المؤثرات غير المرئية في سياسة أمريكا الخارجية


عاطف الغمري

كثيراً ما يتوقف التحليل السياسي بالحيرة أمام تناقضات السياسة الخارجية للولايات المتحدة، خاصة أنه ينظر إليها كدولة مؤسسات، تعمل كلها حسب قواعد وأنظمة فى غاية الدقة والحرفية. لكن التفسير الذي يطرحه بعض المختصين بالسياسة الخارجية من الأمريكيين، يكشف عن وجود ثوابت في الفكر السياسي، تعلو أحياناً على استراتيجية السياسة الخارجية، التي تتحرك قراراتها في إطار هذه الاستراتيجية، وهي الثوابت التي تتمسك بأولوية التفوق والهيمنة قبل أي شيء آخر.

ولا خلاف على أن الاستراتيجية الأمريكية، ملتزمة بقواعد عمل مستمرة للأجل الطويل، وإن كانت تتمتع بقدر من المرونة التي تحاول بها التكيف مع أي تطورات كبرى، لم تكن في حساباتها.
ومن خلال هذه الصورة العامة بكل مكوناتها العديدة، تظهر لنا سياسة أمريكا في أحيان كثيرة مسببة للحيرة. وهو ما يدفع بعض المحللين لتناول الشكل الظاهر لها، بينما هناك في الكواليس محركات أخرى لسياسة الدولة، قد لا تكون مرئية.
ولعل من بينها أولاً وجود مدرستين رئيسيتين للسياسة الخارجية، ليس بالضرورة أن كلاً منها تعبر عن تفكير حزب سياسي في الحكم أو في المعارضة، بل إن أنصار كل منهما يتوزعون على الحزبين. ولكل منهما تأثير نافذ في صناعة السياسة الخارجية.
ومن بين هذه المحركات ثانياً أن الفكر السياسي قد تكون له أحياناً، الأولوية في توجيه القرار، سابقاً بذلك المؤسسات التنفيذية. وقد حدث مراراً في عهود بعض الرؤساء، لجوؤهم لاستلهام رؤية مفكرين سياسيين، في تحديد سياسة خارجية للتعامل مع مشكلة دولية، لم يكن الجهاز التنفيذي المعاون للرئيس في مجلس الأمن القومي، أو وزارة الخارجية، قد توصل إلى رؤية تخص كيفية التصرف مع هذه المشكلة.

ومنها ثالثاً تأثير قوى الضغط المنظمة، والتي تمارس دورها، وفقاً للدستور، ولطبيعة النظام السياسي بالضغط على الرئيس والتأثير في قراراته في أحيان كثيرة.

وأصحاب هذه المؤثرات، على اختلافها، عادة ما يدلون بدلوهم في عملية صناعة السياسة الخارجية.

وعلى سبيل المثال فقد ظهر في أعقاب نهاية الحرب الباردة، تياران متعارضان، أحدهما يضم من أطلق عليهم دعاة الانتصار. ومن برأيهم أن انتصار أمريكا في الحرب الباردة يعطيها شرعية نشر الديمقراطية عن طريق السياسة الخارجية. ومن أبرز دعاتها البروفسور صمويل هنتنغتون، وستروب تالبوت الذي كان نائباً لوزير الخارجية في إدارة كلينتون.
أما التيار الثاني، فقد دعا لمراعاة الواقع الراهن في العالم، وفي تقديره أنه حتى مع انتصار أمريكا، إلا أنه ينبغي النظر إلى عصر ما بعد الحرب الباردة، من زاويتين لا انفصال بينهما: وهما التعقل السياسي، والقلق معاً، وإن على أمريكا ألا تتورط في عالم تجتاجه صراعات عرقية. ومن أنصاره جيمس شلينرنجر وزير الدفاع الأسبق.

ورغم ما جذبه كل من التيارين إليه من مؤيدين لفترة لم تستمر طويلاً إلا أنهما بقيا على هامش القوى الرئيسية المؤثرة في السياسة الخارجية، والمعترف بها في مدرستين دائمتين للسياسة الخارجية، وهما المدرسة المثالية التي تؤمن بالسيادة المطلقة لأمريكا على العالم، حتى ولو فرضت سيادتها بالقوة. أما الثانية فهي المدرسة الواقعية والتي ترى بالسيادة النسبية، بمشاركة آخرين، والعمل على نشر الأفكار الأمريكية بطريقتين، هما إغراءات القوة الناعمة، وكذلك دعم علاقات التعاون في مجالات كثيرة.
وفي إطار طرح النظريات، ورؤى الفكر السياسي، فبالرغم من تأثيرها إلا أنها لا تخلو أحياناً من التناقضات. فمثلاً كان صمويل هنتنغتون قد أعلن في فترة التسعينات، نظريته عن صدام الحضارات، وكان من أشد مؤيدي فرض المبادئ الأمريكية بالقوة. حتى إن صحيفة «نيويورك تايمز» وصفت نظريته عن صدام الحضارات بين الغرب والعالم الإسلامي، بأنها دعوة لحرب عالمية ثالثة، أكثر من كونها رسالة لمستقبل مستقر.
ونفس المعنى ذكره المفكر الفرنسى بيير هاسنر، في مناظرة نظمتها المجلة الفصلية «ناشونال إنترسيت»، التي تهتم أساساً بقضايا الفكر السياسي. وقال إن مضمون النظرية يشير إلى أنها ضد العرب، لأن الحضارة الإسلامية كان موطنها الأصلي بلاد العرب.

لكن هنتنغتون قام بعدها، برأي مخالف ومناقض لرؤية الأول عن تدخل أمريكا بالقوة في الخارج، وقال في مقال بمجلة «فورين أفيرز»، إن قوة أمريكا في هبوط، وإن سياستها الخارجية مفككة، تحت تأثير جماعات ضغط داخلية، كل منها يدفع بالسياسة الخارجية، في الاتجاه الذي يحقق مصالحه.

وبالرغم من تعدد مراكز التأثير في السياسة الخارجية، إلا أنه يبقى هناك مبدأ أساسي لها، وهو مبدأ توازن القوى، الذي لا يستطيع صانع قرار السياسة الخارجية أياً كان، وفي عهد أي رئيس، أن يتجاهله. فإذا حدث أن اكتسب طرف دولي في علاقة مع أمريكا، قدرات تجعله مؤثراً إقليمياً ودولياً، استنادا إلى قفزات داخلية، وقدرة على حشد مصادر قوته وراء مطالبه ورغباته، فإن هذا لا بد أن يدفع الولايات المتحدة، لإدخال تغييرات على قرارها، ربما يدفعها للعدول عنه، أو اختيار اتجاه مختلف. وهذا هو دور عنصر المرونة الذي يلعب دوره أحياناً في السياسة الخارجية الأمريكية.

المصدر: الخليج الإماراتية