أمريكا وشرقها الأوسط الجديد

عاصم عبد الخالق

الحديث عن شرق أوسط جديد لا يتوقف منذ سنوات في أوساط النخبة السياسية والإعلامية الأمريكية. تزداد وتيرته أحياناً وتخفت في أحيان أخرى، ولكنه يبقى دائماً حديثاً موصولاً، وموضوعاً أثيراً، لاسيما منذ أن باغتت عاصفة الحادي عشر من سبتمبر الولايات المتحدة قادمة من الشرق العربي المسكون بالأزمات.
وبعد الاتفاق النووي الأخير مع إيران تفتحت شهية الإعلام والسياسيين مجدداً لوصل ما لم ينقطع من حديث عن شكل وجغرافية الشرق الأوسط الجديد الذي تريده الولايات المتحدة.
يذهبون فيما يقولون إلى كل اتجاه متصور وغير متصور. وليس لجموحهم الفكري وخيالهم السياسي حدود في أحيان كثيرة. البعض يتحدث عن خرائط سياسية بحدود جديدة ودويلات وليدة تنشأ على أنقاض الدول القائمة حالياً في العراق وسوريا وليبيا واليمن وربما غيرها أيضا. وفي مقابل، اتجاه يتمسك بالعداء مع إيران إلى النهاية، هناك من تستهويه فكرة التحالف المقبل والمحتم معها. ولا يرى المبشرون بهذا التطور سبباً أو مبرراً للتباعد بين الشيطان الأكبر وأحد أضلاع محور الشر. فما دام الملف النووي قد أغلق فكل شيء سهل بعد ذلك.
وقد يختلفون بشأن حدود التعاون المقبل بين واشنطن وطهران، وهل هو سلام بارد أم تحالف وثيق أم عداوة بأشكال جديدة. ولكن رغم ذلك هناك ما يشبه الاتفاق على أن ثمة تفاهماً بأي شكل من الأشكال لابد أن يتم بين البلدين، ولا مفر من بعض الصفقات السياسية الجديدة. دعك الآن من الحديث عمن يدفع ثمن ذلك لأن الأغلب أنه سيكون الطرف العربي، ولكن تلك قضية لا تثير الاهتمام كثيراً بين الأمريكيين.
ولا شك أن صانع القرار الأمريكي، وهو غير بعيد عن تلك المناقشات، لا تغيب عن ذهنه أهمية وجود ترتيبات جديدة بالمنطقة. وليست لديه رفاهية التأجيل بحكم حالة الغليان الحالية في العديد من بؤر الصراع الملتهبة.
وسواء كان ما يجري من صراعات هو صناعة أمريكية خالصة، أو أن واشنطن مسؤولة عن بعضه فقط، وتتحمل باقي المسؤولية أطراف محلية وإقليمية ودولية أخرى، ففي كل الحالات يبقى للولايات المتحدة دور فاصل في تحديد مصير تلك الصراعات واستثمارها وتوجيهها وتشكل نهاياتها على النحو الملائم للمصالح الأمريكية. ولكي يحدث ذلك لابد أن تتعامل واشنطن مع الأطراف الأخرى المتورطة أو الفاعلة أو المشاركة في تلك الأزمات. وباستثناء الدور الروسي في سوريا، لا يوجد خصم آخر لديه نفوذ ودور في أزمات العراق وسوريا واليمن سوى إيران.
تفضي هذه الحقيقة إلى نتيجة واحدة هي أن التعامل مع إيران أصبح مفروغاً منه للبحث عن تسوية لتلك الأزمات. وليس في ذلك من وجهة النظر الأمريكية مشكلة لأنه سبق أن توصلت الدولتان لتفاهمات بشأن العراق وأفغانستان في ذروة العداء بينهما. والسؤال المهم الذي يطرحه الإعلام الأمريكي هنا يدور حول المقابل الذي ستقدمه واشنطن في أي صفقة مع إيران بشأن هذه الصراعات، وما هي أوراق الضغط المتبقية في أيدي الإدارة الأمريكية بعد رفع العقوبات؟
على ضوء الخيارات التي ستقررها واشنطن سيتحدد شكل علاقتها القادمة مع طهران. وهناك تصورات عدة تتراوح ما بين التحالف الكامل كما أشرنا، إلى استمرار العداوة بطرق أخرى، مروراً بمواصلة سياسة الاحتواء. إلا أنه لم يصدر عن الإدارة حتى الآن ما يوضح خياراتها النهائية بعد. والأرجح أن يتم ترك هذه الخطوة للرئيس المقبل.
لا يتسع المقام هنا للحديث عن تفاصيل هذه التصورات جميعا، إلا أننا نكتفي بالإشارة إلى تقرير مهم نشرته مجلة “فورين بوليسي الأمريكية” حول هذا الموضوع. أهمية ما نشرته المجلة لا يرجع فقط إلى أنه يقدم تصوراً واقعياً قد لا يكون أمام الإدارة الحالية أو القادمة سوى الأخذ به، ولكن أيضا لأن ما يتضمنه التقرير من أفكار تسترعي الاهتمام عربياً، لاسيما أنه يضع الحلفاء العرب والخصوم في سلة واحدة ويطالب بالضغط عليهم معاً.
ترى المجلة أن هناك أطرافاً إقليمية أخرى غير إيران مسؤولة عن الصراعات المشتعلة في المنطقة حالياً، وأن هذه الأطراف وهي صديقة لواشنطن لا تخدم المصالح الأمريكية بل قد تعرقلها، وقد تسعى لإفشال الاتفاق مع إيران، وبالتالي فلابد أن تسعى واشنطن إلى إرغام هؤلاء جميعاً أي الأصدقاء والخصوم على تغيير حساباتهم، والضغط عليهم معاً.
ليس هذا فقط، بل إنه من غير المستبعد، كما يرى التقرير، أن تستخدم واشنطن الاتفاق مع إيران لتشجيعها هي وحزب الله والنظام السوري على تغيير نهجهم ورهانهم على التطرف. أي فتح صفحة جديدة مع أعدائها التاريخيين.
توصية أخرى بالغة الأهمية تطرحها المجلة وهي أن تلقي واشنطن بثقلها في الحروب الدائرة بالوكالة في المنطقة، على غرار ما تفعله إيران تماماً. السبب هو أن الحرب المباشرة مع إيران فكرة غير صائبة، والضغوط الدبلوماسية عليها غير مجدية، ومن ثم فلن يتبقى سوى محاربتها بنفس السلاح عن طريق دعم أحد الأطراف الداخلية في كل صراع. المعنى الذي يمكن الخروج به هنا هو أن المنطقة مقبلة على حريق أكبر وليس العكس.
ليس بوسعنا استعراض كل ما ذكرته المجلة إلا أن خاتمته تستحق التوقف والتفكير تقول فيها «إذا كان لدى أوباما خطة حقيقية للاستفادة من الاتفاق مع إيران كحجر زاوية لنظام إقليمي جديد، فإن العمل الحقيقي يبدأ الآن. أما الأعمال القذرة، وهي غير مستبعدة، فسوف تأتي لاحقاً».

المصدر: الخليج الإماراتية