التطرف والعيش في الغرب

حازم صاغية

كثيراً ما نسمع من يقولون باستغراب، لا بل باستهجان: كيف يعقل أنّ فلاناً، العربي أو المسلم، عاش تلك السنوات الطويلة في أوروبا، أو أميركا، وانتهى به المطاف متعاطفاً مع تنظيم «داعش»؟ خطر لي هذا السؤال وأنا في نيويورك، أتجوّل في «شارع لي» من أعمال بروكلين. فنسبة مرتفعة جداً من سكان هذا الشارع والمنطقة المحيطة به هم من اليهود «الحريديم»، بالغي التشدد في أمر الدين، والحريصين على فرز أنفسهم عن سواهم بشعورهم وجدائلها، كما بطعامهم وجوانب من سلوكهم، فضلاً عن طرق تعاملهم مع النساء. لا بل تراهم هناك من الكثرة بحيث يُخيّل إلى الناظر أنّ «شارع لي» ونطاقه المباشر لا يعيش فيهما إلا يهود أرثوذكسيون متشددون وعائلاتهم. وهم يمارسون هناك حياتهم هذه على رغم أن الكثير من متطلبات عيشهم لم تعد نيويورك تقدمها لهم، وبعضهم يتجه للسبب هذا إلى إسرائيل التي يرون أنها توفر لهم هذه المتطلبات على نحو أفضل.

وهؤلاء، والحق يقال، ولدت أغلبيتهم الساحقة في نيويورك التي تُعدّ المثال الأكمل للحداثة في عالمنا المعاصر، علماً بأن هذه الحداثة هي أكثر ما يكرهون، مُحملينها مسؤولية محاصرتهم والتضييق عليهم وعلى قيمهم وأنماط عيشهم.

بيد أن نيويورك، إلى حداثتها، تتسع لتراكيب قَبَلية تؤدي بكل جماعة لأن تعيش في عزلة نسبية عن الجماعة الأخرى، لا بل هي تحضّ على امتلاك هوية صغرى وتطويرها إلى جانب الهوية الأميركية الكبرى. وما يسري على المدينة المذكورة إنما يسري بنسب متفاوتة على باقي المدن الأميركية، وخصوصاً أن نظرية «البوتقة الصاهرة» للجماعات الإثنية والدينية شرَعت، منذ الثمانينيات، تفسح في المجال لتعددية ثقافية وإثنية شبه مطلقة.

فإذا كان هذا التركيب الأميركي (وهو بالمناسبة تعرض لانتقادات عديدة من أنصار النظرية القديمة في الوحدة) يجعل بعض أبنائه عاجزين عن اللحاق به، ويزيد في مقتهم له، فكيف بالنسبة لعرب ومسلمين مهاجرين، ومعظمهم أبناء جيل أول للهجرة إلى أميركا أو أوروبا؟

لابدّ، والحال هذه، من العودة إلى عوامل ثلاثة مؤثرة على هذا الصعيد، لا يفعل الاحتكاك المباشر ببلدان الغرب غير تأجيجها:

فأوّلاً، هناك الوجه السلبيّ للعولمة التي قللت كثيراً إلحاح الاندماج في مجتمع الهجرة. فالمسلم المهاجر اليوم يستطيع أن يعيش حياته بالكامل كما عاشها في بلده الأصليّ: يصحّ هذا في المأكل والمشرب وتوافر دور العبادة والمدارس ومشاهدة التلفزيون وقراءة الصحيفة. وفوق هذا، لم تعد الهجرة تعني انقطاعاً عن الأصل، بدليل أنه قد يسافر أكثر من مرّة في السنة إلى بلده الأصلي، كما يستطيع أن يستقبل في بلد الهجرة، وعلى مدار السنة، مواطنين من بلده، بمن فيهم الأقارب والأصدقاء. ذاك أن المهجر أضحى مجرّد مكان، لا حاجة بالمهاجر لأن يتعلم لغته أو يتفهم ثقافته وعاداته.

ثانياً، هناك الأزمة الاقتصادية الضاربة في الغرب منذ قرابة ربع قرن، وهي من نتائج العولمة التي قضت على فرص للعمالة كان يشغلها المهاجرون، مصحوبة بنتائج انكفاء الدولة عن دعم القطاعات الأضعف والأقل تأهيلاً في المجتمع.

ثالثاً، وفي ما يخص العرب والمسلمين تحديداً، هناك التاريخ المأزوم للعلاقة بالغرب. ولئن كانت هذه العجالة لا تكفي لاستعراض هذا التاريخ وتعقيداته، يبقى أن عناوينه تمتد من الحروب الصليبية والصراع على إسبانيا ولا تنتهي بحرب الجزائر والنزاع في فلسطين.

وقصارى القول إن العيش في الغرب لا يغير العربي والمسلم بالضرورة نحو الأحسن، بل هو قد يغيره نحو الأسوأ. أليس بشار الأسد أحد الذين عاشوا في الغرب؟

المصدر: الاتحاد الاماراتية