الجهاديون الفرنسيون، من هم ؟ وكيف يتم تجنيدهم ؟

عزام أمين
  بعد حادثة شارلي إيبدو وتفجيرات باريس الأخيرة، أثارت ظاهرة الشباب الأوربي وخاصة الفرنسي الجهادي في سورية والعراق الكثير من التساؤلات والنقاشات. حتى أن البعض يتحدث عن وجود كتيبة فرنسية تابعة لجبهة النصرة في سورية. من هم هؤلاء الجهاديون ؟ كيف يتم تجنيدهم ؟ ولماذا يترك شباب وشابات الحياة في الغرب “المُرفّه” ليذهبوا ويقاتلوا مع النصرة وداعش في سورية والعراق؟ في كتاب صدر مؤخرا لها بعنوان “كيف الخلاص من الاستلاب الجهادي؟” تقول الباحثة الفرنسية الأنثربولوجية دنيا بوزار أن الخطاب السلفي المتطرف يحوّل مشاعر الإهانة والظلم التي يعاني منها بعض الشباب الفرنسي إلى مشاعر قوة وانتقام. وتشير الكاتبة إلى أنه يتم تجنيد الشباب الفرنسيين بخطاب فرنسي، عبر مُجَنِدِين يعرفون جيداً الإشكاليات الوطنية الفرنسية، لأنهم تربوا في فرنسا ويفكرون بالطريقة الفرنسية ويعودون في نقاشاتهم إلى المسائل الجدلية أو المحرمات الفرنسية بما يمكنهم من كسب ثقة الأشخاص المستهدفين بالتجنيد. تُشير الدراسات والأبحاث التي أجريت على عينة من الشباب الذي تخلى عن فكرة الجهاد إلى أن عملية التجنيد الجهادي هي صيرورة نفسية تتضمن عدة مراحل متدرجة قبل أن يلتحق الشاب أو الشابة فعلاً بالجهاد مع جبهة النصرة أو تنظيم داعش في سورية والعراق. الخطر، من وجهة نظر فرنسية، لا يكمن في ذهاب المجندين إلى سورية والعراق ولا في عودتهم من هناك، ذلك أن عودتهم بحد ذاتها تدل على تراجعهم وصدمتهم بالواقع الذي عايشوه، وإنما يكمن في أولئك المجندين الذين لم يتركوا فرنسا بعد، والذين يصعب كشفهم لأنهم غالباً لا يتصرفون كمتطرفين إسلاميين، وإنما يشكلون خلايا نائمة في المجتمع الفرنسي. ولهذا فإن مواجهة ظاهر التجنيد الجهادي لا تكون من خلال منع الشباب من الذهاب إلى سورية والعراق للالتحاق بداعش، ولا بإلقاء القبض عليهم حال عودتهم، وإنما بمنع وقوع الشباب تحت تأثير وسيطرة الخطاب الإسلامي المتطرف. قبل الدخول في مراحل التجنيد والآليات النفسية المستخدمة للسيطرة على الشباب المجندين يجب علينا الاشارة إلى الفكرة النمطية التي تقول “إن جميع هؤلاء الجهاديين هم من أصول مسلمة وفقراء، وعلى الأغلب من أصول مغاربية”. لكن الإحصائيات التى أوردتها عدة مصادر بحثية وسياسية تشير إلى أن ضحايا ظاهرة التجنيد الجهادي هم من أصول اجتماعية ودينية شتى، وذلك على عكس هذه النظرة النمطية التي توجه إصبع الاتهام للشباب الفرنسي من أصول مسلمة. ويتبين كذلك أن الخطاب الإسلامي الراديكالي يستطيع الوصول إلى شباب غير مسلمين ومن طبقات اجتماعية غنية، وهذا يتناقض أيضاً مع هذه النظرة النمطية الشائعة التي تشير إلى فقراء الضواحي من المسلمين. وهذا ما تؤكده الأرقام، فقد أحصى “مركز الوقاية من الانحرافات الطائفية المتعلقة بالدين الاسلامي” (CPDSI) أربع مئة (400) عائلة فرنسية التحق أبناؤها أو بناتها بالجهاد في سورية والعراق: 40% من العائلات ملحدة، و40% كاثوليك، و19% مسلمة و1% يهودية. ومن حيث العمر فإن 30% من الشباب قاصرون، و39% منهم تتراوح أعمارهم بين 18 و21 سنة و31% أعمارهم بين 21 و28 سنة. ولم تتصل حتى الآن بالمركز أي عائلة يزيد عمر ابنها أو ابنتها عن 30 سنة. ومن حيث الجنس فإن نسبة الفتيات تساوي نسبة الفتيان. وأما من حيث الوضع الاجتماعي فينتمي 59% من العائلات إلى الطبقة المتوسطة و30% منها إلى الطبقات الشعبية و11% منها إلى الطبقات العُليا. ولقد ألقت السلطات الفرنسية القبض على 30 فتاة تتراوح أعمارهن بين 13 و 17 سنة أثناء محاولتهن الذهاب إلى سوريا. وتُشير الأرقام الرسمية التي قدمها رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس على هامش مؤتمره الصحفي الذي عقد في التاسع عشر من آذار/مارس لعام 2015 إلى وجود 1900 جهادي أو شخص واقع تحت تأثير الخطاب الجهادي، استطاع 770 واحداً منهم الالتحاق بداعش والنصرة. وقد عاد قسم منهم ومازال هناك 420 شخصاً، منهم 119 امرأة. وقد أكد فالس على وجود حوالي 300 جهادي فرنسي في تركيا يحاولون العبور إلى سورية، كما أشارت هيئة مراقبة الإنترنت إلى وجود حوالي 1200 ملف شخصي يشكل كل منها حالة خطرة من خلال نشر رسائل وفيديوهات تساند المجموعات الارهابية. أما عن كيفية تجنيد هؤلاء الشباب الفرنسيين، فمعظم الدراسات تشير إلى أن الاستقطاب يتم أولاً عن طريق الإنترنت أي قبل أي لقاء وجهاً لوجه، وهنا تتجلى مرحلة افتراضية مهمتها نزع ثقة الشاب بالمجتمع الفرنسي وبزملائه، ومن ثم أن يشعر بإحساس الجماعة الجهادية نفسه وأن يتماهى معها بحيث تحل هويتها محل هويته الشخصية الفردية. لذلك يجب إقناعه، أولاً، بنظرية المؤامرة وبأن كل شيء مدبر ومدروس من قبل الأقوياء ضد الضعفاء. فالعالم يعاني من الظلم والاستغلال والنهب والدعاية الكاذبة، وأحداث 11 أيلول/سبتمبر مدبرة وكذلك مرض السيدا، والشركات الكبرى تتآمر على العالم لبيع منتجاتها، وأمريكا تراقب العالم والقوى الرأسمالية تسيطر على كل شيء. ولا يتم التطرق في هذه المرحلة لأي جانب روحي أو ديني وإنما يتم التركيز على المؤامرة ومشاعر الظلم حتى يصبح الشخص المُستَقطب شيزوفرانياً يرفض الواقع الظالم. وبعدها ينتقل الخطاب من منطق الضحية العاجز أو المفعول به إلى منطق المواجهة ومحاربة الظلم لإنقاذ الضحايا، منطق الفاعل. فلا سبيل إلى تغيير النظام ومواجهة المؤامرة وإنقاذ البشر إلا بالمجابهة. معظم الشباب والشابات الجهاديين تم تجنيدهم عن طريق الانترنيت، فلقد أدرك الخطاب الراديكالي الاسلامي أن هذه الوسيلة ناجعة للدعاية والاستقطاب لأنها تسمح بتجاوز قيود الزمان والمكان. وهناك ثلاثة أنواع من الفيديوهات التي يتم تداولها في هذه المرحلة الافتراضية:
  • الفيديوهات التي تركز على فساد النظام العالمي.
  • الفيديوهات التي تركز على مجموعات سرية تسيّر الأمور بحسب مصلحتها (شهود يهوه، الماسونية، مافيات اقتصادية، مخابرات عالمية، موساد…)؛
  • الفيديوهات التي تحثّ على المواجهة.
سرعان ما تدفع هذه الفيديوهات ضحايا التجنيد الجهادي إلى الغرق في تصور للعالم بأنه محكوم كله بالكذب وبالمؤامرات ثم يخرجون وهم على يقين بأن الخوف من الإسلام  (الإسلاموفوبيا) ما هو إلا جزء من المؤامرة الكبرى، وأن قوى الشر الشيطانية تهاجم الإسلام لأنه يمثل آخر معقل يمكنه الوقوف أمامها ومكافحتها. ومن هنا يُدخل الراديكاليون في ذهن الشاب أن الالتحاق بهم هو الطريق الوحيد إلى تهديم هذه التكتلات السرية التي تريد تحطيم الإنسانية. عن طريق النت يُقدم للشباب مساحة افتراضية بديلة تفوق كل المساحات الحقيقية، أناس يتحدثون معهم ويحاورونهم ويشعرون مثلهم. وغالباً ما يتوجه الخطاب الراديكالي إلى شٌبان ذوي بنية نفسية ضعيفة، يشعرون بأنهم لا ينتمون إلى أي مكان ويعانون من أزمة هوية. فيرى الشاب الذي يشعر بأنه من أصل جزائري أو مغربي أو فرنسي نفسه محمياً من خلال سلطة هذا الخطاب الذي يمنحه قوة الانتماء للجماعة والشعور بالتفوق على الآخرين لأنه يعرف الحقيقة. وفي النهاية يتوحد الشاب مع هذه الجماعة (identification) بعد أن يجتاز ثلاثة مراحل هي:
  • مرحلة تحديد الجماعة وتعريفها: تعطي الجماعات الأصولية للشاب إحساساً بالقدسية والهيبة لأنها تعيد تحديد علاقة الشاب بنفسه وبالآخرين فتعطيه هوية اجتماعية (identité sociale)معروفة ومحددة؛
  • مرحلة الانقطاع عن المحيط الاجتماعي: لا يكتفي الخطاب الراديكالي بالتركيز على الجماعة نفسها وعلى رئيسها (شيخ، مكانة سياسية…) وعلى نقاط التشابه بين أفرادها، بل يركز أيضاً وبشكل مستمر ودائم على نقاط الخلاف والاختلاف مع الآخرين (العائلة والأصدقاء ورفاق المدرسة ونحوهم) حتى يصل الشاب إلى مرحلة القطيعة التامة مع محيطه الاجتماعي؛
  • مرحلة محو الهوية الفردية «dépersonnalisation»: يدفع التركيز على نقاط التشابه بين أعضاء الجماعة الشاب إلى أن يشعر بأنه يتحدث باسم الجماعة ويمثلها. وهكذا تضمحل الهوية الفردية وتصبح “الأنا” نحن.
معظم العائلات التي وقع أبناءها ضحية للتجنيد الجهادي أشارت إلى أن هؤلاء كان لديهم نوع من الإدمان على الانترنت وعلى وسائل التواصل الاجتماعي. وهكذا يتم التواصل مع الشاب أو الشابة وجعله يدمن على علاقته الاجتماعية الافتراضية. ثم يتم الانتقال من مرحلة الألعاب الافتراضية والفيديوهات المعروفة إلى مرحلة الفيديوهات التي تحتوي على رموز من التاريخ الاسلامي (رمزية سورية وبلاد الشام المحببة للرسول ونحو ذلك)، حتى يصل الإدمان بالشاب إلى أن يتحدث باسم الله. وكذلك يتم التدرج بمشاهد العنف من مرحلة العنف الجسدي البسيط إلى مشاهد الذبح والدم حتى يصل الشاب إلى مرحلة “اللاحدود في العنف وتقبله” بعد أن يتم القضاء على كل العقبات النفسية الانسانية في وجه العنف. وتهدف هذه المرحلة إلى التحكم الذهني بالشاب من جهة ونزع الصفة الانسانية عن الأعداء من جهة أخرى وبالتالي تقبل فكرة التطهير العرقي او الديني أو قتل كل من يخالف الجماعة حتى لو كانوا من المسلمين، فهؤلاء أخطر من غيرهم لأنهم خونة وعملاء بنظرهم. بالطبع لا توجد وصفة سحرية لمنع الشباب من الوقوع تحت تأثير الخطاب الجهادي ولا يمكننا التركيز على الجانب النفسي وإهمال الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أو العكس. الحلول المقترحة يجب أن تعتمد منهجاً عابراً للاختصاصات يأخذ بعين الاعتبار العوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. برأينا إن الخطر ليس في الدين نفسه وإنما في التديّن، أي الرغبة في إظهار الاختلاف والصدام مع المجتمع من خلال بعض المظاهر الإسلامية (اللحية، لباس، طريقة كلام…) والدخول معه في مشكل علائقية مع غياب الثقافة الدينية الصحيحة، مما يجعل من الشباب الفرنسي عرضة لاستقطاب الخطاب الإسلامي الراديكالي والفكر الجهادي. الخطر يكمن في تحول الدين إلى هوية اجتماعية وإستراتجية لمواجهة الظلم. أخيراً، قبل اقتراح حلول لهذه الظاهرة يجب فهم الآليات والاستراتيجيات النفسية التي يستخدمها الخطاب الراديكالي الإسلامي في تجنيد الشباب والشابات ليس فقط في فرنسا والغرب ولكن أيضاً في كل من سوريا والعراق وبقية الدول العربية، فعلى الأغلب أن معظم تلك الآليات والاستراتيجيات وطرق التعامل معها هي على درجة كبيرة من التشابه في جميع الدول.