“بلدانية” الحروب العربية المتنقلة


عيسى الشعيبي

من بين المعارف الجانبية الكثيرة التي تحصلت عليها عامة الناس عرضا، في سياق متابعاتها اليومية لسير المعارك الناشبة في غالبية بلدان “الربيع العربي”، كان تعرف المعنيين على أسماء المواقع والقرى والبلدات التي تردد ذكرها على شاشات التلفزيون مرارا، وملأت مفرداتها الأسماع على مدى السنوات الخمس الماضية تكرارا، الأمر الذي بدت معه نشرات الأخبار كدليل إرشاد ميسر، لاكتشاف عمق أعماق الجغرافيا العربية المجهولة.
ربما كانت انتفاضة الحجارة المجيدة، العام 1987، أول من قدم لنا كشفاً تفصيلياً مبكرا بأسماء الأحياء المنسية والقرى الطرفية في الضفة الغربية وقطاع غزة، بعد أن تكرر وقوع الاعتصامات والمواجهات في مختلف الأماكن والشوارع والضواحي التي كانت تجري فيها فعاليات الانتفاضة، وهو ما جعل حتى أكثر المنخرطين في العمل الوطني الفلسطيني يعيدون اكتشاف بلدانية فلسطين بصورة أشمل من أي وقت مضى.
غير أن تضافر أمد الحروب التي اشتعلت في العديد من البلاد العربية مؤخراً، وانفجار ثورة الاتصالات بصورة أعظم من ذي قبل، أديا لزيادة مساحة المعرفة، وتيسيرها لكل راغب في الاستزادة، بمن في ذلك أبناء البلاد المنهمكة بالقتل والقتال، ممن لم تقع على مسامعهم، قبلاً، مسميات قرى وتجمعات سكانية، بدت لهم وكأنها طالعة من جغرافيا قصية لم تكتشف بعد.
وبحسب قائمة طويلة من أسماء تلك الأماكن والنواجع التي مرت عليها المعارك الجزئية المتقطعة، فإنه يمكن القول إن بلدانية كل دولة عربية تنطوي على ما يشبه الشخصية الاجتماعية المميزة لها، وأن تسميات تجمعاتها تعكس الموروث الثقافي الخاص بجغرافيتها، وربما درجة تطورها المدني، وشبكة مكوناتها العشائرية والحمائلية، وفوق ذلك المزاج العام السائد لديها؛ إذ بدت تلك التسميات على صلة وثيقة بالتضاريس والطبوغرافيا، ووسائل الإنتاج الرعوية والزراعية، ناهيك عن الأصول القبلية والتاريخية.
في العراق مثلاً، تجلت خلال سنوات الحرب الدامية الطويلة، أسماء أقضية ونواحي ومديريات وقرى، تشخّص في مجموعها صورة مجتمعية عراقية متطابقة مع الموروث الاجتماعي والسيرة التاريخية، وتمظهر عناصر هوية شديدة الشبه من المكونات المذهبية والعرقية، ومتماهية في مجملها مع الطبيعة الصحراوية الخشنة، لاسيما في الأنبار، حيث لكل عشيرة منطقة تسمى باسمها، كالبونمر والبوفهد والبوذياب، وغيرها من الأسماء الدالة على رابطة عصبية مغلقة.
وفي سورية، بدت أسماء القرى التي لم يسمع بها حتى بعض السوريين من قبل، تعكس بدورها شخصية مكانية اجتماعية طائفية مركبة، تستحق مسمياتها الدراسة على نحو أعمق، كون هذه التسميات منطوية على تعبيرات متماثلة مع “موزاييك” مجتمع زراعي مدني مختلط، أكثر من تماثلها مع خصائص مجتمع رعوي قبلي شبه صحراوي، كالعراق ذي الذاكرة المثخنة بالمآسي التاريخية، والفائضة بعنف متوارث جيلاً بعد جيل، منذ الحضارة البابلية، مروراً بالفتح الإسلامي، وحتى الغزو الأميركي مؤخرا.
أما في اليمن، الذي بدأت تواتر على أسماعنا أسماء أماكن لم نكن نعرفها في السابق، تبدو الصورة الانطباعية المتكونة أشد تماهيا مع تاريخ هذا البلد المغرق في قدمه وتكوينه الأولي العتيق. حيث تعكس التسميات التي تواصل وسائط الإعلام ضخها بغزارة شديدة، منذ أقل من عام، طبوغرافيا صعبة، وديموغرافيا في طورها الاجتماعي الأول، وذلك لشدة غرابة أسماء الجبال والدساكر والوهاد، التي تماثل وعورة وقع لفظها على الأذن وعورة مفردات الشعر الجاهلي، ولغة سبأ الدارسة في عصر قبل الإسلام.
وينطق الأمر ذاته على الجغرافيا الليبية، وعلى صحراء سيناء، بهذا القدر أو ذاك. الأمر الذي يمكن القول معه، إن الحروب الداخلية العربية، المقدر لكل منها أن تمضي على حدة إلى أجل غير معلوم، قد انتجت معرفة جانبية ببلدانية تلك الأصقاع والأمصار، كنا نود لو لم نتعرف عليها، ولم نكتشف من خلالها حقائق مروعة كانت عيوننا لا تراها، في مقدمتها ذلك التخلف الحضاري، والفقر الشديد، وبيوت الطين البدائية، التي كان من المقدر لها أن تظل خارج دائرة المعارف العامة، لولا تلك المعارك التي دارت في تلك المناطق المحجوبة عن الأنظار، وكشفت عنها إهمالا وخرائب صادمة لكل ذي ضمير.

المصدر: الغد الأردنية