“تهجير” الأوطان و”توطين” المهاجرين!

منار أبو رمان

بينما تُحدث الهجرة السورية اليوم إلى أوروبا أزمة عميقة في الاتحاد الأوروبي، الذي بدأت قيمه وقواعده، ومن ضمنها الفيزا الموحدة (الشنغن) بالاهتزاز، ما وصل بكبار المسؤولين هناك إلى اعتبارها أكبر تحدِّ يواجه أوروبا في الأعوام المقبلة، فإنّ هناك هجرات معاكسة تحدث من مختلف دول العالم إلى سورية!
الطرف الأول الذي يهاجر إلى سورية اليوم، هم الداعشيون. ووفقاً لقراءات أولية، فإنّ أرقام القادمين من الخارج تتجاوز العشرين ألف شخص، مما يقارب 80 جنسية عالمية. وقد يكون هذا الرقم عادياً أو متواضعاً، لا يحدث تغييراً ديمغرافياً- عرقياً يذكر، لكنّ خطورته تتبدّى ليس فقط في “الكمّ” بل في “النوع” والظروف التي تحيط بهذه الهجرة، لتجعلها مؤثرة كثيراً في البنية الثقافية داخل المجتمع السوري.
هؤلاء الآلاف (من القادمين) يتضافرون مع عشرات الآلاف ممن ينتمون إلى “داعش”، من عراقيين وسوريين وآخرين في سورية، فيشكلون الشريحة الحاكمة، وليتحكموا هم بالثقافة والمجتمع وقيمه والتربية والتعليم، ويفرضوا نظامهم الأيديولوجي على الحياة هناك، فلا يبقى أمام السكان إلاّ خياران: إما الهروب والهجرة إلى الخارج حاملين ثقافة الأوطان وذكرياتها وروحها معهم؛ وإمّا القبول بالانسلاخ عن ذلك كله، ليتحولوا إلى كائنات تابعة لداعش، ويسلّموا أبناءهم للتنظيم ليقوم بعملية غسيل دماغ كاملة لهم، فيصبح المجتمع بعد أعوام قليلة “داعشياً” بدرجة أكبر، أو بعبارة أخرى يتم “توطين داعش” وتجذيره.
التحولات الجارية لا تقتصر على “داعش”، في المناطق الشمالية والريف الشرقي، بل تصل إلى المناطق الشمالية الغربية، حيث هناك “النصرة” و”أحرار الشام”، وفيهما نسبة كبيرة من السوريين، لكنهم ليسوا كالسوريين سابقاً! إذ غيّرت وبدّلت فيهم الأعوام السابقة؛ وحتى سلفيتهم الشامية المتسامحة المعروفة تاريخياً بمرونتها، تلاشت أمام السلفية الجديدة، وأمام نظام عقائدي وفكري فقهي جديد تتزاوج فيه الأفكار الوافدة مع البنية الاجتماعية الهشّة التي تشكّلت مع الحرب الداخلية الراهنة!
على الطرف المقابل، كتب بالأمس المفكر السوري برهان غليون مقالاً بعنوان “سورية.. الحل السياسي في زمن الاحتلال الإيراني”، وهو يعدّ بحق من أخطر المقالات التي نشرت إلى الآن عن المشروع الإيراني في سورية. إذ كشف النقاب عن عملية “تطهير طائفي” مبرمج واستراتيجي تقوم به إيران في سورية، تجري على قدمٍ وساق؛ إذ يتم تفريغ العديد من المناطق من السُنّة، لإحلال شيعة قادمين من الخارج؛ من إيران والعراق وأفغانستان وأسيا الوسطى، محلهم!
وكنّا قد أشرنا سابقاً إلى المفاوضات الخطيرة ذات الدلالة التي تجري بين الإيرانيين مباشرة اليوم و”أحرار الشام” في منطقة الزبداني، وكيف أنّ الإيرانيين عرضوا عملية مبادلة سكانية لإجلاء وترحيل سكان الزبداني والغوطة الشرقية وريف دمشق الغربي مقابل إخلاء قريتي الفوعة وكفريا في ريف إدلب الشيعيتين، ما يكشف بجلاء أبعاد المشروع الإيراني وأهدافه الاستراتيجية، بإقامة منطقة شيعية موالية لإيران، أو بعبارة أدق “مستوطنة إيرانية كبيرة” ممتدة من ريف حماة إلى حمص، ودمشق وريفها الغربي وصولاً إلى الحدود اللبنانية.
في مقاله الخطير، يفضح غليون المشروعات الاستيطانية الإيرانية التي أعلن عنها تحت بند “إعادة الإعمار”، لكنها في الحقيقة تمثّل إعماراً جديداً في دمشق وحمص لمساكن للمهاجرين الشيعة القادمين من الخارج، ليستوطنوا في “الدولة الموعودة”!
الشيعة من مختلف أنحاء العالم يأتون لإقامة “الدولة الموعودة”، والداعشيون كذلك يأتون لإقامة “اليوتوبيا” الخاصة بهم، فأصبح الوطن هو “يوتوبيا” (حلم) الآخرين، بينما يحلم السوريون جميعاً بالهجرة إلى “الأوطان الموعودة” في أوروبا، يرحلون إلى هناك معهم سورية التي نعرفها، يحلمون بأوطان بديلة، فيما يعيش ما تبقى من سوريين في أرضهم غرباء ملحقين بالآخرين.. يا لها من مفارقة!

المصدر: الغد الأردنية