إنجاز أوباما في سوريا


فريد حيات

قد تكون أكثر مفاجأة في إرث الرئيس الأميركي باراك أوباما في مجال السياسة الخارجية أنه يبدو وكأنه لم يرأس الولايات المتحدة خلال كارثة إنسانية وثقافية قلما شهدنا نظيرها فحسب، بل دفع الشعب الأميركي أيضاً إلى الاعتقاد أنه لا يتحمل أي مسؤولية تجاه هذه المأساة.
أشعلت مجاعة بيافرا قبل جيل حركة كبيرة، وعملت الكنائس قبل عقد على حشد الدعم بغية التخفيف من البؤس في دارفور، وعندما دمرت حركة طالبان عام 2001 تماثيل بوذا القديمة في باميان وقف العالم مصدوماً أمام هذه الخسارة التراثية.
ويعمد تنظيم “داعش” اليوم إلى تفجير معالم ثقافية ثمينة في تدمر، في حين هُجر نحو نصف السوريين، ويُضاهي هذا على سبيل المقارنة تهجير 160 مليون أميركي من منازلهم، بالإضافة إلى ذلك قُتل أكثر من ربع مليون، ورغم ذلك لم تُبدل لافتات “أنقذوا دارفور” إلى لافتات “أنقذوا سورية”.
يعود ذلك في جزء منه إلى أن أوباما الذي وعد خلال حملته الرئاسية باستعادة مكانة الولايات المتحدة الأخلاقية، طمأن الأميركيين باستمرار إلى أن عدم اتخاذ أي خطوات يشكل سياسة أخلاقية وذكية، حتى إنه أكد أحياناً أنه ليس بيد الولايات المتحدة حيلة، مقللاً من شأن المعارضة السورية، وواصفاً إياها بـ”الأطباء، والمزارعين، والصيادلة السابقين وغيرهم”.
وأعلن أوباما أيضاً أننا قد نزيد الأوضاع سوءاً، فقد أخبر صحيفة New Republic عام 2013: “ربما أدرك أكثر من غيري حدودنا، فضلاً عن نقاط قوتنا وقدراتنا المذهلة”، كذلك ألمح إلى أننا لا نستطيع حل كل المشاكل، لذلك علينا على الأرجح ألا نحل أياً منها، فقد سأل: “كيف أوثر عشرات الآلاف الذين قُتلوا في سورية على عشرات الآلاف الذين يُقتلون راهناً في الكونغو؟ (مع أن الآلاف ما كانوا يموتون آنذاك في الكونغو)”.
وفي تلك المناسبات النادرة التي هدد فيها الضغط السياسي أو فظائع المعاناة في سورية بتهميش أي عذر لعدم التحرك، وعد أوباما بالتحرك في تصريحات أو تسريبات من البيت الأبيض: تدريب المعارضة أو إقامة مناطق آمنة على الحدود مع تركيا، ولكن ما إن يتجاوز الاهتمام العام هذه المسألة، حتى كانت هذه الخطط تنسى أو تُقلَّص إلى أن تصبح تافهة (تدريب 50 جندياً في السنة وعدم اتخاذ أي خطوات على الحدود التركية).
تكمن المفارقة في أن الرئيس، كلما ازداد الوضع في سورية سوءاً بدا مبرراً في قراره عدم التدخل في سورية، فالخطوات التي كانت تُعتبر مفيدة عام 2012 بدت غير مجدية عام 2013، والأعمال التي كانت ستنقذ الأرواح عام 2013 ما كانت لتجدي نفعاً لو طُبقت بحلول عام 2014، وبما أن المرأة التي ألفت كتاباً عن المحرقة (سامنتا باور)، والمرأة التي شنت حملة لقصف السودان بغية إنقاذ شعب دارفور (سوزان رايس)، استمرتا بكل ضمير طاهر الأولى سفيرة الولايات المتحدة إلى الأمم المتحدة، والثانية مستشارة الأمن القومي في الإدارة الأميركية، فقد حظي تمنع الولايات المتحدة بمصداقية أخلاقية إضافية.
لكن اللافت للنظر حقاً أن عدم التحرك لم يُعتبر شراً ضرورياً بل هو إنجاز كبير، فقد تمكنت الولايات المتحدة أخيراً من القيادة بعقلها لا قلبها، وبتواضع لا كبرياء، كذلك أشار أنصار “الحركة الواقعية” إلى أن الولايات المتحدة تقع في المشاكل عندما تسمح للمثل العليا والعواطف بالتحكم في أفعالها: حين أرسلت الجنود لإطعام الجياع في الصومال، مثلاً فإنها سرعان ما خسرتهم وغادرت البلد، كما شاهدنا في فيلم Black Hawk Down.
كان أنصار “الحركة الواقعية” محقين باعتبارهم أن على الولايات المتحدة أن تأخذ في الاعتبار المصالح مثل القيم، وأن تسير وفق وتيرة محددة، وأنها لا تستطيع إنقاذ الجميع، لكن الحجج الخالية من القيم يجب أن تتمكن على الأقل من تقديم البرهان على أن الغاية تبرر الوسيلة، في حين أن النتائج الاستراتيجية لوقوف أوباما جانباً جاءت كارثية بقدر عواقبه الإنسانية.
عندما سحب أوباما كل الجنود الأميركيين من العراق أعرب النقاد عن قلقهم من زعزعة استقرار هذا البلد، لكنهم لم يتوقعوا مطلقاً نشوء دولة إرهابية برمتها، وحين أعلن في شهر أغسطس عام 2011 أن “الوقت قد حان ليتنحى الرئيس الأسد”، عبر النقاد عن خوفهم من أن تبدو هذه الكلمات فارغة، بيد أن قلائل تخيلوا حجم هذه الكارثة لا وحشية الأسلحة الكيماوية و”البراميل المتفجرة” فحسب، بل تجنيد “داعش” آلاف المقاتلين الأجانب أيضاً، وامتداد هذا التنظيم من ليبيا إلى أفغانستان، والخطر الذي يهدد الأراضي الأميركية ويخيف المسؤولين الاستخباراتيين الأميركيين، وزعزعة اللاجئين استقرار أوروبا.
ولكن حتى لو لاقت سياسة أوباما النجاح بالمعنى الواقعي البحت، فإننا فقدنا أمراً مهماً في منح رأي الولايات المتحدة مصداقية. نعم، يبدو غضب الأمة على مر العقود غير عادل أو حتى أنه منافق حيناً وأناني أحياناً.
لكن تصميم الولايات المتحدة على المساعدة حمل ما يثير الإعجاب بالتأكيد، والسؤال المطروح هنا: حتى لو لم نستطع إنقاذ الجميع في الكونغو فهل يمكننا أن ننقذ أحداً من الشعب السوري؟ بيد أن نجاح أوباما في قلب هذا السؤال رأساً على عقب لا يشكل بالتأكيد مصدر فخر.

المصدر: الجريدة الكويتية عن الواشنطن بوست