الاستعصاء السوري وانعكاساته اللبنانية
4 أغسطس، 2015
الاستعصاء السوري فرض نفسه على شعوب المنطقة ولن يكسره سوى إسقاط نظام بشار الأسد والذي سيسقط ولو بعد حين مهما تمسكت به قوى الهيمنة الإقليمية والدولية
عديد نصار
لقد أُريد للثورة في سوريا أن تكون خاتمة المرحلة الثورية التي انطلقت من سيدي بوزيد في تونس بتاريخ 17 ديسمبر 2010، وعمّت بلدان الوطن العربي كافة وبأشكال ونسب متفاوتة على مدى يقارب الخمس سنوات.
وقد أنطلقت أيادي نظام الأسد تعمل تقتيلا وتهجيرا، بدءا بالناشطين وصولا إلى عموم الشعب السوري الذي اقتُلِع حوالي نصف تعداده من أرضه.
كما زُجّت كل وحوش العالم في هذا الصراع لتنشَبَ حروبٌ متعددةُ الأطراف أُريد لها أن تسحق الثورة باقتلاع جذورها المجتمعية.
ولذلك يبدو أنه أريد للثورة السورية، بمآلاتها المأساوية، أن تكون درسا للشعوب كافة في الخضوع والطاعة، وفي طلب الرحمة من قوى الاستبداد المسيطرة مهما تغوّل تسلطُها واشتدت دمويتُها.
وكان نصيب الساحة اللبنانية، التي هي أكثر الساحات تفاعلا مع الساحة السورية، من هذا الدرس مؤلما، خاصة أنّ حزب الله اللبناني كان ولا يزال الشريك الأبرز لنظام الأسد في المقتلة السورية المتواصلة.
ويذكر هنا أنّ أول تحرك تضامني مع الشعب السوري بتاريخ 2 أغسطس 2011، والذي قامت به مجموعة من الشباب اليساري اللبناني باتجاه السفارة السورية التي كان مقرها في منطقة الحمراء في بيروت، كان تعرّض لحملة تنكيل شرسة من شبيحة الأحزاب الحليفة لحزب الله، أسفرت عن إصابات بليغة في صفوف المتضامنين سلميا.
وكـان تحرك آخر ممـاثـل بتـاريخ 9 يونيـو 2013، أمام السفارة الإيرانية رفضا لزج الشباب اللبناني في الحـرب على الشعب السوري، تعرض بدوره للقمع من أتباع حزب الله ما أسفر عن استشهاد الشاب هاشم سلمان وجرح أحد عشر آخرين.
وهكذا، وبعد هذه الحادثة، أصبح من المتعذر تقريبا الطلب من الناشطين التحرك لأيّ سبب قد يكون الاحتجاج فيه موجّها ولو مواربة إلى حزب الله وحلفائه (من ضمن ائتلاف قوى السلطة) أو إلى النظامين السوري والإيراني.
ولن ينسى كذلك أنّ أول ضحايا الاستعصاء السورية، كان ذاك التحرك الكبير الذي باشره ناشطون لبنانيون في السابع والعشرين من فبراير 2011 في إطار الأجواء الإيجابية التي تشكلت بعد سقوط كل من زين العابدين بن علي في تونس ورئيس النظام المصري حسني مبارك. وهو التحرك الذي تنامى لثلاثة أشهر، ثمّ توقّف بانتظار تطورات الحالة السورية، حتى أصبح طيّ النسيان، تقريبا.
لقد وجد اللبنانيون متنفسا وحيدا بعد ذلك في التحرك الكبير لهيئة التنسيق النقابية الذي استمر لثلاث سنوات وانتهى بالانقضاض على العناصر المكونة لتلك الهيئة، وفي مقدمها رابطة التعليم الثانوي، من قبل أطراف النظام المافيوية كافة، لنتبين أن “الشعب اللبناني” بات مقموعا تلقائيا وغيرَ مسموحٍ له بأي تحرك جامع في مواجهة العصابات الغاصبة للسلطة التي رهنت البلاد وأبنائها إلى قوى الهيمنة الخارجية. وقد ظلت التحركات الوحيدة المتاحة، والتي بدأت تتقلص، وهذا إيجابي جدا، هي التي ترفع رايات طائفية أو مذهبية. أمّا غير ذلك فقد أصبح من المحظورات ومن دون إعلان.
ونتيجة لذلك فقد أضحت بيروت، تلك العاصمة التي طالما تغنى بحيويتها ونضاليتها مثقفون وكتاب وشعراء لبنانيون وعرب، تُفاجِئنا بموتها السريري النسبي، والمؤقت حسبما أتمنى، حين ندخلها هذه الأيام لتزكم أنوفنا روائح النفايات المتراكمة في الشوارع، المتراصة جبالا في كلّ اتجاه. وتشعر أنك في مدينة ميتة فعلا.
صحيح أن المسؤولية المباشرة تقع على عاتق المؤسسات المختصة بدءا بالبلدية وصولا إلى مجلس الوزراء، لكن الصحيح أيضا أنه بعد أسابيع من هذا الواقع المُزري لم نلحظ تحركا فاعلا من أهالي المدينة أو من قبل مؤسسات المجتمع المدني أو من النوادي الرياضة أو من الجمعيات الثقافية أو من المجتمع الأهلي والروابط العائلية الكثيرة، فلا مظاهرات عارمة، ولا مبادرات جريئة ولا اقتراحات حلول عملية.
وحتى التحركات الاحتجاجية التي ظهرت تحت شعار “طلعت ريحتكم” والتي جاءت من شباب غاضب، كانت عبارة عن ردات فعل غير مدروسة، وبالتالي فهي غير قادرة على التأثير أو الحشد أو المراكمة، كونها لا تصيب القوى المسؤولة فعليا عن تردي الأوضاع على مدى عقود، من جانب، وكونها غير قادرة على تقديم حلول ولو وقتية لمثل هذه المأساة.
وبالمقابل كانت قوى السلطة قادرة على ابتزاز المجتمع في موضوع النفايات، كما في سواه، فبدلَ أن تكون هذه الأزمة فضيحة تهز أركانها، فقد وضعت اللبنانيين في مواجهة بعضهم بعضا. فكيف يتم التخلص من جبال النفايات المتنامية كل ساعة إذا لم يتم نقلها إلى مناطق خارج العاصمة والتي لا تمتلك مساحات كافية لطمرها والتخلص منها؟ ألم تحتضن العاصمة اللبنانيين من كافة المناطق؟
وهكذا يتم وضع أهالي بيروت في مواجهة المناطق التي انتفضت ورفضت نقل نفايات العاصمة إليها. وهؤلاء الذين واجهوا قوى السلطة بالحجة الدامغة: انتظرنا الإنماء المتوازن عشرات السنين منذ اتفاق الطائف، لنحصل في النهاية على “مجرد نفايات”.
وإذا كانت قضية النفايات الصلبة التي أزكمت الأنوف ليست إلا رأس جبل الجليد البارز، فإن تفاقم الأوضاع الاجتماعية والأمنية خصوصا، لم يؤدّ إلى الآن إلى أي تحرك شعبي احتجاجي واسع، في الوقت الذي تشهد فيه المناطق والقطاعات تحركات يومية متفرقة لا تُراكم ولا تتحول إلى حراك شعبي مؤثر.
وحين تسأل، متى تنتفضون ضد هذا الفساد الذي بات يخنقكم؟ يأتيك الجواب: هل تريد لنا ما أصاب السوريين من دمار وقتل وتشرد؟
لقد فرض الاستعصاء السوري نفسه على شعوب المنطقة كافة. هذا الاستعصاء الذي لن يكسره سوى إسقاط نظام الأسد، والذي سيسقط ولو بعد حين، مهما تمسكت به قوى الهيمنة الإقليمية والدوليـة مكافِئةً له على إنجازاته الكبيرة في مكافحة الثورات.
المصدر: العرب اللندنية
“الاستعصاء السوري وانعكاساته اللبنانية”