في مواجهة التهجير… هل يعيد العرب «توطين» الحلول وتعريبها؟!


محمد عبد الحكم دياب

التقينا الأربعاء الماضي بنقابة الصحافيين المصرية على شرف ضيف مصري وضيفة انكليزية قادمين من لندن لزيارة القاهرة، وصاحب الدعوة كاتب معروف في أدب الرحلات والخيال العلمي.. وضم اللقاء زميلا من صحيفة «الوطن» المصرية، ومنتجا سينمائيا، وكاتب هذه السطور.. وكان الطفل السوري الشهيد إيلان شنو حاضرا.. ومع حضوره كان الشأن السوري غالبا على مجريات الحديث.. وحين أشرت إلى دلالة صورة الطفل التي هزت العالم، وأنها جسدت حالة متأخرة لاحتضار الأمة.. وذكرت أن ما تواجهه سوريا حلقة في سلسلة إفراغ المنطقة من سكانها بعد ضياع العراق وإلغائه من خريطة المنطقة والإقليم.. والثمن باهظ يُدفع دما وجماجم وأشلاء ودمار.. قال المضيف إذا ما تم تهجير السوريين فمن ذا الذي يحل محلهم.. قلت يحل محلهم من حل محل الفلسطينيين.. وهذه وظيفة وفلسفة الإبادة الثقافية والعرقية والتهجير القسري والإبعاد الممنهج لسكان المنطقة.. وظهرت في السنوات الأخيرة دراسات جادة تثبت ما نذهب إليه. ومن أهمها أبحاث ومؤلفات الباحث العربي منير العكش، الذي يصف نفسه بأنه أمريكي الجنسية.. سوري المولد.. فلسطيني بالاختيار.
ومنير العكش استاذ في الإنسانيات والعلاقات الدولية، ومدير مركز الدراسات العربية بجامعة سفك؛ بولاية بوسطن الأمريكية.. وله مؤلفات عديدة تناولت الإبادات الثقافية والعرقية؛ بكل صورها من التهجير ونشر الأمراض الفتاكة والأسلحة الكيماوية والجرثومية وإحلال شعوب على أشلاء شعوب أبيدت.. واستمرار ذلك النهج واستقراره في الحروب المعلنة والخفية للسياسات الاستعمارية، التي كثيرا ما تتغطى بتدابير ومظاهر معاكسة تجاه الشعوب والدول المستهدفة.. في ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب!.
تذكرت بعض ما سجلته على هذه الصفحة.. أثناء حرب الولايات المتحدة ضد أفغانستان في 2002.. والعلاقة التي ربطت جحيم «الغارات الحارقة» من جانب الطيران الأنكلو أمريكي على الأرض والبشر والزرع والضرع، و»الغارات الغذائية»، التي تتبعها.. فبعد كم النيران والحمم التي تسقط على رؤوس الأفغان ومنازلهم وتسويتها بالأرض تتحول «الغارات الحارقة» السوداء إلى «غارات غذائية» برتقالية.. صورة «سوريالية» لأكياس الطعام البرتقالية؛ لإخفاء جرائم الحرب والإبادة خلف قناع إنساني مزيف؛ يدفع الهائمين على وجوههم إلى مخيمات التهجير انتظارا للغارة التالية بقذائفها التدميرية والغذائية؛ بكل ما يترتب عليها من تهجير جديد وتشتيت للأسر وخراب للعمران…
تكررت الصورة وإن اختلفت في العراق.. وسبقت في فلسطين.. والمحرك والثقافة التي تقف وراء ذلك واحدة.. يباد من يباد، ويُهجر من يُهجر، ويُبعد إلى أقاصي الأرض من يذوب هناك بعيدا عن أرضه وبيته وأهله وتراثه وفنونه ومعارفه المتراكمة عبر آلاف السنين.. ويصبح كل هذا نسيا منسيا.. ولو تنبه الغافلون إلى علاقة «الغارات الحارقة» بـ»الغارات الغذائية»، وارتباط التهجير القسري بالاهتمام الدولي بالهاربين والمُهَجّرين، والدفع بهم بعيدا عن مواطنهم الأصلية دون تفكير في إعادتهم إلى مدنهم وقراهم ومنازلهم وأعمالهم وحياتهم.. فيصبح خروجا بلا عودة.. والكل شريك في هذا الجرم القائم على الخداع المتكرر؛ من الحاكم المسؤول إلى المراهن على حلول تأتي من عواصم السادة فيما وراء البحار.
لمحت الاستغراب في ملاحظات الكاتب المعروف، الذي لا يتصور إمكانية إبادة أمم بكاملها.. أما المنتج السينمائي فحمد الله بأن مصر بمنأى عن ذلك، وفي وضع يحميها من الإبادة ويعصمها من التهجير القسري.. ونسينا الهجرة والهروب في مراكب الموت والاحتراب والفساد وتوطين الأمراض الخبيثة والفتاكة والمبيدات المسرطنة.. التي تحصد الآلاف يوميا، والإحصائيات تقول بأن عشرة في المئة من المصريين في حالة «هجرة سائلة» لا تتوقف.. و15٪ منهم معرضون للموت كل دقيقة بسبب توطين الأمراض الخبيثة والفتاكة وتردي الخدمات الصحية؛ غير ضحايا حوادث الطرق، وهي الأعلى في العالم.
وهكذا تجد رجال إعلام وصحافة وثقافة يتناولون أمورا خطيرة بطيبة شديدة بل قل ببساطة متناهية.. وذكرت للمضيف بعض ما أعرفه عن إبادة الهنود الحمر.. وذكرت له ما سمعته من أحد زعمائهم في مؤتمر حضرته في ثمانينات القرن الماضي. قال إن المستوطنين الأوروبيين الذي قدموا إلى «العالم الجديد» أبادوا أكثر من 90 مليونا من أهل البلاد الأصليين. وقبلهم أبيد ملايين العرب والمسلمين من شبه جزيرة أيبيريا (الأندلس). وانتقلت الإبادات نحو جنوب الكرة الأرضية؛ استراليا ونيوزيلندا، وآلاف الجزر في المحيطين الهادي والهندي.
وإذا كان ما يجري في فلسطين والصومال والعراق وحاليا ليبيا وسوريا يعزز عمق واتساع دوائر الإبادة والتهجير القسري والإبعاد والتدمير الذاتي.. وارتباط ذلك بانفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على النظام الدولي؛ في حقبة تحول فيها العرب إلى حملان تنتظر سكين الجزار دون حول لها ولا طول.
على من تقع المسؤولية في ذلك؟ والرد يستوجب التجرد من آثار غسيل المخ والعقد الناجمة عن الحروب النفسية.. ليكون أقرب إلى الموضوعية.. وبداية لا يجب أن يعفي أحد نفسه؛ بتبريرات من قبيل من يسمح؟ وكأن مسؤولية الحفاظ على الكرامة الوطنية والدفاع عن الحق في الحياة الكريمة؛ بالسبل المشروعة، وما أكثرها.. يحتاج لتصريح أو رخصة.. وقليلو الحيلة يرون في الإذعان والتسليم بالضعف حلا.. ويحصرون وظيفتهم في تبرير الضعف والتسليم به.. وكأنه قدر ومكتوب لا فكاك منه..
ومشكلة أصحاب القرار العرب في وقوعهم في أسر ثنائيات كاشفة لعجزهم.. وفي تخليهم عن التفكير وترك حلول مشاكلهم لغيرهم.. والأمم الحية تستمد قيمتها ومكانتها من تحملها للمسؤولية ومن استخلاص الحلول الملائمة لمشاكلها.. والثنائيات الغبية أهم أسباب تحول الأمة إلى جماعات متناحرة أو لاجئة أو مهجرة تستجدي العالم وتتسوله وتمد يدها لكل من هب ودب.
وأسر الثنائيات جعل الأمة العربية لينة ورخوة.. ومنذ سبعينات القرن والترويج مستمر لثنائية الاستسلام أو الحرب، التي نقلت مصر من الاستقلال إلى التبعية. وانتهت باغتيال صاحبها، وأتى بعده من هو أكثر إذعانا وجعل من نفسه «كنزا استراتيجيا» للمشروع الصهيوني.. وما زال رجاله موزعين في أروقة الإدارات الرسمية؛ وصاغ مبارك ثنائيته؛ إما استمراره أو الفوضى.. ومع مرسي كانت الأخونة أو إعلان الحرب على الشعب والثأر منه.. والثنائية الحالية؛ الاختيار بين الأمن أو الحرية.. والحياة أوسع من أفق أصحاب القرار المتحكمين.. ومساحتها أكبر من أطماع منافس أو غريم أو خصم أو عدو.
وكانت ثنائية العراق؛ صدام أو الأمريكان، وذهب صدام وحل الغزاة وأذنابهم.. وزاغت الأبصار وغابت العقول حتى عجزت عن إبداع خيارات وحلول ملائمة ومناسبة. ولنجرب حلحلة العقدة السورية من خارج صندوق الثنائيات المميتة والعسكرة الدموية.. ونتعلم من تجاربنا المعاصرة.. ومن نجاح «الخيار الثالث» في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.. ولا يعني ذلك استنساخ ماض ولى، إنما المساعدة في البحث عن مخرج؛ من الممكن فيه أن تكون الثورة المؤجلة خيارا، والنهضة المعطلة خيارا، والمقاومة الغائبة خيارا، والحكم الرشيد المستبعد خيارا، أو كل ذلك مجتمعا؛ وشرطه استرداد الإرادة الوطنية واستعادة وحدة الأرض واسترجاع لُحمة مكونات الشعب وقواه، والتخلص من عبء الثنائيات الجاهلة والقاتلة..
هذا ما أوحت به رسالة البراءة الشهيدة؛ التي بعث بها الشهيد إيلان شنو.. وكأنه يقول بـ»توطين» الحلول وتعريبها من أجل العودة إلى حضن الوطن.. فهل يستجمع العرب شجاعتهم المُضَيّعة، ويعلنون هدنة تتيح لهم فرصة التفكير في حلول من «خارج الصندوق»؛ يقبل بها الوطنيون والقوميون والإسلاميون والليبراليون والشيوعيون والتائهون.

المصدر: القدس العربي