طريق القدس تمر في مكة!

نديم قطيش

لم يهدأ استثمار المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في حادثة منى. يكاد الرجل، وفريقه، لا يتركون مناسبة للإضاءة عليها والتحريض من خلالها عبر تضخيم أرقام الضحايا، أو تسريب ما يوقد الإشاعات المنتشرة شعبًيا حولها. من جملة ذلك ادعاء رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية بمجلس الشورى الإيراني علاء الدين بروجردي أن السفير الإيراني السابق لدى لبنان غضنفر ركن آبادي نقل حًيا بسيارة إسعاف سعودية إلى المستشفى خلال كارثة منى. من اقتنع مسبًقا أن الرياض سلمت آبادي لإسرائيل، بحسب إشاعة رائجة، سيجد في «معلومات» بروجردي ما يسند قناعته، ويعزز أحقاده على السعودية. وففي تصريح أخير له قال خامنئي: «بعد هذه الحادثة، كان من المفروض أن يرتفع صوت واحد، واحتجاج العالم الإسلامي، ولكن للأسف ما عدا صوت الجمهورية الإسلامية، لمُيسمع أي صوت، وحتى الحكومات التي كان من حجاجها بين الضحايا لم تبد احتجاًجاُيذكر». ما أراده المرشد شاهًدا على الآخرين صار شاهًدا عليه من حيث لم يرد. «ارتفاع صوت واحد» في العالم الإسلامي بدعاية التحريض على السعودية، وعدم سماع «أي صوت، حتى (من) الحكومات التي كان من حجاجها بين الضحايا» لا يدل على استهانة الحكومات والمسؤولين بشعوبها ما عدا إيران. بل يفضح حقيقة أن إيران انفردت دون غيرها من العالمين بالاستثمار في حادثة مأساوية، تصر على تسييسها وتوظيفها في العدوان على السعودية، التي تمثل اليوم العصب الرئيسي ورأس الحربة الحادة في مواجهة المشروع التوسعي الإيراني. كما أن من يفتي اليوم بإحراق الشيعة من أتباعه في أفران حرب الدفاع عن بشار الأسد، مدرًكا استحالة هذه المهمة، ليس ممن يقيم وزًنا للناس والضحايا والمصائر، وهذا ما يعرفه الإيرانيون الذين نزلوا إلى الشوارع عام 2009، قبل غيرهم، صارخين «الموت للديكتاتور»!! اللافت أن التصريحات هذه تزامنت مع بدء تنفيذ الاتفاق النووي من دون أي تعديل في الاتفاق، الذي فضحت تصريحات المعارضين الإيرانيين له حجم القيود والتنازلات الإيرانية في الثوابت الرئيسية. تكفي، للتأكد من ذلك، العودة للحملة التي شنتها صحيفة «كيهان» المقربة من المرشد على وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، واصفة البند الذي يسمح بتفتيش المنشآت العسكرية «بالفضيحة». أما رئيس التحرير نفسه حسين شريعتمداري، الذي يعد ناطًقا غير رسمي بلسان خامنئي، فكتب قبل أسابيع مقالة بعنوان: «الحل الوحيد» اعترف فيها أن «الاتفاق النووي يهّدد أسس ومبادئ الثورة الإسلامية» مقًرا بكلمات واضحة أن «المرشد بالطبع ليس سعيًدا على الإطلاق بالمسودة الحالية للاتفاق». مع ذلك مرت المسودة وصارت واقًعا في الوقت الذي تزدهر فيه الثرثرة حول حادثة منى. بغية تسهيل هضم الاتفاق النووي الذي أنهى عملًيا واحًدا من أبرز العناوين التي راهن عليها النظام، وخصص من يعرف إيران، يعرف أنها بلاد تدار بمنطق التعبئة الدائمة. وهي أحوج ما تكون الآن لمستويات عالية منها لأجلها موازنات، وحّمل نفسه عقوبات ذبحت المواطن الإيراني. كما أن الاتفاق نفسه حرم إيران من عنوان «الشيطان الأكبر» وصرخات «الموت لأميركا» كأدوات تعبئة. بل إن الاتفاق وضع إسرائيل نفسها على الرف. ولعل ما يجري اليوم في سوريا هو واحد من هذه التفاهمات القيسرية، حيث إيران وموسكو وحزب الله وتل أبيب في حلقة «تنسيق» واحدة في معركة إنقاذ النظام ولو لحسابات ورهانات مختلفة. أما محاولة إيران استبدال «محاربة الصهيونية» بـ«محاربة الإرهاب» كمشروع لتصريف الطاقة «الجهادية» والعقائدية الإيرانية، فمن الواضح أنها باءت بالفشل، مما اضطر موسكو للتدخل مباشرة بعد أن كادت الفصائل المقاتلة،ُتسقط الأسد وتبدد الأثمان الإيرانية الفادحة. دعك عن أن الراديكالية السنية لاُتحارب براديكالية شيعية، بل تتغذى منها وتزدهر، والعكس صحيح. ولئن فقدت إيران بسرعة قياسية مدارات التعبئة هذه، الملف النووي ومحاربة الصهيونية ومكافحة الإرهاب، يمم المرشد شطر السعودية، ورفع شخصًيا، وعبر وكلائه، درجة التحريض عليها والاشتباك معها، منذ أن لاحت ملامح هزيمة إيران في اليمن، وقبل أن تأتيه حادثة منى ساخنة على طبق من حقد. فالسعودية هي العدو الآن، وهي الهدف الثوري الجديد العلني لنظام الملالي، بعد أن كانت هدًفا كامًنا. بل باتت طريق القدس تمر من مكة، هذه المرة، بحسب ماُيستشف، من حدة الموقف الإيراني. أما الأداة المفضلة الآن فحادثة منى. ليس غريًبا الاستثمار الثوري الإيراني في المآسي. في بدايات الثورة الإيرانية، وكانت لا تزال حراًكا، احترقت «سينما ريكس» في ضاحية عبدان الفقيرة في طهران.ُكتب الكثير عن هذه الحادثة. وتراوحت الاتهامات بين تحميل مخابرات الشاه نفسه المسؤولية عن إضرام النار في الصالة، وتحميلها لفصائل متطرفة بين القوى الثورية ترى في السينما حراًما ينبغي تغييره باليد. الثابت أن الخميني استخدم الحريق الذي قضى فيه بضع مئات، كعنوان تعبئة شكل نقطة تحول في الرأي العام وتجييش الجماهير وتغذية مناخ الثورة التي انتهت بإسقاط الشاه. ثمُكِنَست القضية تحت سجادة عجمية بعد الثورة! حادثة منى ليست حادثة «سينما ريكس»، والسعودية ليست نظام الشاه، وكل التفاصيل مختلفة، لكن العقل الإيراني واحد. الاستثمار في المآسي والإدمان على لعبة التعبئة وزراعة الحقد.

المصدر: الشرق الأوسط

أخبار سوريا ميكرو سيريا