حتى لا تصبح الثورة سلة مهملات لنفايات النظام!

3 تشرين الثاني (نوفمبر - نونبر)، 2015
10 minutes

حكم البابا

منذ أن سن رفعت الأسد شقيق حافظ الأسد ونائبه الثالث وقائد سرايا الدفاع سنّة أنه غير مسؤول عن مجازر حماه وتدمر وغيرها من المذابح التي ارتكبتها سرايا دفاعه ضد السوريين، باعتبار أنه كان مجرد جندي في الجيش ينفذ تعليمات، وضابط يُؤمر فيطيع، ومن بعده عبد الحليم خدام النائب الأول لحافظ وبشار الأسد سنّة أنه كان مسؤولاً عن السياسة الخارجية فقط، ولم يكن صاحب منصب تنفيذي يتيح له الكسب غير المشروع والدخول في صفقات فساد، ولذلك فليس له علاقة من قريب أو بعيد بما حدث داخل سورية من مجازر وفساد وإجرام طوال سنوات تنقله في مناصب السلطة التي تولاها، وحتى آخر مسؤول انشق أو طرد أو هرب من حضن نظام الأسدين الأب والابن، لم يخرج واحد من هؤلاء المسؤولين الذين خدموا النظام لسنوات وربما لعقود ليعترف بفساد ارتكبه، أو برشوة تلقاها، أو بثروة جمعها بسبب منصبه داخل النظام، ولم يكلّف أحد من هؤلاء نفسه عناء الظهور على شاشة تلفزيون ليعتذر من السوريين، ويتحمّل المسؤولية المعنوية على الأقل عن الجرائم التي ارتكبها النظام بحقهم، باعتبار أنه كان جزءاً منه أو شريكاً فيه أو له.

دائماً كان النظام هو المجرم والقاتل والفاسد ومرتكب المجازر وقامع الحريات، وكانوا هم حسب رواياتهم طوال وجودهم داخل النظام يمثلون الجناح الإصلاحي فيه، ويقفون ضد الفساد ويطالبون بالإصلاح والحريات واحترام الرأي الآخر، ولكن أياً من هؤلاء الذي انشقوا أو أقيلوا لم يفكّر للحظة خلال كل السنوات الذهبية التي كان يتمتع فيها بمزايا النظام ويرفل في عطاياه ومنحه ومكاسبه (ورغم كل أحاديثهم عن أنفسهم كدعاة إصلاح)، لم يفكّر أن ينشق أو يتنحى عن منصبه احتجاجاً على موقف أو اعتراضاً على فساد، وبقي في منصبه حتى اللحظة التي أقيل فيها، أو شعر بأن النظام سيضحي به في أقرب سلّة مهملات في وقت قريب، ففضل أن يبيع السوريين شرف الانشقاق.

لم يكن نظام الأسدين الأب والابن إشكالياً أو غامضاً أو ملتبساً على أحد منذ اللحظة الأولى لانقلاب حافظ الأسد، ولم تكن طريقة إدارته الأمنية والعسكرية للبلاد أحجية يصعب تفسيرها وعصية على الفهم، ولم تكن مجازر حماه وتدمر وحلب وجسر الشغور، وعشرات آلاف المعتقلين بتهم الانتماء للإخوان المسلمين ولليسار الشيوعي ولبعثي العراق وصلاح جديد، وتغوّل أجهزة المخابرات وتصحير الحياة السياسة وإفقار السوريين وإذلالهم، وثائق سرية في وزارة الخارجية الفرنسية تحتاج إلى مرور 25 سنة للكشف عن مضمونها، وكان الفساد هو الذي يدير الدولة ويحرّك كل معاملة أو صفقة أو توقيع فيها، وكان كل ذلك يحدث علناً 24 ساعة في اليوم وسبعة أيام في الأسبوع، من دون أن يفتح أي من هؤلاء الذين يبيعوننا اليوم شرف الانشقاق فمه بحرف، هذا إذا لم يكن مشاركاً بالفعل في صفقات النظام، أو بالوجود كجزء من الغطاء الذي كان يحتاجه النظام لتبرير مشروعية حكمه، مقابل بعض الفتات الذي كان يرمى لهم.

من قبيل التوضيح للذين يحبون تأكيد المؤكد وشرح المشروح، لا يعني انتقاد أو نقد تصرفات المنشقين القول لهم ألاّ تنشقوا وابقوا في خدمة النظام، كما قد يحاول بعض متوسطي الذكاء تفسير رأيي، فهذه الثورة ثورة كل من يؤمن بها، ولا أحد يستطيع منع أحد من الانضمام إليها، وإنما محاولة للقول لهم بأن من حق السوريين أن يحصلوا على اعتذار علني من كل من شارك النظام مناصبه ومكاسبه وميزاته وصفقاته، فإن عزّت عليهم كرامتهم أمام السوريين وهي التي كانت تداس يومياً تحت أحذية ضباط وعناصر مخابرات النظام، فالأحرى بهم أن يكونوا أقل ادعاءً وتبجحاً وتزويراً للتاريخ والوقائع.
مناسبة هذا الكلام هو حفلة الغسيل والتنظيف والكي والطي والتوضيب التي قامت بها قناة “أورينت” لرياض نعسان آغا مؤخراً، واستخدم فيها معد برنامج “تغيّرنا” كل ملكاته الإنشائية لتحسين تاريخ الرجل القبيح الذي قضى أكثر من ثلثي عمره في خدمة وتلميع صورة نظام مجرم، أولاً كإعلامي في عدة مناصب داخل التلفزيون السوري، ثم كمستشار لحافظ الأسد ومسوق لتوريث بشار الأسد، وبعدها كسفير له في سلطنة عمان ودولة الإمارات العربية المتحدة، ثم وزيراً للثقافة قبل أن يسمع بإقالته من التلفزيون لأسباب تمس النزاهة مثله مثل أي مشاهد للتلفزيون السوري، ومن دون أن يكلّف أحد خاطره ليبلغه بها رسمياً أو حتى شفهياً قبل إعلانها، ولا يزال يخدمه ويساهم في تلميعه، لأن أي طعن جدي في النظام سيمسه شخصياً باعتبار أنه كان جزءاً منه.
زوّر رياض نعسان آغا التاريخ حين تحدّث عن حافظ الأسد الذي كان يسير بدون مرافقة في شوارع دمشق خلال سبعينيات القرن الماضي، وجعل من نفسه شاهد زور على الحادثة، ونسي أن يذكّر أن حافظ الأسد جاء بانقلاب عسكري وليس بانتخاب ديمقراطي، وأول ما قام به هو تصفية خصومه من رفاقه السابقين وزجهم في المعتقلات، وبدأ منذ اللحظة الأولى ببناء دولته الأمنية، فهل من المعقول أن حافظ الأسد كان يتجول في شوارع دمشق وهو يرتدي طاقية الإخفاء، وكان يرفعها فقط عندما يصادف رياض نعسان آغا ليسلم عليه ويضمن شهادته فيه بعد موته؟

وزوّر رياض نعسان آغا التاريخ ليبرر حضوره المعيب في برنامج “بلا حدود” على شاشة الجزيرة في فترة توريث بشار الأسد ليطبّل ويزمر له ويشيد بمزاياه ويتفنن في الثناء على خصاله، فاعتبر على شاشة “الأورينت” أن تطبيله لبشار كان أهون الشرين حسب قوله، فالخيار الثاني إذا لم يتم توريث بشار حسب زعمه كان رفعت الأسد، وهو خيار لم يكن مطروحاً إلاّ في خياله، أولاً لأن رفعت كان قد نفي نهائياً من سورية بعد محاولة الانقلاب على أخيه حافظ عام 1985، وثانياً لأن السوريين كانوا ينامون ويفيقون على صور وقصص بشار الأسد كوريث لأبيه، منذ مقتل أخاه باسل في عام 1994 وحتى وفاة أبيه في عام 2000، إلاّ إذا كان رياض نعسان آغا غائباً عن الوعي طوال السنوات الست التي جرت فيهما تهيئة بشار للرئاسة!

وتحدّث رياض نعسان آغا عن أن برامج مثل الشبيبة والطلائع والطلبة والعمال والفلاحين كانت تفرض عليهم من القيادة في التلفزيون، ولكنه نسي أن يقول بأنه كان يشرف عليها ويتقاضى أجوراً على إعدادها والإشراف عليها، واعتبر نفسه أنه أقرب إلى الثقافة والمثقفين، ولكنه نسي أن يذكر أن ثلة صغيرة من معاونيه كانت تحتكر الشاشة وتفرض ذوقها وضحالتها على السوريين، وأن تسعين بالمائة من الكتاب والمثقفين السوريين كانوا ممنوعين من الظهور على شاشة تلفزيون دولتهم في مقابل أساتذة نحو وصرف وطباق وجناس من الذين يعيشون في الماضي كانوا يقدمون كوجوه سورية الثقافية، وأن ثقافة سورية المعاصرة الحقيقية كانت مغيبة لصالح ندوات عن التراث لا تضر ولا تنفع.

أما أطرف ما ذكره رياض نعسان آغا في حفلة الغسيل والتنشيف التي أجرتها له قناة “أورينت” فهو أمران، الأول: نصيحته لحافظ الأسد في إقالة شقيقه رفعت من منصب النائب الثالث للرئيس، والتي نفذها الأسد الأب وأعفى شقيقه بالفعل نزولاً عند نصيحة نعسان آغا، وبذلك كان له جزءاً من الفضل في حماية سورية من وصول رفعت إلى الحكم حسب قوله، أما الثاني فهو اتجاهه لترشيح نفسه لعضوية مجلس الشعب، هرباً من ضغوط الأمن التي امتدت إلى الإعلام، في عهد محمد سلمان أسوأ وزير إعلام أمني مرّ على سورية، كما لو أنه يتحدث عن مجلس العموم البريطاني لا مجلس الشعب السوري الذي تختار المخابرات السورية بمختلف فروعها أعضاءه وتنتقيهم ولها الكلمة الأولى والوحيدة في وصولهم إلى كراسي النيابة.

طوال مدة الحوار مع رياض نعسان آغا كنت أتذكر كلام عبد الحليم خدام وفراس طلاس ومحمد حبش ومناف طلاس وسواهم من شركاء النظام وأجرائه الذين منحوه واجهة وتغطية سنية -كان يحتاجها للحكم ولم يكن قادراً على الحكم بدونها- مقابل بعض الفتات الذي كان يرمى لهم، والسرقات التي كان يتم التغاضي عن لصوصها، وأسأل نفسي: إذا كان كل هؤلاء اصلاحيون ومع الحريات وضد القمع، فمن الذي قتل وأجرم وسرق ونهب كل هذه السنوات في سورية؟ ومن أين حصل هؤلاء المنشقين “الاصلاحيين” على هذه الثروات التي يتنعمون فيها اليوم؟ ثم أحدّق في الصبغة السوداء على شعر الرجل العجوز الذي يملأ الشاشة، وأقارن عجزها وفشلها رغم سوادها الفاحم في إخفاء عمره وتجاعيده، بكلام المعلق الذي حاول بكل ما يملكه من إنشاء أن يساعد ضيفه لإزالة وتنظيف البقع العنيدة في تاريخه من دون جدوى!