مسؤولية أوروبا عن أزمة المهاجرين


عادل درويش – الشرق الأوسط اللندنية

توجه رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، فور عودته لبريطانيا من رحلة أربعة أيام في جنوب شرقي آسيا، مباشرة إلى مكتبه ليترأس اجتماع لجنة الطوارئ.
حالة الطوارئ سببها إغلاق نفق بحر المانش (القنال الإنجليزي) الذي يربط جنوب شرقي إنجلترا من ميناء دوفر بالقارة الأوروبية إلى ميناء كاليه الفرنسي.
النفق أغلق عدة مرات بسبب إضرابات عمال الشحن والموانئ الفرنسيين. هذه المرة أغلق بتكرار تدفق أسراب النازحين أو المهاجرين إلى النفق. يحاولون «التشعبط» في قطارات البضائع أو سيارات النقل. آخر الحوادث مصرع شاب سوداني في منتصف العشرينات تحت عجلات شاحنة عملاقة متجهة إلى إنجلترا حاول التعلق بجانبها.
لم يكن أمام إدارة النفق إلا إغلاقه حفاظًا على الأرواح، وبالتالي إلغاء عشرات رحلات القطار بين لندن وباريس أو لندن وبروكسل.
إغلاق النفق أيضًا أدى إلى بقاء آلاف سيارات النقل على الطريق الذي يربط دوفر ببقية البلاد ومثلها في جنوب كاليه الفرنسية. صناعة الشحن والنقل التي توظف الآلاف تتكبد خسائر يومية بملايين الجنيهات.
الأزمة دليل على فشل مشروع الوحدة الأوروبية والهوة الواسعة بين الوضع العملي على الأرض واللوائح التي أصدرها وزراء ومفوضيات وبدت فكرة عظيمة على الورق أو في برامج الكومبيوتر في لجان التخطيط.
المعسكر في كاليه غير رسمي ارتجله قرابة خمسة آلاف، جميعهم بلا استثناء يرغبون في النزوح غير القانوني إلى بريطانيا.
مهاجرون من قرابة أربعين جنسية؛ أفارقة، وآسيويون من سوريا، واليمن، وإيران، والهند، وبنغلاديش، وباكستان، وأفغانستان، والفلبين.
الأزمة التي سببت حالة الطوارئ في بريطانيا (وارتفاعا في أسعار الفواكه ومنتجات الألبان واللحوم حيث تعطل وصولها من القارة الأوروبية بسبب إغلاق النفق) تبين أيضًا الجوانب السلبية لنتائج حركات الانتفاضات (الربيع العربي في القاموس السطحي للصحافة الساذجة) في شمال أفريقيا وبلاد الشام؛ والنتائج الكارثية للتدخل الغربي في ليبيا.
السواد الأعظم من الموجودين في معسكر كاليه جاءوا إلى أوروبا من ليبيا عبر قوارب غرقت أو تكاد توشك على الغرق وتم إنقاذهم. كلهم تقريبا ضحايا مهربي البشر الذي يتقاضون ما بين عشرة آلاف و15 ألف دولار للشخص لوضعهم في قوارب تغرق في المتوسط.
البعض يصل إلى الجزر والسواحل الإيطالية أو اليونانية ثم يعبرون حدود سويسرا، والنمسا، وإيطاليا إلى فرنسا. وآخرون يتسللون عبر الحدود الشرقية لأوروبا من تركيا ويعبرون ست أو سبع دول قبل الوصول إلى كاليه.
الهوة الأخرى في تطبيق قوانين ولوائح معاهدتي الوحدة الأوروبية ماستريخت، ولشبونة.
لوائح بتفاصيل التعامل مع طالبي اللجوء أو المهاجرين وتحدد تنفيذ الإجراءات وإصدار الأوراق في أول بلد (من موقعي المعاهدة) يصله اللاجئ أو المهاجر؛ ومن لا تنطبق عليه شروط اللجوء يعاد إلى موطنه الأصلي أو بلد الإقلاع.
لكن إيطاليا واليونان وبلدان البلقان وفرنسا تتجاهل لوائح المعاهدة وتترك المهاجرين يصلون إلى كاليه في شمال فرنسا؛ أي «بدحرجة» المشكلة إلى الإنجليز.
الرأي العام البريطاني ضد مشروع الوحدة الأوروبية، ويرحبون فقط بسوق أوروبية مشتركة وليس باتحاد أوروبي كدولة فيدرالية.
بريطانيا رفضت الدخول في الوحدة المالية لمنطقة اليورو. كثير من ساسة بريطانيا وصناع الرأي العام فيها يتهمون حكومات منطقة اليورو بالانتقام من الموقف البريطاني بتجاهل لوائح التعامل مع المهاجرين وفق المعاهدات ويسهلون مرورهم حتى يصلوا إلى كاليه.
عوامل جذب المهاجر – حتى الجاهل باللغة الإنجليزية – إلى بريطانيا متعددة.
معونات الضمان الاجتماعي السخية من وزارة العمل والمعاشات والتأمين الاجتماعي.
قوانين بريطانيا مرنة يسهل الالتفاف حولها. وليس في بريطانيا بطاقة تحقيق هوية إجبارية، وغياب أوراق ثبوت الشخصية يسهل للمهاجر غير الشرعي العمل باسم مستعار.
الرأي العام البريطاني يتساءل لماذا لا تتعامل السلطات الفرنسية مع المهاجرين الموجودين على أراضيها، بمنح اللجوء لمن يستحق، وترحيل اللاجئين المزيفين إلى بلادهم الأصلية؟
صحافة اليسار والمنظمات الإنسانية تنتقد الاقتراح العملي، رغم أنه أكثر إنسانية لأنه ينهي عوامل الجذب. فإعادة المئات من حيث أتوا ستقضي على الوهم الذي يبيعه مهربو البشر إلى من يحلمون بالهجرة، وبالتالي ستقلل من تعرض المهاجرين للأخطار، فإلى جانب أكثر من عشرين شخصا لقوا حتفهم تحت عجلات القطارات أو ماتوا اختناقا في شاحنات مقفلة لا يدخلها الهواء، مات أكثر من ألفي شخص غرقا في مخاطرة عبور المتوسط (هناك تقارير غير موثقة بغرق ضعفي العدد ولم تشهد أي سفن حوادث وبالتالي لا توجد إحصائية دقيقة عن عددهم).
وبدلا من توجيه الأساطيل الأوروبية لتدمير جميع القوارب الموجودة على ساحل ليبيا ودفع تعويضات لأصحابها قبل أن تقع عليها أيدي عصابات تهريب البشر فإن سياسات بروكسل وبيروقراطيتها أدت عن دون قصد إلى ترويج فكرة النجاح في الحصول على إقامة في أوروبا. وعندما اجتمع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي اقترحوا توزيع قرابة مائة ألف مهاجر – التقطوا من القوارب القادمة من ليبيا ومعظمهم موجودون في إيطاليا – على بلدان شمال أوروبا الغنية (بريطانيا رفضت أخذ أي منهم باستثناء طالبي اللجوء السياسي أو الذين يتعرضون للخطر أو الاضطهاد في بلدانهم الأصلية). فور صدور القرار زاد مهربو البشر من السعر الذي يتقاضونه لتهريب المهاجرين.
مثال للهوة بين اللوائح وبين الواقع هو ادعاء كل مهاجر تقريبًا أنه هارب من اضطهاد ديني أو طائفي أو عرقي أو التعرض للخطر في بلدانهم غير المستقرة؛ ولو كان المهاجر صادقًا في ادعائه، لكان طلب اللجوء السياسي أو الإنساني في أول بلد أوروبي يهبط فيه كإيطاليا أو اليونان مثلاً أو حتى فرنسا التي يوجد فيها معسكر كاليه (ومعظم الموجودين فيه من بلدان فرانكفونية) لكنهم مصرون على الوصول إلى بريطانيا وتعطيل حركة المرور في نفق المانش.
ثم هناك الكثير من مستويات البيروقراطية في وكالات مساعدة «اللاجئين» ابتداء من مفوض سام يعاونه عشرات الموظفين ومفوضية بمديرين وأقسام وجيش كبير من الموظفين حتى أصغر العاملين والعاملات في معسكرات إيوائهم. الوصفة التي يقترحها العقلاء بترحيل الموجودين في المعسكرات إلى بلدانهم وتدمير القوارب على الشواطئ الليبية وتمويل إقامة معسكرات إيواء على السواحل الأفريقية لفحص أوراق اللاجئين ومنح من هو في حاجة للحماية حق اللجوء، ستقلل كثيرا من الظاهرة وتحرم عصابات تهريب البشر من فرصة خداع المهاجرين وتنقذ آلاف الأرواح.
لكن تطبيق هذه السياسة سيحرم المنتفعين في وكالات «مساعدة» اللاجئين والمهاجرين من مئات الملايين من ميزانية الاتحاد الأوروبي الذي أصبح نموذجًا لزيادة أضرار الوحدة – كحلم سياسي – بين البلدان على منافعها.