في ضرورة دعم وتحديث الدولة الوطنية عند العرب


محمد شومان

أشير بداية إلى حداثة تجارب الشعوب العربية في تأسيس دول وطنية، قياساً إلى أغلب دول العالم، مصر عرفت الدولة الحديثة منذ تولي محمد علي الحكم عام 1805، بينما عرفها بعض دول الخليج في سبعينات القرن العشرين، فيما يحاول الفلسطينيون إقامة دولتهم، ولا شك في أن هذه الاختلافات أسست تجارب مختلفة لمفهوم الدولة ومؤسساتها، وحدودها المادية والمعنوية، وشرعيتها وعلاقتها بالمجتمع.

أحد أهم إشكاليات بناء الدول العربية أن أغلبها لم يكن نتاج تفاعلات مجتمعية محلية، وإنما كانت نتاجاً لتوازنات وتفاهمات القوى الاستعمارية، التي أحكمت سيطرتها الاقتصادية والسياسية على الدول الوليدة، سواء أثناء الاحتلال أو بعد الاستقلال.

والإشكالية الثانية أن الدولة الوطنية الحديثة أخذت من الحداثة بعض مظاهرها، فكانت طائفية أو قبلية من حيث الجوهر وحداثية من حيث الشكل، لم يحترم فيها لا الدستور ولا القانون، ولم تعرف التعددية والديموقراطية وتداول السطة، وإنما ظهرت فيها نظم استبدادية أو شمولية معادية للحداثة والاستنارة، على رغم ادعاء البعض وجود لبعض نماذج «الاستبداد المستنير» في منطقتنا، بمعنى أن النظام الاستبدادي انتصر لقيم المساواة وفصل الدين عن الدولة ومحاربة الإسلامويين، كما حدث في مصر عبد الناصر، وتونس بورقيبة، وعراق صدام حسين، وسورية الأسد، وقناعتي أنه لا يمكن الجمع بين الاستبداد والاستنارة في أي كيان سياسي، كما أن نظامي الأسد وصدام «البعثيين!!» قاما على أسس طائفية وجهوية، ولذلك كان انهيارهما كارثياً وكاشفاً عن مدى ضعف مؤسسات الدولة وبنائها الطائفي، بينما تماسكت مؤسسات الدولة في تونس ومصر نتيجة أسباب تاريخية ومجتمعية خاصة، علاوة على تدخل الجيش في مصر، وهو بحق أحد أهم مكونات وأدوات الدولة المصرية الحديثة.

الإشكالية الثالثة في بناء الدولة الوطنية في المجال العربي ترتبط برفض الإسلامويين والقوميين العرب والماركسيين العرب فكرة الدولة الوطنية، لذلك تدرجت التيارات الثلاثة بأحزابها المختلفة في رفض أو عدم تقدير أهمية الدولة الوطنية، وكان مفهوم «الدولة القُطرية» في كتاباتهم بمثابة توصيف لكيان ضعيف ومصطنع وزائل انتظاراً لدولة الخلافة الإسلاموية، أو دولة الوحدة العربية أو الأممية الاشتراكية. والمفارقة أن المنتسبين للتيارات الأيديولوجية الثلاثة استفادوا مادياً ومعنوياً من الدولة الوطنية وشارك بعضهم في العديد من وزارات تلك الدول القطرية، أي أنهم ساهموا في بناء مؤسساتها وترسيخ وجودها المادي والرمزي!

وثمة إشكاليات أخرى في مسار تطور الدولة الوطنية في المجال العربي، لا يتسع المجال للوقوف عندها، لأنني أسعى في هذا المقال إلى مناقشة ضرورات دعم الدولة الوطنية والشروط اللازمة لضمان نجاح هذا الدعم، والتي تتضمن مراجعة وتحديث الدولة الوطنية العربية وعلاقتها بالمواطن، لذلك أدعو القارئ إلى مشاركتي التفكير في الملاحظات التالية:

أولاً: تعرضت الدولة الوطنية في المجال العربي في سنوات ما بعد الربيع العربي، لتهديدات داخلية وخارجية هائلة، أسفرت عن تدهور أو انهيار أوضاع الدولة والمجتمع في العراق وسورية واليمن وليبيا والسودان والصومال، حيث اختفى بعض أهم مؤسسات الدولة وظهرت كيانات طائفية أو جهوية أو عرقية تعتمد على العنف والإرهاب، وتهدد الحدود الجغرافية المستقرة والمتعارف عليها بين الدول العربية. وأعتقد أن الانتفاضات الشعبية التي تعرف بالربيع العربي لم تكن السبب الوحيد لانهيار الدولة في عدد من الدول العربية، وإنما كانت كاشفة لمدى ضعف الدولة وطائفيتها في سورية واليمن وليبيا، تماماً كما كان الاحتلال الأميركي للعراق كاشفاً عن خواء مؤسسات الدولة في العراق وطائفيتها، القصد لا يمكن تحميل الانتفاضات الشعبية أو الاحتلال الأميركي كامل المسؤولية عن انهيار الدولة في هذه المجتمعات، ولا بد هنا من التذكير بتدهور أوضاع الدولة في السودان، وانهيارها في الصومال من دون انتفاضات أو ثورات ربيع عربي أو غزو أجنبي.

ثانيا: أهمية مراجعة فكرة المؤامرة الدولية الاستعمارية الغربية الإسرائيلية لإضعاف الدول العربية وهدم مؤسساتها، خاصة الجيوش العربية وإعادة تقسيم حدودها. لقد انتشرت هذه الفكرة من دون مبررات سياسية أو منطقية، وارتبطت بأفكار غامضة عن الجيل الرابع من الحروب، وهو ما يستدعي مناقشتها بجدية واهتمام، لأن كل سيناريوات المؤامرة الدولية تؤدي إلى مخاطر هائلة، جيوسياسية، واقتصادية، وإنسانية، على أوروبا والمصالح الأميركية والإسرائيلية، إضافة إلى الصين وروسيا، ومن الصعب على هذه الدول التعامل مع عشرات من الدويلات الصغيرة المتحاربة، والتي يقوم بعضها على الفكر المتطرف والإرهاب، مقارنة بالدول العربية بحدودها الحالية. ولعل مآسي عولمة الإرهاب الإسلاموي وتدفق المهاجرين على أوروبا يكشف عن بعض تلك المخاطر، من هنا يمكن القول إن أوروبا وأميركا والصين وروسيا تحرص على استمرار الدول العربية بحدودها الحالية مع بناء شراكات اقتصادية وعسكرية لمواجهة الإرهاب.

ثالثاً: لا يمكن الرهان وبالمطلق على الحرص الدولي على إبقاء الدول العربية الحديثة التي ولد أغلبها استناداً إلى اتفاقية سايكس بيكو 1916، لأن هناك تحولات متسارعة في البيئة الدولية وتراجع ملحوظ لعناصر قوة الولايات المتحدة واهتمامها بالمنطقة، في الوقت نفسه يتزايد دور إيران وتركيا وإسرائيل، وأتصور أن مجمل هذه التفاعلات ينتج آثاراً متناقضة بشأن انهيار سايكس بيكو أو استمرارها، فمن ناحية تحرص إيران وتركيا على عدم ظهور دولة قطرية في العراق أو سورية، بينما تدعم العولمة من تراجع دور الدولة الوطنية، نظراً لتراجع أسعار النفط وظهور بدائل جديدة للطاقة ما يشكل ضغوطاً على قدرة الدولة العربية على الوفاء بالتزاماتها الاقتصادية تجاه مواطنيها، أو تقديم الدعم الاقتصادي أو العسكري لدول عربية فاشلة مثل ليبيا واليمن والصومال ما قد يفتح المجال لتغيرات محدودة وربما بطيئة في التكوين الجيو – سياسي لهذه الدول الثلاث.

رابعاً: أتصور أن أي تغيير في حدود الدول العربية الحالية سيؤدي إلى سلسلة من التفاعلات والتداعيات التي تخرج عن سيطرة كل الأطراف العربية، وتدفع المنطقة إلى حالة من الفوضى والاقتتال الداخلي، حيث ستطالب الأقليات الدينية أو الطائفية أو الإثنية أو القبلية بدويلات مستقلة تفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات بناء دولة، لذلك أعتقد بضرورة الحفاظ على الدول العربية بحدودها الحالية الموروثة من سايكس بيكو، ودعم مؤسسات الدولة في كل الدول العربية، وقناعتي أن هذا الدعم يتطلب عملية مراجعة وإصلاح وتجديد لدور الدولة ومصادر شرعيتها وعلاقتها بمواطنيها، من خلال صياغة عقد اجتماعي جديد واحترام لحقوق الإنسان، والعمل الجاد لاحترام الدستور والقانون، لأن أغلب الدول الحديثة في العالم نجحت في حل مشكلات الأقليات من خلال تطبيق صارم للقانون وتجسيد فعال لقيم وآليات المواطنة.

خامساً: في إطار مراجعة دور الدولة الوطنية الحديثة لا بد من الاعتراف بأنها لعبت أدواراً إيجابية خلال القرن الماضي، فقد أمنت لأغلبية الشعوب العربية مستويات مرضية من الاستقرار وحفظ الأمن، علاوة على تقديم الخدمات الأساسية بدرجات متفاوتة وفق الأوضاع الاقتصادية لكل بلد، ما أدى إلى زيادة سكنية كبيرة تفوق معدلات التنمية، أي أن ما قامت به الدولة العربية الحديثة ولد نقيضه الذي شكل ضغوطاً متزايدة على قدرة الدولة على الوفاء بمتطلبات هذه الزيادة السكانية خاصة احتياجات وطموح الشباب العربي الذي خرج في الميادين متحدياً سلطة الدولة في انتفاضات الربيع العربي، بينما ظل قطاع آخر من الشباب العربي يمارس الاحتجاج بشكل افتراضي عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تنتشر في دول لم تعرف انتفاضات الربيع العربي.

سادساً: أن الأدوار الإيجابية للدولة الوطنية جاءت في غالبية التجارب العربية على حساب حقوق الإنسان وفتح المجال العام والديموقراطية وتداول السلطة، وتضخم الأجهزة الأمنية التي حلت محل السياسة، إضافة إلى اختزال مفهوم ورمزية الدولة في شخص القائد أو الزعيم، ما يفرض ضرورة مراجعة هذه السياسات وتغيرها، عوضاً من محاولة إعادة إنتاجها وتطبيقها في سياقات لا تسمح بها ظروف العصر أو مكتسبات الشعوب العربية بعد انتفاضات الربيع العربي، وبعد تآكل سلطة الدولة على احتكار المعلومات والإعلام، باختصار لا يمكن الدفاع عن الدولة الوطنية من دون إصلاحات سياسية وعدالة اجتماعية وضمانات حقيقية لحقوق الإنسان، ما يحقق رضا المواطنين ويخلق شرعية حقيقية، تكفل قوة الدولة ومناعتها عند مواجهة أي تهديدات خارجية أو داخلية.

سابعا: إن الدولة الوطنية الحديثة عندما تحقق المواطنة الحقة ستكون قادرة على تفعيل الرابطة الوطنية كهوية وإطار أيديولوجي قادر على مواجهة أخطار الطائفية والإسلاموية والقبلية وجاذبيتها الأيديولوجية كهويات بديلة، وهنا لا بد من التأكيد على أن نجاح الرابطة الوطنية لا يتعارض مع العروبة أو الهوية الإسلامية كهويات ثقافية أوسع وعابرة للحدود الوطنية، وقناعتي أن العروبة لا تزال قادرة رغم كل سلبيات التجارب القوموية العربية (الناصرية والبعث) على تأسيس شراكات اقتصادية وسياسية بين دول عربية فقيرة وأخرى غنية في صيغ تكفل تحقيق المصالح المتبادلة وتشكيل خط دفاعي أيديولوجي ضد الإسلاموية المتطرفة والطائفية الضيقة. وفي ظني أن العلاقات الخليجية المصرية بعد 30 حزيران (يونيو) 2013 تشكل نواة لمثل هذه الشراكات.

المصدر: الحياة اللندنية