مناورة بوتين وحيرة أوباما


تشارلز كراوتامر

يقع أوباما وفريقه مرة أخرى في الحيرة؛ لمَ يرسل فلاديمير بوتين عدداً كبيراً من الجنود والأسلحة إلى سورية؟ فكما أخبر وزير الخارجية الأميركي مراراً نظيره الروسي سيرغي لافروف، تزيد هذه الخطوة الطين بلة.
ولكن بالنسبة إلى مَن تزيده بلة؟ بالنسبة إلى آلاف المدنيين الإضافيين الذين سيموتون أو يهربون نتيجة القتال الذي سيشتد لا محالة. هذا صحيح، لكنني واثق من أن لافروف متأثر بمعاناتهم بقدر تأثره بوفاة 8 آلاف شخص في مغامرة روسيا الصغيرة المذهلة في أوكرانيا.
يشعر كيري وأوباما دوماً بالحيرة لأنهما لا يستطيعان فهم الرجال المتصلبين في الكرملين، ورغم ذلك تبدو أهداف بوتين في سورية واضحة على نحو جلي:
1- تأكيد نفوذ روسيا في الشرق الأوسط وجعلها قوة مهيمنة في الخارج: يبقى طموح بوتين الأول الانتقام وعكس خسارة روسيا المذلة لمكانتها كقوة عالمية قبل نحو ربع قرن، لكن فهم هذه المسألة ليس سهلاً بالنسبة إلى رئيس أميركي يرعى بدأب منذ سبع سنوات تراجع الولايات المتحدة في الخارج.
2- دعم حليف روسيا العربي القديم والأكثر أهمية: منذ طرد أنور السادات السوفيات من مصر عام 1972، يشكل آل الأسد في سورية حليف روسيا الأساسي في الشرق الأوسط.
3- توسيع نفوذ الجيش الروسي بحد ذاته: لهذا الجيش قاعدة بحرية في طرطوس، وهي الوحيدة خارج روسيا، كذلك له حقل جوي قرب اللاذقية يوسّع راهناً ليشمل دبابات قتالية، وحاملات جند مدرعة، ومدافع هاوتزر، ومساكن لنحو 1500 جندي (ما يشير بقوة إلى أن روسيا ستنزل بعد ذلك الجنود على الأرض في سورية).
4- طرد الأميركيين: يعتبر بوتين اللعبة الجغرافية-السياسية لعبة ربح وخسارة: فإن ربحت روسيا، تخسر الولايات المتحدة. وها هو يبرهن اليوم على مَن تستطيع أن تعتمد في هذه المنطقة الكثيرة الاضطرابات، إذ لم يولِ أوباما الأكراد الكثير من الاهتمام، ونفّر حلفاء الولايات المتحدة بعقده صفقة مع إيران، وتخلى عن السنّة في الأنبار، مع أنهم ساعدونا في تحقيق الانتصار مع عملية زيادة أعداد الجنود في العراق. في المقابل، يخاطر بوتين بإنزال الجنود على الأرض لإنقاذ حلفائه السوريين.
يؤكد أوباما ضرورة رحيل بشارة الأسد، ويرسم الخطوط الحمراء بشأن الأسلحة الكيماوية، ولا يحرك ساكناً، أما روسيا، فتعمل لدعم حليفها اليائس، فإلى جانب مَن تريد أن تقف؟
5- إعادة الشرعية إلى روسيا ما بعد القرم بجعلها دولة لا غنى عنها في سورية: تُعتبر هذه خطوة بارعة تصيب عصفورين بحجر واحد. ففي الأمم المتحدة بعد أيام، سيقدم بوتين روسيا كعضو أساسي في ائتلاف جديد مناهض للدولة الإسلامية، وفي المقابل تخفق حرب أوباما الظاهرية بجنودها المحليين (لم يؤدِّ برنامج التدريب الذي كلفنا 500 مليون دولار إلا إلى خمسة مقاتلين حتى اليوم)، وحملتها الجوية العبثية إخفاقاً ذريعاً؛ لذلك يقترح أوباما أن تقود روسيا، وإيران، وحزب الله الحرب ضد الجهاد.
عرض بوتين واضح: كفوا عن محاربة الأسد، واقبلوا روسيا كلاعب أساسي، وارضخوا لهيمنة روسيا-إيران-حزب الله الإقليمية، وسنقود الحرب ضد “داعش” من الأمام.
ثمة مكافأة إضافية أيضاً: يبقى الجزء الأكثر ذكاء من مناورة بوتين علاجه غير المعلن لأزمة اللاجئين في أوروبا.
بعد أن تملك الخوف والشعور بالذنب الأوروبيين، ما عادوا يعرفون ما عليهم فعله، لكن بوتين يقدم لهم المخرج: لا حرب، لا لاجئين. أنهوا الحرب الأهلية السورية، فلا يتوقف تدفق اللاجئين إلى أوروبا فحسب، بل يعود أيضاً مَن وصلوا إلى أوروبا إلى وطنهم.
يقول بوتين: سووا الحرب من دون الإطاحة بعميلي (نظام الأسد بالتعاون مع بعض قوات المعارضة “الجيدة”)، وأحل أنا كابوس اللاجئين الذي يطاردكم.
لا يسعك إلا أن تقف مذهولاً أمام هذه المفارقة، فما يحرك أزمة اللاجئين في النهاية هي الحرب، وما يحرك الحرب هما إيران وروسيا، فهما تقدمان المواد، والأموال، واليوم على نحو مضاعف الجنود الذين يؤججون القتال، وهكذا يؤدي مفتعل الحريق دور رجل الإطفاء.
لا يهرب معظم اللاجئين من “داعش”، صحيح أن شرور هذا التنظيم أكثر شراسة، إلا أنها تتركز عموماً على الأقليات، مثل المسيحيين والأيزيديين، وقد سبق أن تعرضت هذه الأقليات لعمليات تطهير إثني واسعة في أراضي الدولة الإسلامية، لكن مخيمات الاحتجاز الأوروبية تكتظ بسوريين هاربين من وحشية الأسد، وخصوصاً هجماته ضد المدنيين، مستخدماً المدفعية، وغاز الكلور، والبراميل المتفجرة الممتلئة بالمسامير.
وهنا يهب بوتين للنجدة، فعلى غرار ما شهدناه مع معضلة الأسلحة الكيماوية، يتقدم لينقذ الوضع، فإن رضخنا تصبح روسيا شريكاً لا غنى عنه، وتبدأ بتنسيق العمليات العسكرية والدبلوماسية معنا (اتفقنا لتونا على التفاوض بشأن الحشد الروسي في سورية)، وهكذا تُرفع العزلة التي فُرضت عليها بعد أوكرانيا، وتتحول بالتعاون مع إيران إلى حكم إقليمي.
في الختام، قد لا تنجح استراتيجية بوتين، إلا أنها خطيرة بالتأكيد وليست غامضة البتة، لذلك يستطيع البيت الأبيض الكف عن حك رأسه الجماعي كلما أفرغت طائرة كوندور حمولتها من الدبابات والجنود في اللاذقية.

المصدر: الجريدة الكويتية