“فيينا” ما بين المعلن وغير المعلن

سوسن الشاعر

اتفقت كل الأطراف في فيينا على النقاط التسع ­ الجزء المعلن من فيينا ­ على أن تظل سوريا موحدة وعلمانية مع فترة انتقالية محدودة، تتشكل خلالها حكومة وحدة وطنية من النظام والمعارضة، يجري بعدها وضع دستور جديد، والدعوة لانتخابات عامة، والحفاظ على الدولة ومؤسساتها، وبقيت النقطة الجوهرية الخلافية هي بقاء أو رحيل الأسد.

أما الأهم من هذا الاتفاق، فهو كيفية تطبيقه، وتنفيذ النقاط التسع الأولى، أو تنفيذ النقطة الخلافية الأخيرة – إن حصل الاتفاق عليها ­ ثانًيا.

يرتبط الاتفاق أو الاختلاف بين جميع الأطراف بمقدار امتلاك كل طرف المساحة على الأراضي السورية وقدرته على تغييرها.

وقبل أن نخوض في أجواء التفاوض، علينا أن نرى المأزق الذي دخلته روسيا وإيران بتدخلهما كأحد أطراف القتال على الأراضي السورية، بعد أن كانتا تكتفيان بدعمهما لأحد أطرافه، وهو النظام السوري، لنحدد بذلك الموقف قدرة الروس والإيرانيين على فرض شروطهما في المفاوضات، وهذا أيًضا على فرض أنهما متوافقان أصلاً، في حين أن التسريبات تؤكد اتساع الشقة بينهما، وطفح صوت الاعتراض الإيراني على التصريحات الروسية المتضاربة حول موقفها من الأسد، عدا موضوع التنافس بينهما حول الغاز والصفقات الأوروبية التي ستمر عبر سوريا مستقبلاً.

هل روسيا في وضع مريح يمنحها الأريحية في فرض تسويتها ورؤيتها على المجتمعين الـ16 في فيينا؟

السرعة التي نفت فيها روسيا تماًما أي احتمال لوقوف «داعش» خلف عملية إسقاط الطائرة الروسية، سرعة سبقت التحقيقات، وأغلقت الباب قبل أن يستفحل الجدل فيه، تؤكد أن مجرد ثبوت هذا الاحتمال يجعل هذه الكارثة أول الخسائر الروسية التي تلحق بها نتيجة لمجازفتها التي أقدمت عليها، وهذه خسارة لا يتحملها بوتين وتضعف من موقفه التفاوضي كثيًرا.

توقعات بوتين بنيت على أساس أن مجرد (الإعلان) عن دخول روسيا كطرف مقاتل وقلبها للأوراق سيدفع الجميع للقبول بأي تسوية تطرحها موسكو خوًفا من تصاعد حدة القتال وامتداده، لم تتوقع روسيا أنه حتى بعد مرور شهر من دخولها ما زالت السعودية وتركيا ثابتتين وتصران على رحيل الأسد، تماًما كما لم تتوقع درجة ضعف القوات السورية على الرغم من دعم الطيران الروسي لها.

فوجئت روسيا بحسابات جديدة وأضيف لها أن احتمال وقوع خسائر روسية وارد بعد حادثة سقوط الطائرة في سيناء، فـ«داعش» الذي يتغنى الكل بمحاربته دون إحراز نتائج تذكر، تنظيم (سائح) من التنظيمات العابرة للحدود، وخبرة الروس مع هذه التنظيمات محدودة.

من جهة أخرى يدخل الطرف الأوروبي متململاً من تصاعد تبعات الصراع، فأزمة اللاجئين تضغط على الاتحاد الأوروبي.

أما إيران، فحرسها الثوري بدأ في حالة التململ هو الآخر، وخسائره البشرية تتضاعف بعيًدا عن أرضه ومصالحه، خاصة أن الحرس الثوري تكبد خسائر نوعية فادحة في صفوف قياداته خلال الأسابيع الأربعة الماضية.

لهذا فالفائز في فيينا هو الطرف غير المتلهف عليها، وكلما تشبثت السعودية بمواقفها الثابتة وارتكازها على عنصر الحسم الميداني على الأراضي السورية كأوراق تفاوض، تحكمت في سير المفاوضات في فيينا، تلك معادلة من المفروض أن تكون «أوسلو» و«مدريد» قد علمتنا إياها، ومن المفروض أن نكون قد اكتسبنا خبرة من أخطائنا، فبعد أن كانت القضية الفلسطينية تمثل أرًضا محتلة وشعًبا مشرًدا، أصبحت مجرد ملف للمفاوضات امتد إلى أكثر من عشرين عاًما، وهكذا يراد لسوريا أن تكون ملًفا للمفاوضات إلى ما لا نهاية.

إن ثبات المواقف المتمثلة في دعم فصائل المعارضة بالتقنيات الحديثة، وعلى رأسها المضادات الجوية ومضادات الدروع حيث سرب موقع «انتلجنس أون لاين» الاستخباراتي الفرنسي توجه الرياض والدوحة لتزويد الفصائل المقاتلة السورية بصواريخ (MANPADS) المضادة للطائرات وفًقا للمرصد الاستراتيجي، سيغير المعادلات على الأرض كثيًرا لو تم، وهذا بدوره يغير من الحال في فيينا القادمة، وسيقوي كثيًرا الورقة التفاوضية السعودية التركية القطرية، وسيحول دون تردي المواقف الدولية الأخرى التي بدت مترددة في فيينا، والتي تفكر في جعل «الملف السوري» ورقة تفاوضروسي أميركي، أو روسي أوروبي، يقايض بها على ملفات أخرى، خاصة أن هذه الدول لمحت إلى أنها على استعداد (لإبداء المرونة) فيما يتعلق بموعد رحيل الأسد، بعد أن كانت مصرة عليه. هكذا هي «لعبة التفاوض»؛ فخ تسحبه الدولة التي تدعو له أطراف النزاع

ليكون سوًقا لتبادل الأوراق.

الواقع على الأرضفي الداخل السوري هو الذي يفرض نفسه على طاولة المفاوضات، فلم يتبق تحت سيطرة الأسد سوى 18 في المائة من الأراضي السورية، ويقف هو وجميع الفصائل المقاتلة من حرس ثوري ومن قوات حزب الله على أبواب حلب منذ شهر، عاجًزا عن التقدم.

النظام الإيراني يعرف أنه غاصفي الوحل ولا يعرف كيف يخرج منه، وها هو يقف على أبواب حلب أكثر من شهر دون أن يجرؤ على دخولها، ويعود يومًيا بتوابيت قتلاه الذين قضوا الشهر الماضي، حيث قتل أكثر من عشرين ضابًطا إيرانًيا رفيًعا على أسوار حلب في الأسابيع الأربعة الماضية.

واقعًيا، روسيا وإيران فوجئتا بعجز الجيش السوري تماًما عن إحراز أي تقدم على الأرض، وها هي روسيا تدخل شهرها الثاني وطائراتها تحلق في عملية قصف عبثية تقدم الإسناد الجوي لقوات برية عاجزة عن التقدم، أو تحقيق أي إنجاز على الأرض.

السعودية إذن هي الطرف – لنقل ­ الأكثر ارتياًحا في فيينا، على الرغم من انشغالها في اليمن، مما يضع ضغًطا كبيًرا ومسؤولية سيدفع ثمنها غالًيا من يربط أوراقه ببقاء الأسد، فإذا أضفنا إلى الموقف السعودي تفرغ إردوغان بعد الانتخابات لمواجهة التواطؤ الروسي الأميركي مع الأكراد، الذي أغضب أنقرة، بموقف أكثر ثباًتا فإنه سيصر على «وحدة الأراضي السورية» ورحيل الأسد.

الخلاصة، أن تغييرات بسيطة على الأرض السورية ستقوي «ثبات» الموقف السعودي وستحمي المصالح الإقليمية وتجعل رحيل الأسد أمًرا محتوًما، بل ستجعل من «رحيل الأسد» رغبة جماعية، وتأجيل «المرونة» للتفاوض حول الكيفية.

المصدر: الشرق الأوسط

أخبار سوريا ميكرو سيريا