نحو نظام دولي جديد

باسكال بونيفاس

تتواصل الضربات الجوية الروسية في سوريا، حيث اختارت موسكو الدفاع عن بشار الأسد، الذي يريد العرب والغربيون إسقاط نظامه، وهنالك تفجيرات دامية في تركيا، التي تبدو كما لو كانت على شفا حرب أهلية، فيما تعود إلى الواجهة من جديد أعمال العنف الإسرائيلية – الفلسطينية، ويشتد الاحتقان والاحتراب المذهبي السني الشيعي، ويتفاقم خطر «داعش»، ويزداد تهديد الإرهاب تغولاً على أوسع نطاق، عبر العالم.

وثمة الآن حالة من الانفلات العارم للعنف على صعيد عالمي. فمسلحو «طالبان» يستعيدون أراضي في أفغانستان، واليمن يشهد صراعاً، وكذلك جنوب السودان، وجمهورية الكونجو الديمقراطية لم تستعد بعد أجواء الاستقرار، فيما تسود الفوضى والعنف في العراق وليبيا، و«داعش» غرب إفريقيا (بوكو حرام) ما زالت تشكل خطراً داهماً في نيجيريا، ومهمة القضاء على العنف لم تستكمل بعد في مصر، ولم يتم التوقيع أيضاً بعد على سلام بين أوكرانيا وروسيا. ولذا تشعر أوساط الرأي العام، في مختلف أنحاء العالم، بقلق مبرر، في مواجهة طغيان مشاهد الصراعات والنزاعات في وسائل الإعلام، وقد صارت الحروب جزءاً لا يتجزأ من مشاهد الحياة اليومية.

وكأن كل هذا لا يكفي وحده، فقد بتنا نسمع، من حين لآخر، من يتحدث حتى عن احتمال نشوب حرب عالمية ثالثة! ولا شك أن هذا الحديث ينطوي على مبالغة بطبيعة الحال، ولكنه يظهر إلى أي حد ينتابنا ميل أحياناً للحكم على الحاضر بمعايير الماضي، ويكشف مصاعب نواجهها في العثور على زوايا نظر وتحليل جديدة لرؤية أبعاد ما نعايشه من تحول إستراتيجي ذي زخم واسع وسرعة قياسية، مما قد يتعذر معه بناء تشخيص مناسب للواقع. وفي هذا المقام، ألم نسمع من قبل حديثاً عن نذر «حرب باردة جديدة»، ومؤخراً عن «انتفاضة ثالثة»، وقبل هذا وذاك ألم يتحدث آخرون عما اعتبروه حالة استسلام و«ميونيخ جديدة»؟ ومع أن هذا النوع من خطاب التهويل والاستسهال والارتجال في الحكم على الأمور قد يبدو مريحاً لأنه يزيح عن كواهلنا عبء التفكير في الأبعاد المعقدة للأحداث، ويسمح لنا بأن نتكيف بسهولة مع الأحوال الجديدة على افتراض فهمها، دون صداع أو وجع دماغ كثير.. إلا أن هذا لا ينفي أيضاً أن تفسيرات الاختزال والاستسهال النمطية تلك تبقى، في النهاية، أوهاماً بعيدة عن الدقة من الناحية الإستراتيجية. كما أن من الخطورة أيضاً بمكان أن نركن إلى زوايا فهم وحكم وقراءة عفا عليها الزمن، في مقاربتنا لأحداث لا تنقصها الخطورة أصلاً، ولا داعي لتهويلها بمزيد من التشخيصات الخاطئة.

ومفهوم أن الصراعات تتفاقم وتتوالد بشكل لا ينقطع في عالم شديد العولمة (حيث باتت الأخبار تنتشر في وقتها الحقيقي، بشكل غير مسبوق)، ولكن هذا ليس أيضاً سبباً كافياً وحده للتسبب في صراع دولي شامل، وإذا كانت هنالك الآن نزاعات وصراعات مندلعة في مناطق واسعة من مساحة الكوكب، وافترضنا وجود تداخلات وتفاعلات بديهية بين بعضها، وروابط أكثر خفاء وإن كانت حقيقية أيضاً وواقعية بين بعض آخر، إلا أنه ليس هناك معيار جامع أو إطار ناظم لها جميعاً. وليس المتحاربون أنفسهم هم المنخرطون فيها كافة. كما لا يوجد نسق من التحالفات الشاملة التي يستحكم بينها العداء، كتلك التي تكشفت استقطاباتها عن الحرب العالمية الأولى. وليست هنالك قوة توليتارية عدوانية مدفوعة بروح هيمنة جارفة ورغبة في التوسع كتلك الحالة التي أفضت إلى نشوب الحرب العالمية الثانية. صحيح أن تنظيم «داعش» مثير للرعب، ولكنه لا يقارن بأي وجه مع القوة الهائلة التي كان يمثلها «الرايخ الثالث».

وليس هناك اليوم أيضاً صدع واستقطاب أيديولوجي ثنائي، على صعيد عالمي، قائم على منطق الأحلاف التي تشطر العالم كله إلى نصفين، بحيث تصبح كل الصراعات موضوع نزاع غير مباشر بين القوتين العظميين، مثلما كان عليه الحال خلال فترة الحرب الباردة، التي يصفها البعض، مع ذلك، بأنها كانت في الواقع حرباً عالمية ثالثة. وعلينا ألا ننسى أيضاً أن بعض «المحافظين الجدد» تحدثوا سلفاً حتى عن حرب عالمية رابعة بعد أحداث 11 سبتمبر.

والحال أن ما اختلف كثيراً عن ظروف فترة الحربين العالميتين، هو وجود الردع النووي، فروسيا ليست لديها الرغبة ولا الوسائل لمهاجمة الولايات المتحدة، وهذه الأخيرة تعرف هي أيضاً في قرارة نفسها أن الدخول في صراع مع موسكو سيترتب عليه دفع ثمن باهظ، بشكل لا يطاق، أما النزاعات المحلية الأخرى، محدودة الحجم والزخم، فلا يترتب عليها عادة سوى تطاير شرر محدود، أو محسوب، خارج النطاق الذي تنشب فيه أصلاً، ولا يمكن أن تتكشف، في النهاية، عن مواجهة دولية عامة، عارمة، والحاصل أنه ليست هناك الآن مواجهة شاملة، على صعيد عالمي، وإنما هنالك نزاعات محلية أو إقليمية موضعية، متداخلة أحياناً ومتعارضة أحياناً أخرى.

أما ما يبدو ظاهراً للعيان الآن حقاً فهو غياب قدرة القوى الكبرى على التحكم في المشهد الدولي، وقد كنا نسمع بالأمس القريب مرّ الشكوى من وجود ثنائية زعامة دولية قاسية قابضة، في حين بتنا نسمع اليوم، في المقابل، من يتحسّر على عدم وجود دركي دولي أو إقليمي حازم صارم.

ولكن، هنا أيضاً، يتعين علينا كذلك عدم إضفاء صفة المثالية على الماضي، أو التحسّر المغلوط على عهد حرب باردة قامت أصلاً على المظالم، وإن كانت فرضت نظام استقرار وتوازن من نوع ما. ولنتذكّر حروب تصفية الاستعمار، وحرب فيتنام، والانقلابات العسكرية بالجملة (ومن ضمنها ذلك الذي وقع في إندونيسيا سنة 1965 وأدى إلى مقتل 500000 شخص!)، وكل هذا يثبت أن فترة الحرب الباردة لم تكن أبداً لحظة استقرار وسلام هانئة، بل سقط ضحاياها، أساساً، في دول الجنوب، تماماً كما هي حال الصراعات التي نراها اليوم.

وفي النهاية فإن ما نخشى أن نصير ضحاياه حقاً ليس خطر نشوب حرب عالمية ثالثة، وإنما الأخطر هو غياب نسق حقيقي للأمن الجماعي. ومن هنا فإن التطلعات إلى نظام دولي جديد يملأ الفراغ بعد نهاية عالم ما بعد الثنائية القطبية، تظل أملاً لم يتحقق بعد، وهذا ما ندفع ثمنه الباهظ اليوم.

المصدر: الاتحاد

أخبار سوريا ميكرو سيريا