سوريا: وماذا إذا أطلت ‘يالطة’ جديدة

ما قيل إنه أفكار للنقاش بين واشنطن وموسكو في الدوحة، ظهر أنه اتفاق على الاستمرار في إدارة الأزمة وبالتالي الاستمرار في رعاية حمام الدم السوري، دون أن يكون مسموحاً لأطراف الصراع حسم المعركة

محمد قواص

تلتقي الأقطابُ الدولية والمحلية المهتمة بالشأن السوري في الدوحة. تفوحُ من وراء أبواب الاجتماعات روائح معروفة في رتابتها، مُملّة في تكرارها. المواقف ساكنةٌ جامدة، فيما المراقبون يقتنصون أي ظاهرة ملفتة تفرجُ عن منافذ محتملة، أو عن انعطافات مسجلّة.

واشنطن تعتبرُ نظام بشار الأسد فاقداً للشرعية ولا يمكن التعامل معه حسب تصريحات وزير الخارجية جون كيري في العاصمة القطرية. الرجل في ضيافة الخليجيين، يحاولُ تسويق صفقته الإيرانية، ولا شك أن من مصلحته إسماعهم ما يطربون له في المسألة السورية.

قبل وصول كيري إلى الدوحة كان رئيسُه في البيت الأبيض قد أعلن استعدادَ الولايات المتحدة تقديم غطاءٍ جوي لقوى المعارضة السورية التي تلقت تدريبات أميركية. كانت واشنطن قد أعربت عن قلقها، قبل أسابيع، من ضآلة عدد من خضع لهذه التدريبات. في هذا أن الغطاءَ الجوّي المقترح لا يعدو عن كونه فقاعة إعلامية من لزوميات مساعي كيري في المنطقة، وفوق ذلك صادرت جبهة النصرة في خطفها لبعض من شملتهم التدريبات الأميركية (الفرقة 30) خطط بارك أوباما المستجدة، وغير الجدية.

بالمجهر، يجهدُ المهتمون بالشأن السوري لتسجيل تبدّل ما طرأ على سياسة البيت الأبيض إزاء سوريا. طبعا يمكن الإقرار أن الاتفاق مع تركيا حول المنطقة العازلة شمال سوريا يُعدُّ تطوراً أميركيا لافتاً في الميدان. لكن الإيقاعات الأميركية تتحركُ وفق هدف ضرب داعش، الذي لا يعاند موسكو ولا يقلق إيران، دون أن يكون حلّ الأزمة السورية عاجلاً، حتى من أجل تحقيق ذلك الهدف. فعين واشنطن ما زالت شاخصة باتجاه آسيا، التي هرول إليها جون كيري (سنغافورة) مغادراً قضايانا التي تحتمل الانتظار.

عشية حدث الدوحة تكشفُ دمشق عن خبر لقاء اللواء علي المملوك رئيس مكتب الأمن القومي السوري مع ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في الرياض. تبثُّ دمشق الخبر من خلال جريدة “الأخبار” البيروتية الحليفة، وتمعن في التطبيل لذلك من خلال الصانداي تايمز اللندنية وفق ما نقلته مصادرها من العاصمة السورية. بقي الخبر زعماً في غياب تأكيد سعودي، وبقي الخبر لغزاً رغم نفي “مصادر مقربة” من مسؤولين سعوديين. في مضمون الخبر وحكايات العتاب المتبادل تسطيحٌ للمأساة السورية، وفق الرؤية الدمشقية، وحشرها في سجال سوري سعودي يتجاوزُ حراك السوريين منذ أربع سنوات.

ما قيل إنه “أفكار” للنقاش بين واشنطن وموسكو في الدوحة، ظهر أنه اتفاق على الاستمرار في إدارة الأزمة، وبالتالي الاستمرار في رعاية حمام الدم السوري، دون أن يكون مسموحاً لأطراف الصراع حسم المعركة.

سيضخُّ التطوّر التركي ديناميات جديدة عند المعارضة. ستتيحٍ مناورة أنقرة الأطلسية لبسط مناطق عازلة، تأمينَ مساحة آمنة للمعارضين القدامى والمنشقين الجدد، وإعادة تموضع للاجئين من هنا وهناك. لم تعترض دمشق إلا عبر أبواقها، لكن راداراتها سكتت عن “استباحة” الطيران التركي لـ”السيادة” السورية. تعرف دمشق أن الأولوية التركية كردية اللون، وأن تأثّرها بهمّة رجب طيب أردوغان محدودة في الأجل القصير على الأقل.

وحدها طهران تطلُّ على السوق واعدة ببضاعة جديدة. وزير الخارجية الإيراني الذي يعود له “الإنجاز” في فيينا، يباشرُ مقاربته للخصوم بزيارة للكويت وقطر على أمل أن يتمدد اختراقه أكثر داخل النسيج الخليجي، فيما مقالٍه الموزّع على صحف العواصم العربية يغرّدُ لحن الوفاق والوئام. تعرف إيران أن لاتفاقها مع المجتمع الدولي مفاعيل إقليمية، وأن ورشتها المضنية للتوصل إلى ذلك المرتجى، عزز من حلف خليجي تركي يضرب أرزاقها في اليمن، كما في سوريا، وعجّل من اقتراب الرياض من موسكو على نحو تبتسم له عواصم خليجية أخرى.

في المعسكر الحليف لدمشق تتعايشُ إيران الولي الفقيه مع روسيا فلاديمير بوتين. والتعايش ليس مرادفاً دائماً للوفاق. يتسرّع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في إخبارنا أن موسكو ذاهبة للتخلي عن الأسد، تنفي موسكو ذلك، فيما لا تفصح مواقف وزير خارجيته سيرغي لافروف في الدوحة عن أي إشارات في هذا الصدد. بيد أن إمكانات أن يتيح اتفاق فيينا فتح أبواب طهران للعواصم الغربية يقلقُ روسيا التي كانت تحتكُر الوصل مع إيران. لم تعد طهران مهتمة لرفع أسعار النفط، فيما موسكو قلقة من تراجع تداول السوق للذهب الأسود. فجأة بدا أن موسكو تريد حصادها في سوريا. في دعوة لافروف لوقف التدخل الخارجي في سوريا رغبة روسية لوقف التدخل الإيراني أيضاً.

أجراسُ الحلّ السوري تقرعُ في طهران. ونقاش المبادرة الجديدة “المعدّلة” استدعى توجه وليد المعلم السوري وميخائيل بوغدانوف الروسي لاستطلاع الأمر في العاصمة الإيرانية. وما رشح عن الجديد في المبادرات الإيرانية لا يحملُ جديداً لافتاً، طالما أن الأمرَ توليفة لبقاء النظام ومباشرة الحلّ برعاية رئيسه. لكن مداولات السياسة شيء، وغبار الميادين شيءٌ آخر. فما ترومه طهران أعلنه الأسد نفسه، في خطابه الأخير عن “سوريا المفيدة”، معطوفاً على ما يحكى عن عملية تبادل ضخمة قيّد الإعداد لإفراغ الزبداني مقابل إفراغ الفوعة وكفريا. وإذا ما صدق أن رعاية من قبل الأمم المتحدة تتم لإنجاز ما وصف بأنها عملية غير مسبوقة في تاريخ الصراع، من حيث جانبها التبادلي المذهبي، فهذا يعني أن التقسيم بات مدخلاً وخياراً يمكن مناقشته في طهران.

لكن مقاربة طهران في سوريا قد تشهد تعديلات تحاكي اجتماعات الدوحة، لكن الإطلالة الإيرانية تقوم تحت عنوان محاربة داعش، تماماً كما هي مقاربة أنقرة الجديدة في سوريا. الدولتان تنشطان وفق هدف داعشي عزيز على قلب أوباما. بمعنى آخر فإن الحل السوري مؤجّل، ويبدو أن تأجيله بات ضرورة لكافة الفرقاء، طالما أن داعش نفسه ما زال ضرورة لم تتقادم في ورش رسم الخرائط وتنظيم العبث.

تحت عنوان محاربة داعش وجب أيضاً تأمل الدعوة الروسية لتشكيل تحالف يضم سوريا والسعودية والأردن وتركيا. الدعوة أثارت غرابة في سرياليتها، لكنها فكرة تستدعي، بالنهاية، تدخلاً مباشراً لهذه الدول في الداخل السوري. سيناريو كهذا يعيد التذكير بسابقة تقسيم ألمانيا بعد هزيمة النازية (مؤتمر يالطا 1945) إلى أربع مناطق نفوذ بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا.

بدا أن مناقشة المعارضة لإحلال الليرة التركية مكان تلك السورية في الشمال افتراض يقرّبنا من واقع. في ذلك السيناريو ستكون إيران حاضرة تتعايش في ميدان واحد مع الخصوم، فيما كان التعايش يجري بين الحلفاء (الذين تحولوا إلى خصوم لاحقاً) في الحالة الألمانية.

قد يجد السوريون في ذلك السيناريو سواداً. بعضهم سيجدُه حلاً لوقف آلة الموت، ذلك أن الحياة أعزّ من الأوطان.

المصدر: العرب اللندنية