهما متّهمان بمساعدة ’الجيش الحرّ‘، ولكنهما يقولان إن المسألة شخصية مع «أبو علي» الذي ينتمي وإياهما إلى العشيرة نفسها.
هناك تتحول إما إلى إنسان أناني بالمطلق، لتتشبّث بما يُعتقد أنه حياة، فتكون جلفاً قاسياً حيوانياً، أو تكون قدّيساً في زحمة الحيونة الآدمية التي فُرضت عليك. كانت رعايتي لهذين الشخصين هي ما أعادت إليّ جزءاً من إنسانيتي المسلوبة.
مساء اليوم ذاته بعد صلاة التراويح، فُتح الباب على غير العادة، وجيء بكرسي وُضع في مدخل الباب مباشرة. توجّس الجميع… تبادلنا النظرات واستعدّت أجسامنا وتوتّرت لاستقبال وجبات جديدة مما تعلّمه «الأمراء» في صيدنايا. ولكن خيبة الظن فرضت نفسها، وهي من الحالات النادرة ألا تكون هناك وجبة مسائية من الجلد والتعذيب، ولكن ما حصل لم يقلّ ألماً عن التعذيب، حيث أتحفنا الشيخ «أبو علي» بفهمه السياسي عبر النشرة التي استعرض فيها فهمنته السياسية على أُناس يجب أن يرى موافقتهم على كلامه بهزّ رؤوسهم، وإعجابهم بفكره السياسي بنظرات إعجاب من عيونهم. ذكرتني كلمة الشيخ بخطابات حافظ الأسد. أعلمنا أنه منذ البارحة 227 بدأت معارك طاحنة بين قوات ’الدولة الاسلامية‘ وقوات «مرتدي البَكَكَة» 7 في تل أبيض وما حولها، وأنه تم أسر أكثر من 80 شخصاً من تل أبيض لمبادلتهم بالأمير أبو مصعب (خلف الحلوس) الذي أَسَرَتْه قوات البككة. انتابتني موجة فرح عارمة، كدت أفضح نفسي، لكن سرعان ما لُمت نفسي على أنانيتي تجاه عدد كبير من المدنيين مقابل حسابي الشخصي معه. إلا أن الفرحة ظلت داخلي.
قفز شيخنا فوق مواضيع عديدة دون أن ينهي موضوعاً واحداً. كان أغلب حديثه موجّهاً لنا، أنا ورفيقي. خَتَمَ عند السحور بقصته في سجن صيدنايا. كانت مثانتي على وشك الانفجار لأنه من المستحيل أن يُسمح بالذهاب إلى دورات المياه والشيخ موجود، رغم أنه هو ذهب عدة مرات.
تتوالى الأيام متشابهة بحرّها وألمها.
صباح 2772013 أُعدم حسن الشريدة، وهو تاجر أغنام، بطلقة بالراس من الخلف. وفي اليوم نفسه بعد الظهر أُعدم إياد محمود من معرّة النعمان، وهو صاحب محل أحذية عند دوار الساعة في الرقة، واتُّهم محمود بإخفاء الأخوين السابق ذكرهما من اللاذقية.
ظهيرةَ 3072013، رأينا سيارة تاكسي سوداء تقف تحت مظلة محطة معالجة المياه المقابلة لمكان تنظيف الأواني والثياب، حيث كنت أقوم وآخرين بأعمال السِّخرة 8 . في البداية لم أنتبه لها، ولكن أحد رفيقي لفت انتباهي إليها: واضح تماماً أنها كانت تُعدّ للتفجير من كمية المتفجرات والأسلاك التي كانت توضع في أبوابها وكراسيها.
مساء 382013 أنهى الشيخ الأمير والي الرقة أبو لقمان مرة أخرى جلسة تحقيق علنية مع الجميع وأمام الجميع، ترافقت بحفلة نزع أظافر يد واحدة لشخص كان يعمل كحارس مدني لغابة باسل الأسد غير الموجودة سوى على الورق، مُطالبِينَه ببندقية كان يحرس بها الغابة الوهمية. في الجلسة ذاتِها طلب منا الوالي مبايعة دولة الخلافة بمساومة تذكّر بمساومات مخابرات نظام الأسد لمعتقليها. كان اختيار الجُمَل المناسبة للرفض تحدياً كبيرًا للذات، ولردّة فعل الوالي الذي أمهلنا يومين للتفكير.
وتحدث لنا بعد ذلك عن المعركة التي بدأت أول أمس مع «أحفاد الشيطان» من صحوات «الجيش الكرّ» من «عملاء الكفار»!
صباح 582013 كان دوري بتنظيف الأسماك التي يصطادها «الإخوة السعوديون» من النهر بواسطة القنابل اليدوية، حيث يُلقي كل واحد منهم أربعة أو خمسة قنابل بمجرى النهر بلهو أطفال وتمثيل معركة، ولا يجمعون منه سوى الأسماك الكبيرة التي نقوم نحن المعتقلين بتنظيفها تحت حراسة أحدهم، وهو يُتحفنا بسيرة بطولاته.
مساء 782013 كانت وقفة عيد الفطر، الليلة الأخيرة من رمضان التي أَمِلنا أن تكون آخر أمسية لنا في سجن سدّ البعث في المنصورة. مرة أخرى، الوالي أبو لقمان أصدر حُكمَين بالإعدام على شابّين جيء بهما صباحاً على أنهما من فصيل ’أحفاد الرسول‘، كما أُفرج عن تسعة أشخاص، وبقينا خمسة.
صباح 882013 أول أيام عيد الفطر، لا رغبة لأحد بالحديث مع أحد. صمت مطبق تقطعه بين الفينة والأخرى أصوات عجلات سيارات الدفع الرباعي التي تعبر الساحة الخارجية.
مساء 1082013 الواحدة ليلاً، استيقظت على وخزات متلاحقة من زميلي، فتحت عينيّ وأنا ممدّد، وعرفته من «شحاطة» البلاستيك الصفراء التي يرتديها دائماً: الوالي أبو لقمان، ومعه أبو علي الشرعي، وأبو بكر أمير السد، وأبو الهمّام الأمني! قفزت كالملسوع، وأنا متوجّس… حُكم على حسن ورضا بالإعدام على خلفية قتلهما لشخص من المهاجرين نتيجة خلاف زواجه قسراً من أخت أحدهما. زاد خوفي عندما سأل الأمير أحد الحراس أن يأتي لنا بأماناتنا.
مرت دقائق طويلة قبل أن يأتي الحارس.
قال لنا أبو لقمان: «ما تَرَوننا فاعلين بكم؟» قالها مبتسماً، وملتفتاً لمن حوله. حاولت أن أبتلع ريقي، ولكني لم أنجح، وكذلك لم أنجح في أن أرفّ بجفني. لقد أصابتنا الجَمْدة.
«اذهبوا فأنتم الطلقاء»! أحسست أني بلعت هواء الفرات كله، وانفتح سقف الغرفة. كانت النجوم أقرب كما لم تكن يوماً. لحظات لا أعرف طولها… وعدت للواقع.
رفضت وزميلي الخروج، فنحن اعتُقلنا بلا سبب، ولا نريد الخروج دون معرفة لماذا اعتُقلنا. استغرب الجميع ذلك، وأعتقد أننا فرضنا بموقفنا هذا نوعاً من النّدّيّة التي ربما كانت لتودي بسهولة بحياتنا.
أقنعنا «أبو علي» أن نركض الى تل أبيض قبل أن!..
وخرجنا من جوف الغول.