دوافع العنف واللاتسامح

لم يكن التشدد يوما حكرا على دين أو عقيدة بل هو سمة لكل مسعى توسعي ينتهجه دين جديد أو معتقد أيديولوجي ليزيح العقائد السابقة له والمتقاطعة معه

لطفية الدليمي

كلما نقبنا في طبقات الحضارات الإنسانية وجدنا أن معظم تراث الأمم الثقافي والديني ينطوي عل طبقات تراكمية من أشكال التشدد المموهة أو المعلنة وتمثل كل طبقة حقبة زمنية معينة ولا يسلم دين من الأديان السماوية والأديان الوثنية والمذاهب والأيديولوجيات والثقافات الشعبية من نزعات تعصب تتفاوت في مستوياتها صعودا وهبوطا خلال الأزمات السياسية والحروب.

تكشف لنا مدونات الشعوب الأخرى وتراثها العقائدي أننا لسنا الشعوب الوحيدة التي ترسخت مفردات التعصب في ذاكرتها الجمعية وشكلت سلوكها اليومي إزاء الآخر المختلف، فقد وسم التعصب سلوك الشعوب البدائية والمتحضرة مع الغرباء طوال العصور.

عندما انبثق عصر التنوير في أوروبا وبدأت أولى بوادر الحداثة بالظهور ترافق معها بروز مفهوم حرية الفكر والتسامح فأقدم مفكروها على تفكيك ظاهرة التعصب ودرسوا أسبابها ومظاهرها، وتوصلوا إلى تحديد دوافع مختلفة للتشدد واقترحوا طرائق العلاج وإن لم ينجحوا لصعوبة الأمر ورسوخه، ثم تفجرت أشكال مستحدثة من التشدّد العنصري نتيجة الهجرات بين القارات والتغييرات الديموغرافية التي يسرتها وسائط النقل الحداثية.

يخبرنا غلين دانيال في كتابه (الحضارات الأولى: الأصول والأساطير) إلى أن “الآرية” ليست عرقا بل هي مصطلح لغوي أشار فيه غزاة الهند الناطقون بالسنسكريتية إلى أنفسهم بأنهم آريون أي “نبلاء” وباتساع استخدام المصطلح صار يدل على الشعب الذي كان يتكلم تلك اللغة، غير أن الدعاية النازية استخدمت المصطلح ولوت عنقه لصالح عنصريتها في تبنيها لفكرة تميز العنصر الآري موحية بأن الآريين عرق متفوّق وهم شقر وزرق العيون حسب المحددات النازية للمظهر الخارجي للعرق الآري بينما كان غزاة الهند الآريين سمر البشرة وذوي عيون قاتمة الألوان وقد وصفوا السكان الأصليين بأنهم ( داسوس) أي سود البشرة ولا يتكلمون الآرية وعاملوهم بمزيج من الاحتقار والتخوف والعنف الدموي كما يحدث في الحروب والغزوات عادة عندما تتعرض الجماعة المغلوبة للإبادة أو العبودية أو التنكيل واغتصاب نسائها وسبيهن.

وبعد أن كابد المسيحيون الأوائل عذابات وقمعا على أيدي اليهود والرومان، نجد القساوسة المبشرين في العصور الوسطى يرافقون جحافل الجيوش التي احتلت بلدانا نائية لأهداف اقتصادية بحتة، وكانت القسوة والعنف المفرط الطابع المميز لتلك الحملات، كما أقدمت الكنيسة في العصور الوسطى المظلمة على إقامة المحارق للمفكرين والمفكرات متهمة إياهم بالهرطقة والسحر والشيطنة، ولا ننس ما جرى قبل ذلك التاريخ من تمزيق جسد الفيلسوفة هيباتيا في الإسكندرية من قبل المتشددين المسيحيين لاتهامها بالوثنية، ثم بلغ التشدد الديني ذروته خلال الحملات الصليبية.

ولم يكن التشدد يوما حكرا على دين أو عقيدة بل هو سمة لكل مسعى توسعي ينتهجه دين جديد أو معتقد أيديولوجي ليزيح العقائد السابقة له والمتقاطعة معه، فيحصل الإقصاء الجسدي بالقتل، والفكري بحرق الكتب، مثلما أحرقت مؤلفات ابن رشد، وقيام المنصور بالله بحرق مكتبة “الحكم الثاني” العملاقة، التي كانت تضم آلاف الكتب في الأندلس، ولم يسلم مفكرون وفلاسفة مسلمون ومتصوفة من الإعدام على أيدي بعض الخلفاء بتهمة الزندقة وإثارة العامة.

وتشير الدراسات المتعلقة بالأصولية الدينية -بخاصة كتب الكاتبة والباحثة البريطانية كارين أرمسترونغ- إلى أن الدوافع الدينية تكمن غالبا وراء السلوكيات العنيفة التي تتسم بالتمييز اللاإنساني ضد البشر، فبدءا من الأديان الوثنية في أثينا وبابل وآشور ومصر وبلاد فارس والصين والهند وروما وصولا إلى الأديان الإبراهيمية نجد أن مظاهر التشدد لدى المتدينين السطحيين المتزلفين للسلطان أشدّ منها لدى المؤمنين الحقيقيين الذين يمثلهم الزهاد والمتصوّفة.

المصدر: العرب اللندنية