استدعاء الدين أضر بالحكومات والجماعات
16 أيلول (سبتمبر - شتنبر)، 2015
ابراهيم غرايبة
هناك اليوم فئتان سياسيتان تلحقان الضرر بنفسيهما إلى درجة تهددهما بالانحسار، بسبب علاقتهما المضطربة بالدين، وهما: النخب والسلطات السياسية التي تدير الدولة العربية الحديثة منذ تشكلها، وجماعات الإسلام السياسي التي شاركت في الحياة السياسية والعامة وطورت نموذجاً حداثوياً لعلاقة الدين بالدولة.
تعتبر الدول العربية والإسلامية الحديثة نفسها دولاً إسلامية، تشكل -كما ذكرنا سابقا- امتداداً للتاريخ الإسلامي وأنظمة الحكم الإسلامي القائمة منذ بداية التاريخ الإسلامي. لكنها سلكت في الوقت نفسه في بناء مؤسسات الدولة الحديثة وأنظمتها الانتخابية والقضائية والسيادية، نموذج الدولة الغربية الحديثة. وبذلك، فقد أنشأت بنفسها ولنفسها مأزقاً، وأوقعت نفسها في تناقض كبير في محاولتها الجمع بين الدور الديني والحداثة السياسية، ولم تحصل أيضاً على تأييد وشرعية من الجماعات الإسلامية وقطاعات شعبية واسعة، ولم تنشئ نظاماً سياسياً حديثاً قائماً على الحريات والمواطنة.
وتواجه جماعات الإسلام السياسي مأزقاً في نموذجه الذي تقدمه وتدعو إليه؛ فلا هو إسلامي ولا ديمقراطي. وهي في الوقت نفسه فقدت كثيراً من شرعيتها وصدقيتها السياسية والدينية أمام جماهيرها التي انحازت إلى النموذج المثالي والمتطرف الذي أنشأته جماعات الإخوان المسلمين والتيارات المرتبطة بها ثم تخلت عنه.
لقد أنشأت السلطات السياسية في تحالفها مع الجماعات الدينية -بحثاً عن الشرعية الدينية السياسية ولمواجهة التيارات السياسية المعارضة والمنافسة- إسلاماً سياسياً، استطاع أن يطور التراث الديني السياسي التقليدي إلى منظومة فكرية وعملية اجتذبت أعداداً كبيرة من المؤيدين، يمكن ملاحظتها في البنوك والمؤسسات الاقتصادية “الإسلامية”، وكذلك المدارس والجامعات ووسائل الإعلام، وفي الجماهير والجماعات المنظمة والمتعلمة التي انخرطت في الانتخابات النيابية والنقابية والبلدية، منشئة مشاركة سياسية وعامة بقواعد وأفكار جديدة ومختلفة. لكن هذا “الإسلام السياسي” تحول إلى “إسلام شعبي” مستقل عن الجماعات السياسية الإسلامية، كما هو مستقل عن السلطات السياسية، وإن كان يعمل في كنفهما وبالمشاركة معهما. وصار المستفيد الأكبر من هذا المد الشعبي هو الجماعات السلفية بتياراتها المتشددة والقتالية، أو تشكلات عشوائية ومجتمعية لا علاقة لها بالسلطات ولا الجماعات المنظمة. وأصبحت الظاهرة الدينية (كما التطرف) حالة خارجة عن السيطرة والمألوف، ولا يعرف حتى الآن من يمكنه أن يقودها أو يؤثر فيها. ففي الشبكية القائمة والمستمدة من تقنيات الحاسوب والاتصالات لم يعد ثمة حاجة كبيرة لجماعات منظمة أو قيادات ومؤسسات محددة. وإنه من المحير أن تكون الجماعات المنتجة للتخلف هي الأكثر استيعاباً للتقنية والمعارف الأكثر تقدماً.
ويبدو من البداهة بالطبع أن تنشئ الدول والنخب السياسية حالة جديدة من العلاقة بالدين، تكون أكثر ملاءمة للإصلاح والتقدم من دون معاداة للدين. فقد أثبتت القطيعة مع الدين أنها تزيد الحالة الدينية قوة وتماسكاً، كما أن الحالة القائمة في العلاقة بين الدين والحكم والسياسة يستحيل الاستمرار بها، بما تثيره من تحديات ومتاعب وتناقضات فكرية وواقعية. وأسوأ من ذلك ما أنشأته من حروب وصراعات وتهجير ومجاعات، وإهدار للأمن والاستقرار والمصالح، وتدمير المؤسسات والموارد.
ولا مجال أمام الدول والمجتمعات العربية والإسلامية سوى البحث عن نموذج يصلح لتفسير وتغطية السياسات القائمة، وينشئ أنظمة تعليمية ودينية تحقق انسجاماً معقولاً مع المصادر النظرية والواقع العملي. وربما يكون النموذج العقلاني في فهم الدين وتطبيقه هو النموذج الأكثر ملاءمة وجاذبية وإقناعاً لفئات واسعة من المثقفين والعقلانيين وقبولاً من الاتجاه العالمي والذي حسم أمره في هذا الاتجاه، ولكنه نموذج لقي حرباً ومعارضة واسعة من المؤسسات الرسمية السياسية والدينية في الحكم والجامعات والطبقات الدينية والتقليدية بالإضافة إلى الجماعات الإسلامية السياسية.
وعلى أي حال، فلا خيار لنا سوى النظر إلى العالم المشهود والواقع القائم بما هو كذلك، وعلى أساس الإقرار مسبقاً بعدم معرفته، ما يعني بالضرورة أنه ليس لأجل ذلك ثمة حق نزل من السماء، ولا مناص لنا سوى أن نفهم ما نريده ونحتاج إليه، بما تسعفنا عقولنا ومداركنا في الرؤية والاستيعاب.
المصدر: الغد الأردنية
“استدعاء الدين أضر بالحكومات والجماعات”