هل شرعية الحاكم العربي شعبية أم أجنبية؟ بشار الأسد نموذجا


د. مثنى العبدالله

أثار التدخل العسكري الروسي في الأزمة السورية، بالثقل الكبير الذي رأيناه مؤخرا، سؤالا جوهريا حول المصادر التي يستمد منها الحاكم العربي شرعيته.
قد يمس هذا التساؤل بشار الأسد بصورة مباشرة، نظرا للحالة السورية الراهنة، لكنه في الحقيقة يلقي الضوء على أزمة الشرعية لكل الحكام العرب، لأن هدوء الوضع السياسي والأمني في أي من الأقطار العربية لا يعني بالضرورة أن شرعية الحاكم متوفرة. يُرجع علم السياسة شرعية الحاكم إلى عدة مصادر، مثل الهوية الوطنية، وسيادة القانون، والإنجاز، وشخصية الحاكم نفسه. ولو جعلنا موضوع الهوية الوطنية مقياسا لشرعية حكامنا، لوجدنا أن أغلبهم يفخر بهويته الصغرى ويدعو لها، ويعتمد عليها اعتمادا مباشرا عند تطبيقه المشروع السياسي الذي يسير عليه، إلى الحد الذي أيقظ كل الهويات الصغرى في المجتمع، وكان سببا مباشرا في إعادة النسيج الاجتماعي وفق صيغة النشأة الأولى التي نشأت عليها مجتمعات ما قبل الحضارة.
فعندما يقف المسؤول التنفيذي الأول في الدولة معرفا نفسه بأنه شيعي أولا، كما قال رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي، أو حين قسّم المجتمع إلى فريق يزيد وفريق معاوية، يصبح من الطبيعي أن يُعرّف الآخرون أنفسهم بطوائفهم أيضا، وبالتالي لا يفقد المسؤول شرعيته فحسب، بل أن السلطة في إطارها السياسي تفقد التأثير الجمعي وتصبح غير قادرة على صناعة الحدث، لأن الانقسام المجتمعي يحول دون التوصل إلى إجماع بين الحاكم والمحكوم، على أرضية مشتركة يقوم عليها النظام السياسي، مما يؤدي إلى إرباك في كل مناحي الحياة. هذا الاهتمام غير الشرعي بالهويات الصغرى للحاكم العربي على حساب الهوية الوطنية، جعلهم يهتمون بجغرافيات هذه الهويات، قابلها قلة وانعدام اهتمام بالمؤسسات الوطنية. وعندما تخلق مؤسسات أصيلة قادرة على حماية المواطن ينسى الجميع الجغرافية الطائفية، لأن المؤسسات توحد المجتمعات، بينما الجغرافية وسيلة دفاع، وعندما تهبط المؤسسات تنفجر الجغرافية وتندلع الحروب وينعدم التفاهم على كل شيء، وهذا هو الحاصل اليوم في مجتمعاتنا العربية.
ولو استنطقنا بالبحث والتحليل كل مصادر الشرعية الأخرى التي تُشرعن وجود الحاكم العربي، لوجدناها ترفض منحه ثقتها، فالقانون على سبيل المثال في عالمنا العربي صُمم خصيصا كي يمنح الحقوق ويقلص الواجبات، لفئة تحمل هوية الحاكم الطائفية أو العشائرية أو العائلية أو الحزبية نفسها، بينما كان ومازال سوطا مسلطا على فئات اجتماعية أخرى، هي ليست من دائرة الحاكم، ما خلق نظام حكم جديدا قائما على صفتي الانتفاع والتسلط في الوقت نفسه، وهي مرحلة جديدة لم يشهدها العالم العربي، حيث كان نظام الحكم السائد يعتمد السلطة كأداة للسيطرة، لكنه لم يكن مصدر إثراء للحلقات الأقرب، لكننا نجد اليوم أن 20 بالمئة من الثروة لحساب الاولاد والحاشية. وعندما حصل الاعتراض الشعبي كان العنف هو الوسيلة الوحيدة التي واجه الحاكم بها شعبه، بعد أن استنفدت الاساليب الاخرى جدواها مثل تخويف الناس بالفوضى، أو الخلافات العشائرية والقبلية أو رش الاموال عليهم.
إن البنى السياسية القائمة في منطقتنا العربية منذ عشرات السنين نفذ ذخائرها واستنفدت ذاتها. لقد تأخرت انظمة الحكم السياسي القائمة لدينا في الموضوع الديمقراطي حتى عن الموجة الديمقراطية الثالثة، التي بدأت في جنوب أوروبا ثم انتقلت إلى أمريكا اللاتينية وبعدها إلى أوروبا الشرقية، ما جعل أنظمتنا السياسية خارج السياق الديمقراطي تماما. نعم اليوم لدينا برلمانات لكنها شكلية، ولو نظرنا إلى السلطات نجدها قد تراجعت إلى جمهوريات وراثية. بشار الاسد أبرز مثال على ذلك، والبرلمان العراقي والليبي والمصري والسوري وغيرها شهود على المهزلة البرلمانية. وفي موضوع الإنجازات التي هي مصدر شرعية الحاكم كذلك نجدها قد دخلت في نفق التأجيل بحجة الظروف الخارجية. كانت القضية الفلسطينية أبرز حجة للتأجيل باعتبار أن كل شيء من أجل المعركة، لكن لا فلسطين حُررت ولا الإنجازات تحققت، بينما انتُخب البرلمان البريطاني تحت وابل الصواريخ الالمانية، واجتمع هذا البرلمان تحت الظروف نفسها وأقر نظام الحماية الاجتماعية، الذي يعتبر أفضل نظام حماية في العالم.
أمام كل هذا الوضع الذي يشير إلى سقوط شرعية الحكام العرب، لم يجد هؤلاء الا الاستعانة بالخارج لاكتساب شرعية الحكم، فأقنعوا الغرب بأنهم حماة المجتمع، وكان الخيار بين الاستبداد أو الفوضى العارمة ففضلوا بقاء الاستبداد ولم يسمحوا بزواله، فأصبح تخلفنا داخليا بسبب حكامنا وخارجيا لأن القوى العظمى لا تسمح بأن تنتاب الدول النفطية وغير النفطية العربية الانتفاضات والثورات، وهي تفضل بقاء مجتمعاتنا على حالها، كي لا تتضرر اقتصاداتها. فعلى سبيل المثال، أشاع حسني مبارك رئيس مصر الاسبق ثقافة التخويف بين شعبه، وحول مصر من دولة عربية محورية إلى خطوط خلفية لمصالح وسياسات أمريكية. واشترى الرئيس الليبي الاسبق معمر القذافي شرعية حكم بضع سنين لنفسه، مقابل بيع مشروع السلاح النووي، الذي كان قد أنشأه، إلى الامريكان. واشترى آخرون شرعياتهم بعد أن حولوا بلدانهم إلى سجون تعذيب لما يسمى بالارهاب، ومراكز خلفية للاعتقال والتحقيق خدمة للمخابرات المركزية الامريكية والبريطانية والغربية عموما. وأخيرا وليس آخرا ها هو بشار الاسد يشتري شرعية وجوده من الرئيس الروسي بوتين، بعد أن حاول جاهدا شراءها من المرشد الاعلى الايراني. وإذا كانت إيران قد وطدت نفوذها في سوريا جغرافيا وديموغرافيا واقتصاديا وأمنيا واستراتيجيا، فإن بوتين لن يكون أقل حرصا على مصالح بلاده من الإيرانيين، وسوف لن يقبل بثمن اقل. هذا الانحدار الاخلاقي السابق والحالي في الاوساط الحاكمة رفع حال اليأس الشعبي العربي إلى مستويات غير مسبوقة، فذهب البعض للبحث عن زعامات ورموز من خارج الوطن العربي، ورأينا كيف ارتفعت صور أردوغان في بلداننا العربية، بعد أن انتفض لفلسطين بوجه الرئيس الاسرائيلي في مؤتمر دافوس، بينما بقي أمين عام الجامعة العربية جالسا في كرسيه. ورأينا كيف أصبحت المستشارة الالمانية ميركل زعيمة قلب غالبية الشباب العربي، المهاجرين واللاجئين في المخيمات، الذين لم يجدوا أي تسهيلات عربية لهم للعيش بكرامة.
إن الحاكم، أي حاكم كان، عليه واجب الدفع السلمي للأمور بما لا يسمح لها أن تتجاوزه، بمعنى أن يدفع الأحداث عبر الاقناع والتفاوض إلى ضفة الحل السلمي، وهذه تعتمد اعتمادا كليا على صفاته الشخصية، ومقاربته لعمله، ومستوى اتصاله بشعبه، وتسلحه بالهوية الوطنية. واهم بشار الاسد إن كان يعتقد بأن كرسيه سيكون بمواصفاته السابقة نفسها إن بقي في الحكم، أو أن سوريا ستعود كما كانت من قبل، فروسيا وإيران وكل الدول الخارجية ليست منظمات إغاثة.

المصدر: القدس العربي