مأساة العجز العربي الأوروبي


واسيني الأعرج

هناك حالة من الدهشة تنتاب كل من يتأمل المشهد العربي اليوم. كيف لهذه الآلة الحربية الغربية الاستعمارية الجديدة، التي دمرت الدولة في العراق وليبيا، وفككت سوريا، وعمقت مأساة اليمن، ودمرت الوحدة السودانية، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، أن تعجز اليوم عن تحمل نتائج عملها. سؤال يطرح بقوة بالنظر إلى ما يحدث في العالم العربي. عندما بدأت طاحونة التدمير تعمل عملها، وكان العراق فاتحتها، كان الهدف الأساسي منع صعود قوة عربية منافسة لإسرائيل عسكريا، في المنطقة، في ظل تحالف صريح وواضح بين الحركة الصهيونية والمحافظين الجدد. صحيح أن الدكتاتورية العربية كنظام قمعي متشابه، ومتخلف ومعاد في جوهره لأية حداثة وأي تطور، يحتاج اليوم إلى دراسة منابعه الأولى، ومن كان وراءه؟ ومن حركه؟ ومن حافظ عليه باستماتة واستفاد منه بقوة وبأرخص الأثمان؟ فقد كان هذا النظام مدمرا لشعوبه بمنعه ظهور أية بدائل ديمقراطية، حتى تحول إلى شيء يشبه القدر، لا يمكن تفاديه.
يبدو واضحا اليوم، أنه لم يكن الهدف من قطع رؤوس الدكتاتوريات العربية هو تدمير النظام الذي استقرت عليه، ولكن إعادة إخراج تضمن التفكك في البلاد العربية. تدمير ما بني حتى ولو كان ضئيلا. فقد حلمت بعض الدول العربية بأن تتوازن مع إسرائيل، في امتلاك الشر النووي، وفي عسكرة المنطقة. وجدت في الغرب الجديد سوقها لاقتناء التكنولوجيا الضرورية لذلك. فباع لهذه الدكتاتوريات التي أكل رأسها لاحقا، كل الصناعة القمعية لمراقبة أنفاس شعوبها وإذلالها. وباع لها أيضا الآلات المعقدة والطائرات، لدرجة أن خلق من العراق، إعلاميا على الأقل، رابع قوة عالمية. ما أوهم صدام انه أصبح خارج السيطرة.
وبعد أن أخذوا مليارات الدولارات مقابل بيعهم له المفاعلات الأولية لصناعة نووية محتملة، إذ كانوا على دراية بكل تفاصيلها، وباعوه الأسلحة الكيماوية، انقضوا عليه بمباركة غربية وعربية، ليدمر كليا. الشيء نفسه فعلوه مع ليبيا، حيث دُفِع نظامها مجبرا إلى أن يدمر ما اشتراه القذافي من أجهزة ومخزونات كيماوية من الشركات الغربية، كلفت الخزينة الليبية مالا كبيرا، وقادته إلى الفقر في دولة نفطية بامتياز. سوريا التي تفادت القصف على مواقعها الحيوية، بأن سلمت كل سلاحها الكيماوي الذي لا يتوازن في شيء مع النووي الإسرائيلي، لكنه قادر على الأقل على الأذى عند الاعتداء، لا تخرج عن هذا الوضع العام. من يحاسَب اليوم، البائع أم المشتري، أم الاثنان معا؟. المالك لهذا السلاح الكيماوي، الذي لن يستعمله إلا عند الضرورات الحربية الداخلية أو الخارجية العربية- العربية، أم الذي استلم المليارات مقابل بيعه لهذا العتاد الحربي الذي التهم ميزانيات دول بكاملها. أليس البائع هو صاحب الصناعة المتفوقة؟ الغريب أن هذه الدول الغربية مصابة بحالة بياض كلي. لا تعيد النظر في نفسها أبدا باستثناء ردة فعل بعض المثقفين المتنورين هنا وهناك. حالة أمنيزيا كلية. حتى الشركات الغربية التي حاولت أن تكشف عن بعض أسرار هذه الصفقات، ليس حبا في العرب ولكن لأغراض سياسية وانتقامية وصراعات انتخابية داخلية، أسكتت بمختلف الضغوطات.
المحصلة النهائية التي يجب أن تظل ماثلة للأعين، هي أن يظل العرب تحت رحمة الآخر الاستعماري، ولا يطور شيئا. ماذا لو امتلك العرب ما تمتلكه إسرائيل من أسلحة الدمار الشامل أو غيرها؟ هل كان سيحدث ما يحدث اليوم من إذلال للعرب؟ طبعا، إسرائيل فكرت بشكل براغماتي في وقت مبكر مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية في كيفية تأسيس ترسانة نووية دفاعية لم تعترف بها حتى اليوم. المشكلة ليست فيها، ولكن في العرب الذين لا يعرفون إلى اليوم أن حياتهم وجوديا مرتبطة بقدراتهم على الدفاع عن أنفسهم. خطر موتهم أصبح حقيقة وليس خرافة. لهذا، فمأساة اللاجئين اليوم، إذا كانت الدكتاتوريات تتحمل القسط الأكبر بسبب أنظمتها المتخلفة، العرقية والإثنية والطائفية وغيرها، فهي نتيجة، تتحمل أوروبا وأمريكا في صورتهما الاستعمارية، مسؤولية كبيرة في ما يحدث من تشريد لشعوب بكاملها، تتجه اليوم بخطى حثيثة نحو إفناء بعضها البعض، في شكل حروب أهلية وحروب الإخوة. الهجرة ستكون عارا على الضمير الأوروبي وهلوكوستها الثاني الذي سيتبعها أبدا، إذا استمر الوضع على ما هو عليه، وسيكون أكثر فداحة من هولوكوست النازية. لنخترق هذه الأمنيزيا المريحة للذاكرة الغربية. من أبدع قنبلة «القاعدة» ونمّاها بحسب المرحلة ليخرج من صلبها «داعش»؟ لا أضيف جديدا إذا قلت إنها جاءت لتلبية الحاجة الحربية، إذ لا بد من خلق عدو مخيف للشعوب الغربية، أولا، وتحليل الحروب، والتدخل، بل استباحة أراضي الغير. هناك حلول كثيرة كانت في يد الدول العظمى لو أرادت تفادي الحروب، تبدأ من الضغط على الأنظمة جديا من خلال الشرعية الأممية، بتغيير سياساتها، وفك الكربة عن شعوبها، وتنتهي إلى التهديدات الجدية ومحاصرتها اقتصاديا وماليا، لا أن يحل كل شيء، وتدمر الدولة وليس النظام، وتتحول البلاد العربية إلى مرتع للصراعات الدينية والإثنية والعرقية واللغوية، وضباع التسيد والسلطة. أن لا يدمر العراق لينزل بعدها جزء كبير من البعثيين المرتبطين عضويا بالنظام، بكل خبرتهم العسكرية، نحو «القاعدة» وتشكيل «داعش» التي وجدت في أيديولوجية التخلف ضالتها، وفي الخبرة البعثية وسيلتها. ولا أن تمزق أطراف سوريا كليا، ولا أن يخرب التوازن القبلي الليبي واليمني حيث ستتسيد القبائل، التي لا دولة تحكمها.
يحتاج العرب اليوم إلى ابتداع فهم جديد للدولة متعددة الثقافات والأعراق واللغات، والقبول بها إذا قدر لهم الخروج سالمين من محنة الحروب البينية. كل هذا لا يمكن فصله عن قضية اللاجئين، قبل التهرب والاجتماعات الفارغة التي لن تفضي إلا إلى المزيد من الحلول العسكرية والإرهابية. ما تفعله المجر حاليا والنمسا والعجز الأوروبي والظواهر العنصرية المتطرفة التي تظهر هنا وهناك، كلها تبين حالة العمى الذي تعاني منه أوروبا على وجه الخصوص. الدور العربي التابع دوما، كالعادة، لم تكلفه هذه المأساة حتى اجتماعا شكليا لجامعة الدول العربية المتهالكة، تؤخذ فيه الصور التذكارية للحاضرين وللجلسات الأولى الفارغة التي يحتدم فيها الصراع وينتهي كل شيء.
سقطت اليوتوبيا في النهاية، فماذا ينتظر من جامعة أسسها الإنكليز لغرض في نفس أللمبي ولورانس العرب، بعد تفكيك الأراضي العربية؟ من الأفضل اليوم، بل من المرغوب فيه حل هذه الجامعة، ولن يتغير شيء في المشهد السياسي العربي، والاكتفاء بالتجمعات الجهوية الكبرى كالاتحاد المغاربي بعطالته وبؤسه وشقائه، فهو أفضل من جامعة ميتة توظف الآلاف بلا معنى، والاتحاد الخليجي الذي يشكل أيضا قوة جهوية مهمة، وغيرهما من التجمعات الممكنة، وتعيين منسق إنكليزي أو أمريكي، أو حتى عربي إذا اتفق العرب عليه، ليس مهما، لانّ مهمته ستكون تقنية تنسيقية لا أكثر، فيقوم بتنظيم الجهود لإيجاد حلول عملية كالمساعدات المادية واللوجيستية الضرورية حتى لا يموت الناس جوعا وبردا وتشردا.
أما التضامن العربي، فقصة أخـــــرى، من الأحسن ترك البئر بغطاه، لأنه مات منذ زمن ليس بقليل، وأصبح مجــــرد جــــملة جوفاء تقال لإسكات غضــــب الشعوب العربـــــية، ما دامت الحلول الاستراتيجية العربية والتفكير فيها، جديا، غير واردة حاليا.

المصدر: القدس العربي