داعش ذروة الإسلام السياسي… ونهاياته

علي الأمين

تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام أو داعش، هو خلاصة الأيديولوجيا الإسلامية التي عملت في طول العالم العربي والإسلامي على مواجهة التحديات الحضارية لحكومات هذه الدول وشعوبها بمقولة “الإسلام هو الحل”، موحية للشعوب بأن لدى الإسلام حلولا سحرية للتنمية والتطور والرفاه، سوف تتحقق بمجرد أن نتبنى تلك الشعارات التي تتوسل الدين من دون أن تحتوي على أي مضمون خاضع للتجربة وللتطور ويتيح المجال للاستزادة من الخبرات الإنسانية في مجال الحكم والإدارة وبناء السلطة وتداولها.

لذا ثمة انحسار للخطاب الأيديولوجي واندثار لمشروع الإسلام السياسي الجامع في حده الأدنى، بعدما أظهرت هذه العناوين وتطبيقاتها أنها فقدت بريقها وجاذبيتها وفشلت في تقديم نموذج للحكم يعتدّ به. وكشفت أنها أسوأ بكثير مما حملته التجربة القومية العربية التي قامت على أنقاضها رافعة شعار “الإسلام هو الحل”. شعار كشف كم أن شهية السلطة لدى الإسلاميين هي التي تجير الدين كوسيلة في سبيل غاية السلطة.

كما كشف انحسار هذا الخطاب فشل الإسلاميين في تحقيق مشروعهم بمقاربة القضية الفلسطينية. لقد خلص المشروع الإسلامي إلى مشروعات تتقاسمها إيران وتركيا لتدرج في سياق مصالح هاتين الدولتين بالدرجة الأولى وفي صراع النفوذ على المنطقة العربية الذي صارت روسيا اليوم أحد أبرز العناصر الجديدة الفاعلة فيه. وبات أطراف الإسلام السياسي هذا ينقسمون في محاور متقابلة وكل يدعي قربا بليلى.

ليس هذا فحسب، فالتجرؤ على القتل باسم الدين وفي سبيله طوى نهائيا حرمة دم المسلم، بل الإسلامي. فهذه الجماعات غرقت في الدماء ولم يعدّ يهز مبادئها قتل المسلم. ونتحدث عن المسلم لأن في أدبيات هذه الجماعات، وما نشأ عليه محازبوها، التناقض مع إسرائيل هو تناقض ديني. لذا كانت هذه الجماعات، منذ نشوئها، تشكك بالمنطلقات غير الدينية للصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، معتبرة أن قضية فلسطين لا تعني أبناء الشعب الفلسطيني فحسب، بل كل المسلمين في العالم. ولطالما كانت هذه المقولة سبيلا لمصادرة القرار الفلسطيني المستقل، باسم القومية حينا، وباسم الإسلام حينا آخر. ودائما في العنوانين كان الهدف ضرب وحدة القرار الوطني الفلسطيني والاستثمار في مشروع الانقسام الفلسطيني ومأسسته. وهذا ما شهدناه طيلة عقدين من الزمن، ومن دون أي مكسب سياسي فلسطيني.

أيضا الغرب الاستعماري و”الشيطان الأكبر” لم يعد عدّواً. فالعداء بين الإسلاميين أنفسهم فاق هذا العداء، والوقائع السياسية والميدانية تكشف حجم التنسيق بين “الملائكة” و”الشياطين” والاتهامات المتبادلة بين الإسلاميين بالتنسيق مع أميركا شاهد حيّ هذه الأيام. والمواقف اللفظية التي تصدر من بعض القيادات الإيرانية المنددة بالغرب وأميركا ليست إلا محاولة ﻹثارة الغبار حول صفقات وتنسيق وتعاون في الميدان. فرغم التدخل الأميركي الواضح عبر التحالف الدولي، لم نسمع من عتاة الإسلاميين الإيرانيين وأتباعهم أي دعوة لقتال الأميركيين في العراق، ولا تنويها بمن يقاتلهم، بل الثابت أن الدخول الأميركي مجددا إلى العراق تمّ بتنسيق وتفاهم ورضى إيراني.

كما لم نشهد صدور أي دعوة من قبل “محور الممانعة”، إن كان موجودا بعد، أو من إيران، ﻹنشاء حلف لمواجهة التدخل الأميركي والغربي في سوريا أو العراق أو غيرهما.هذا الفراغ الذي سببه انحسار الخطاب الأيديولوجي ضد الغرب، وتراجع قرقعة السلاح في وجه العدو الإسرائيلي، وطي شعار حرب المستضعفين ضد المستكبرين ومقولة الشيطان الأكبر، يجري ملؤه بشعارات تكشفها وسائل التعبئة الجديدة بما تحمله من عناوين، إن لم تكن جديدة، إلا أنها تتصدر المشهد. والاستقطاب المذهبي هو الوسيلة المعبرة عن الفشل الذريع للإسلام السياسي.

فإذا كان هذا المشروع في بعض أدبياته يهدف إلى بناء مشروع إسلامي تحرري في العالم الإسلامي عابر للمذهبيات، ها هو اليوم يبدو أكثر احترافا في استخدام العنوان المذهبي لتبرير انخراطه في حروب تدمير المنطقة العربية ومجتمعاتها.

وكذا المشروع الإسلامي الذي اقترحته إيران على العالم الإسلامي عام 1979 والذي جذب في بداياته، بيئات سنية عربية وإسلامية أكثر من البيئات الشيعية، ينتهي اليوم إلى أن يعجز عن الترويج لنفسه في العالم الإسلامي إلا بكونه مشروع حماية أو استثمارا للشيعة.

نهاية الإسلام السياسي ليست هنا فقط. فلقد تقدم تنظيم داعش بكامل العدة الفقهية والدينية التي استخدمها أقرانه في العقود السابقة: الخلافة الإسلامية وشرع الله والعداء للغرب وأميركا ومقاومة سايكس بيكو… ليست المشكلة في الشعارات أو الطروحات بل في أن ما تنطق به هو كلام الله ورسوله والراد عليه كالراد على الله، وفي هذا المنطق لا فرق بين إسلامي وآخر سواء كان في عداد الحرس الثوري أو تنظيم داعش…

لم تستطع أي نظرية للحكم في أكثر الحركات الإسلامية الأصولية أن تتجاوز فكرة أن لا فرق بين مسلم وآخر من حيث العقيدة والمذهب فما بالك عن غير المسلم. فلقد فشل أصحاب نظرية الدولة الدينية في حلّ إشكالية المساواة بين المسلمين في الحقوق والواجبات أو بين المسلمين المنتمين إلى قوميات مختلفة. فلا زالوا عاجزين عن اﻹقرار بشرعية الحاكم، إنْ كان مختلفاً في المذهب، أو في القومية.

ولعل سؤالا يمكن أن يوجه إلى أصحاب نظرية أن الحدود بين الدول العربية والإسلامية هي بلاء العرب والمسلمين: هل أن قيام داعش بإزالة الحدود هو الحل؟ بمعنى أنه لو قام بهذه المهمة فريق إسلامي آخر هل كان المعترضون على هذا التنظيم من أصحاب نظرية الحكم الديني سيقفون الموقف نفسه؟

بالتأكيد فإن قناعات حركات الإسلام السياسي تنطلق في تحديد أهداف سياسية، تسبغ عليها صفات دينية وإلهية، راذلة شرعية الشعب أو الناس. من هنا فتنظيم داعش هو ابن هذا المسار من الحكم والتحكم باسم الله والدين على الناس. وما دام أن هناك بين المسلمين من يعتبر أن السلطة هي شأن ديني، ولا تقرره إرادة الناس أو الشعب، فستجد الشعوب الإسلامية دوما من يخرج بقوة السيف، رافعا راية “لا حكم إلا لله”، مدّعيا أنه ينفذ حكم الله على الأرض.

ثمة أسباب عميقة قديمة لمأساتنا الحالية، ومن بينها أن أصحاب نظرية الإسلام السياسي يعتبرون اللجوء إلى الإسلام المتشدد وسيلة وحيدة لإيقاظ العالم الإسلامي ولتوحيده من جديد. ومن هنا انطلقت فكرة الخلافة، في وجه هيمنة العالم الغربي على الأنظمة العربية وعلى المجتمعات العربية الإسلامية، وتوغل الأفكار الغربية. كما أنه رغم دخول البلدان الإسلامية في الحداثة بقيت جماهيرها متشددة، أو متمسكة بالفهم المنغلق للدين.

وهذه ظاهرة تحتفي بها الأصوليات وتتبناها في قتال شبيهاتها داخل المذهب نفسه أو في المذهب الآخر، أو الحكومات أو الدول الغربية المهيمنة عليها.

باختصار فإن تنظيم داعش كما أنه سؤال برسم شعوب المنطقة ونخبها، فهو بالضرورة نتاج العجز عن حلّ المعضلة التي نفذ منها هذا التنظيم، وهي التالية: أين تكمن شرعية السلطة في الإسلام؟ في الدين أم في الدنيا؟

المصدر: العرب

أخبار سوريا ميكرو سيريا