يد الأسد ملوّثة بدماء باريس

 روبير كولفيل*   الديكتاتور السوري ليس عدو تنظيم داعش: إنّه من يمكّن هذا التنظيم من هذه الأفعال! لا شكّ أن هجمات القنابل في باريس مقززة، فاحشة، مرعبة. ولعل أكثر الأوقات قرفاً كانت عندما قرر الرئيس السوري بشار الأسد أن يلقي اللوم في هذه المجزرة على السياسة الخارجية الفرنسية، قائلاً إنّ ما يواجهه الباريسيون هو بالضبط ما واجهه السوريون خلال السنوات الخمس الماضية، وأن هذا ما كان ليحدث لو أن فرنسا ساعدته ضد الإسلاميين، عوضاً عن النأي بنفسها! من الواضح أن الجزء الأكبر من المسؤولية عن مأساة هذا الأسبوع تقع بشكل مباشر على تنظيم داعش، ومذهبه الإرهابي الوحشي. ولكنّ الشخص الوحيد الذي يتحمّل معظم المسؤولية المباشرة عن صعود هذا التنظيم، وبقائه قوياً، وتمدّده، هو بشار الأسد. ليس فقط لأن الأسد، من خلال إغراق سوريّة في حرب أهلية، أوجد الشروط التي سمحت للتنظيم بأن يزدهر. بل لأنه فعل كل ما في وسعه لتعزيز سطوة تنظيم داعش. الحقيقة هي أن الأسد وداعش ليسا خصمين، بل حليفان. لفهم ما أعنيه، علينا أن نعود إلى العامين 2012 و2013، عندما كان الثوار- بقيادة الجيش السوري الحر- على أبواب دمشق. حينها، أقدم الأسد، لكي ينقذ نفسه، على أمرين:
أطرق الأسد سراح الجهاديين المتشددين من السجن، واستبدلهم بالمدونين وناشطي حقوق الإنسان.
أولاً، وافقَ على ما يعد استيلاءً إيرانياً على المشهد. وكما روى دكستر فيلكنز في مجلة نيويوركر، فقد توجّه قاسم سليماني- رئيس فيلق القدس الإيراني- إلى دمشق ليتولى شخصياً القيادة، مغذّياً الصراع بالمال الإيراني والأسلحة الإيرانية والمقاتلين القادمين من طهران مباشرة أو من عميلها اللبناني حزب الله. لكنّ الشق الآخر من استراتيجية الأسد كان أكثر مكراً. فمنذ بداية الحرب، دأب على وصف أعدائه بالإرهابيين الإسلاميين. وعلى مر السنين، فعل كل ما في قدرته على جعل هذا هو الواقع. أفرج الأسد عن الجهاديين المتشددين من صيدنايا، السجن الأعتى لدى النظام، وزجّ عوضاً عنهم بالمدونين وبناشطي حقوق الإنسان. كما صوّب النظام قنابله وبنادقه تحديداً على المعتدلين، في حين منح المتطرفين الإسلاميين (وكثير منهم قد أثبتوا جدارتهم في التمرد في العراق ضد الولايات المتحدة) مطلق الحرية في الشمال. بل قيل إن الأمر وصل إلى حدّ أنهم تلقوا دعماً جوياً من الأسد خلال مسيرتهم إلى حلب. غير أن تلك لم تكن سوى البداية. ذلك أن تنظيم داعش سطى على حقول النفط، من دون أن يكون لديه أي سوق لتصريفه. في هذه اللحظة دخل الرئيس الأسد على المشهد، فلم يكتف بشراء النفط منهم، لكنْ ضمن لهم أيضاً شراء المواد الغذائية، بل وحتى إصلاح أبراج هواتفهم النقالة. وردّ أصدقاؤه في داعش الجميل، في الزحف ليس صوب دمشق، وإنما صوب بغداد. هنا، حان وقت ذعر الغرب الذي أطلق ضرباته الجوية ضد تنظيم داعش، وليس الأسد.pray-for-Paris لماذا فعل الأسد ذلك؟ الجواب بسيط: لإقناع كلّ من شعبه والقوى الأجنبية بأنّه البديل الوحيد عن المتشددين. إذ لطالما كانت استراتيجيته، كما كتب ديفيد بلير (أحد أكثر الأصوات البريطانية حكمة في شؤون السياسة الخارجية) في صحيفة التليغراف العام الماضي، هي أن يتصرف كمن يشعل الحرائق عمداً، ثم كرجل إطفاء.
الأسد ليس أهون الشرين هنا. إنّه أكثرهما شراً.
يزعم الأسد الآن أنه الوحيد القادر على احتواء تنظيم داعش، لكن الحقيقة هي أنه لم يفعل شيئاً يذكر لاحتوائها. بل حتى حلفاؤه الروس لا يقصفون اليوم المسلحين، كما يزعمون، وإنما يقصفون ما تبقى من المعتدلين المحاصرين القلائل. والنتيجة هي التعايش المروع. الأسد يقصف ويقتل ويشوه ويدفع الناس إلى أحضان المتطرفين. ثم يشير بإصبعه إلى نمو داعش ويقول، كما قال بشأن باريس: “انظروا إلى هؤلاء المتعصبين الهمجيين. هل أنا أخطر منهم؟”. لكن المذكور أعلاه يوضّح أن الأسد ليس أهون الشرين هنا. إنّه الشر الأعظم. فمنذ العام 2011، كما يقول إميلي حكيم من المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية: “كان نظام الأسد ومازال المصدر الرئيسي للموت والدمار في سوريّة”. وحتى الآن، فإن الأسد لا يقتل فقط من شعبه أكثر مما تقتل داعش، بل أكثر مرات ومرات. إذن لا. القتلى في باريس ليسوا ضحايا سياسة الحكومة الفرنسية، بل نتيجة سلوك يتعمّده الأسد: أخذ الخلايا السرطانية التي تسمى داعش وتغذيتها بجميع العناصر الغذائية اللازمة لكي تنمو وتتورّم لتغدو ضخمة وخبيثة.
أي سيناريو يترك الأسد في السلطة بدلاً من الزجّ به في السجن هو عمل مقرف في لاأخلاقيّته.
فمنذ العام 2011 في الواقع، يتحمل الدكتاتور السوري مسؤولية كل ما جعل هذه الحرب أسوأ، في حين يتعذّر علينا أن ننسبب إليه أي فعل إيجابي. فالأسد هو من استخدم الأسلحة الكيميائية وقصف شعيه بالبراميل. والأسد هو وراء موت الآلاف وتشريد الملايين. والأسد هو وراء تدمير تدمر (من أجمل الأماكن التي زرتها)، والكثير من عاديات التراث والثقافة في سوريّة. والأسد أيضاً هو وراء القتلى في باريس، وعلى الطائرة الروسية، وفي بيروت. نعم، داعش تشكّل أكبر تهديد آنيّ للغرب. ونعم، ليس ثمة خيارات جيدة عملياً لإنهاء هذا الصراع الوحشي الفظيع. لكنّ أي سيناريو للتحالف مع الأسد لمحاربة الإسلاميين، بل أي سيناريو يترك الأسد في السلطة بدلاً من الزجّ به في السجن، هو عمل مقرف في لاأخلاقيّته. ليس فقط لأنه سيشجع الطغاة في كل مكان على تكرار هذا السلوك، بل لأنه سيمثل انتصارا لاستراتيجيته الدبلوماسية القائمة على الوحشية المحسوبة. قتلى باريس يستحقون منا أفضل من ذلك.   *الرئيس السابق للتعليقات في صحيفة تليغراف.