إعداد المسرح لفصل الحسم!

عرفان نظام الدين

كل المؤشرات والتحركات المتسارعة في المنطقة تدل على أن ساعة اتخاذ قرار فرض حل سلمي للحروب والأزمات الراهنة قد دنت، وأن القوى الفاعلة بدأت تعد العدة لرفع الستارة عن الفصل الأخير للحسم على مسرح الشرق الأوسط، وفق خرائط معدلة. فما بعد الاتفاق المريب على حل معضلة الملف النووي لا يمكن أن يكون كما كان قبله، إن بالنسبة إلى إيران ودورها الإقليمي أو بما يتعلق بالتسابق الدولي المحموم على»البازار الإيراني» للحصول على حصص من «قالب الجبنة الدسم» ومعه حبة مسك وزعفران وكافيار وسجادة عجمية لضخ الأوكسجين في رئة الاقتصاد العالمي.

أما العرب ودورهم في ديارهم وتقرير مستقبلها ومصيرهم، فالخوف كل الخوف أن يكون ثانوياً، إن لم نقل هامشياً، لأن من بيده الحل والربط أعطى الدور الأكبر للقوتين الإقليميتين: تركيا وإيران، وترك لهما وسائل التحرك ومداه المنظور وتوقيته. ولا عزاء للعرب إن لم يتحركوا. الإيجابية الوحيدة للعرب تتمثل في تهميش دور إسرائيل وعدم الإلتفات إلى صراعها. ومع هذا، يُخشى أن تلجأ إسرائيل إلى قلب الطاولة على رؤوس الجميع وتقدم على خطوة جنونية بمهاجمة المفاعل النووي الإيراني.

في هذا الوقت، تسارع إيران إلى نفض الغبار عن آثار السنين العجاف وتستعد لفتح صفحة جديدة مع الغرب تقوم على الحوار والتعاون والاستثمار واستعادة بلايينها المجمدة منذ أكثر من ربع قرن وسط صراع بين تيارين حاكمين رئيسيين (من دون صرف النظر عن رغبات أكثرية الشعب الإيراني التي ينتظر أن تتحرك تدريجاً لفرض إرادتها):

• التيار الأول يمثله رئيس الجمهورية الشيخ حسن روحاني ومعه الرأي العام وجماعات الإصلاحيين، وهو يتبنى الاتفاق ويطالب بالتقيد ببنوده لإنقاذ البلاد من كارثة اقتصادية والالتزام بالحوار مع الغرب وتنفيذ الشروط والبنود الصعبة لإعادة فرض الدور الإقليمي الفاعل مع التخلي عن شعار «الشيطان الأكبر» بعد شطب الولايات المتحدة شعار «محور الشر».

• أما التيار الثاني، فيمثله المرشد الأعلى علي خامنئي كواجهة للمتشددين، وعلى رأسهم قادة «الحرس الثوري» الذين يجاهرون بالتنديد بالاتفاق ويهددون بتعطيل مفاعيله. وما زالت أدبيات هذا التيار تصر على تكرار الشعارات العدائية وفي مقدمها «الشيطان الأكبر» و»الموت لأميركا» لتأكيد العداء للغرب والولايات المتحدة بالذات، ليس بالنسبة إلى الاتفاق النووي فحسب، بل للتعبير عن التمسك بالسياسات الإقليمية القائمة على التدخل في الشؤون الداخلية. ووصل التشدد إلى ذروته في التصدي للمعارضين ورفض الإفراج عن الزعماء الإصلاحيين، وصولاً إلى اقتحام المصلى الوحيد لأهل السنّة في طهران وتسويته بالأرض على رؤوس المصلين. ولن يحسم هذا الصراع إلا بعد غياب خامنئي لنعرف لمن ستكون الغلبة، مع أن المعطيات الراهنة تشير إلى أن التنافس سيكون عنيفا ويصل إلى مرحلة المواجهة الكاملة.

وإذا كانت ايران قد حصلت على الضوء الأخضر للمساهمة في الحرب على الاٍرهاب وغض الطرف عن إرسال قوات لدعم القوات العراقية و»الحشد الشعبي» لتحرير المدن العراقية المحتلة من جانب «داعش»، فإن من الصعب تصور قبولها الانسحاب بعد تنفيذ المهمة أو التخلي عن ورقة العراق التي لها فيها نفوذ كاسح.

أما بالنسبة إلى لبنان، فدلت التحركات الأخيرة على أن الحسم في حل أزماته المعقدة والمتشعبة والمتشابكة، داخلياً وعربياً وإقليمياً ودولياً، يحتاج إلى مزيد من الوقت والجهد وانتظار الفرج من كل حدب وصوب لإتمام طبخ تسوية ترضى عنها الجهات الفاعلة والمؤثرة، ومن بينها إيران، لكن هذا لا يعني أنه سيكون لها الكلمة الفصل في شكلها وتفاصيلها، بل هناك اتفاق على مشاركة جميع القوى فيها، إما عبر سلسلة خطوات متتالية تبدأ بحل مشكلة قيادة الجيش وانتخاب رئيس وإجراء انتخابات فورية، أو انتخاب رئيس موقت يدير الأوضاع ويسد الفراغ القائم ويشرف على وضع قانون انتخابات جديد لبرلمان ينتخب الرئيس. أما الخيار الثالث فيرتكز على فرض مؤتمر تأسيسي ينجم عنه اتفاق وطني معدل ومنقّح ومكمل لاتفاقي الطائف والدوحة. الآن كل هذه الخيارات تظل معلقة على أوضاع الميادين في سورية وغيرها، ونتائج المحادثات السرية التي ترعاها الولايات المتحدة وروسيا لإيجاد حل للحرب السورية وغيرها بمشاورات جدية مع السعودية وإيران وتركيا.

والأمر مختلف في اليمن لأن الحسم بدأ، لكنه لن يكتمل إلا في ميدان الحرب ضمن خيارين لا ثالث لهما، وهما انتصار طرف على الآخر ووصول الجانبين إلى قناعة بأن كلفة الحرب إذا طالت فستكون باهظة، وأن الحل يكون في التفاهم على إزالة صواعق التفجير. وبانتظار توافر هذه القناعة، تشير كل الدلائل إلى أن قوات التحالف العربي بقيادة السعودية حققت تقدماً مهماً في طريق دعم الشرعية وإلحاق هزيمة أولية بالحوثيين وقوات الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح.

وتشير التوقعات إلى أن هذه الإنجازات ستفتح الباب أمام حل تدريجي يبدأ بتحرير عدن والمدن الأخرى القريبة التي يسيطر عليها المتمردون ودعم وجود الحكومة الشرعية فيها، ثم تشديد الحصار على صنعاء والمدن الشمالية لإنهاء التمرد وإيجاد حل يضع حداً لهذه المأساة. ومن المؤكد أن حسم المعركة سيكون له انعكاس على مختلف قضايا المنطقة ويضع حداً للتوسع الإيراني ويعيد التوازن الذي وصل إلى حافة الاختلال، وربما يحمل إيران على إعادة النظر في سياساتها.

ومهما قيل عن هذه الحرب، فإن من المؤكد أنها كانت بمثابة «شر لا بد منه» لأن التأخير في اختيار توقيتها كان سيؤدي إلى انهيار الحصون العربية وسيطرة إيران على اليمن وتهديد أمن السعودية ودول الخليج وطريق النفط من باب المندب والبحر الأحمر والبدء بنصب صواريخ بعيدة المدى تطاول المدن السعودية.

أما سورية، فأوضاعها أكثر تعقيداً والحل المنشود يحتاج إلى جهود جبارة يشارك فيها الجميع في الداخل والخارج، البعيد والقريب، لأن ما تشهده حالياً هو حرب دولية وإقليمية مقنعة من جهة، وحرب بين الاٍرهاب والمجتمع العربي والعالمي من جهة ثانية، وسط سباق محموم بين الحسم العسكري والحل السياسي. ولهذا يتوقع ارتفاع حجم التصعيد في المعارك خلال الأسابيع القليلة المقبلة، في موازاة استكمال الجهود الأميركية – الروسية للاتفاق على مخرج مقبول للجميع.

ويبقى تهديد الاٍرهاب وامتداد نفوذ «داعش» في شمال سورية والعراق هو العامل الرئيسي في التحركات المرتقبة. فعلى رغم أهمية الميادين والمساعي الدولية، فان دور تركيا أصبح أكثر أهمية وقدرة على الحسم وتأمين التوازن الإقليمي مع دور إيران المستقبلي بعد الاتفاق النووي.

هذا الدور الرئيس اكتمل بعد خمس سنوات من الجدال والممانعة، وتم ضمن صفقة أميركية – تركية تطلق يد تركيا في محاربة «داعش» وفتح الأجواء أمام الطائرات الأميركية لشن غارات على مواقع التنظيم كواجهة لضرب عدة عصافير بحجر واحد، أولها الحصول على صك براءة من الاتهامات المتداولة والاعتراف بها كطرف أساسي في ضرب الاٍرهاب، وثانيها الحصول على ضوء أخضر لتصفية حسابات قديمة مع «حزب العمال الكردستاني» وقطع دابر طموحات إقامة دولة كردية مستقلة في شمال سورية او مرتبطة بكردستان العراق، تمهيداً لشمولها المناطق الإيرانية والتركية.

أما العصفور الثالث، فيتمثل في تنفيذ الخطة التركية القديمة بشن غارات على الأراضي السورية بعد سنوات من الممانعة من جانب الولايات المتحدة والغرب وإيران، تمهيداً لإقامة حزام أمني على امتداد الحدود مع ما يفرضه من حظر جوي والتخلص من أعباء مئات الآلاف من اللاجئين السوريين.

وفي حال سير الأمور على ما يرام، فإن ساعة الحسم تكون أزفت لانطلاق المساعي الجادة لإنهاء الحرب السورية والتوصل إلى حلول مقبولة من جميع الأطراف، إكمالاً للصفقة التي تعد بنودها بين واشنطن وموسكو. فأوراق القوة تبعثرت وواختلطت بسبب تفاقم الخطر الداعشي، كما أن الضربة الاستباقية التركية قلبت الموازين ووزعت الأدوار.

وتبدو تركيا مرغمة على لعب هذا الدور بعد سلسلة نكسات تعرضت لها هذا العام وأحبطت جهود الرئيس رجب طيب أردوغان للهيمنة وإقامة نظام رئاسي صارم يمكنه من التمتع بصلاحيات كاملة. وأولى النكسات جاءت بسبب فشل سياسة «تصفير المشاكل» التي تعاني منها تركيا، ثم كرت السبحة لتشمل أعباء اللاجئين وتراجع الاقتصاد وتهديدات الاٍرهاب وازدياد نفوذ الأكراد، خصوصاً بعد إطلاق أيديهم في محاربة «داعش» وتسليحهم من جانب الأميركيين. إلا أن الضربة الأقوى على أردوغان جاءته من الانتخابات العامة حين فشل حزبه الإسلامي الحاكم (العدالة والتنمية) في تأمين غالبية مريحة تمكنه من الحكم منفرداً من دون الحاجة إلى إقامة ائتلاف مع أحزاب معارضة، وبينها الحزب الكردي الذي حقق تقدماً كبيراً يؤهله لفرض كلمته. وسيكون الاختبار الحاسم في القدرة على الحكم الائتلافي أو الدعوة إلى انتخابات مبكرة يُكرَم فيها أو يُهان.

كل هذه التطورات والمؤشرات تحيي الآمال لحلحلة الأمور وبدء مسيرة الألف ميل نحو الانفراج، ثم إيجاد الحلول العملية، إلا أن تعقيدات الأوضاع تدعو إلى الحذر والتريث في انتظار إكمال إعداد المسرح لتقديم الفصل الأخير من هذه التراجيديا العربية الدامية وفرض حلول تضع حداً للحروب القائمة وترسم خريطة طريق جديدة للمنطقة ضمن حسابات لا تدخل إلا جزئياً في خانة المكاسب العربية. ومع هذا، يكفينا وقف نزيف الدماء الزكية وإعادة ملايين اللاجئين إلى ديارهم، ومنح الأطفال المنكوبين الأمل بمستقبل لا قتل فيه ولا رعب ولا وضياع. أما البديل، فلن يكون سوى انتحار في انتحار… ودمار على دمار.

المصدر: الحياة اللندنية