بوتين ونصائح قدري جميل
30 تشرين الثاني (نوفمبر - نونبر)، 2015
مرهف دويدري
في شتاء عام 2002، سمعت محاضرة اقتصادية ألقاها آنذاك الباحث الاقتصادي والشيوعي الارستقراطي قدري جميل، في مدينتي إدلب، لمناسبة التحضير للحرب على العراق.
حاول قدري جميل أن «يُبسّط» للحاضرين السبب الذي يدفع الرئيس جورج بوش الابن إلى احتلال العراق بعد أفغانستان، وتمثيلية تفجير برجي مبنى التجارة العالمي في نيويورك، خصوصاً أن الولايات المتحدة تمثل «قوى الإمبريالية العالمية»، و «التحركات المشبوهة» ضد الأنظمة التي لا تتوافق معها.
جاءت المحاضـرة بعد القضاء على «ربيـــع دمشق»، وزجّ معظـــم رجالاتـــه في السجون، حيث اتّهم البعـــض بتمويل من الإدارة الأميركية، خصوصــــاً أن الوريــث الجديد للبلاد، الذي قال فـــي خطـــابه الأول أمام مجلــــس الشعب (خطاب القسم)، أنه لا يمــلك عصا سحرية، ما أعطـــــى هامشاً كبيراً من الحرية، لشتم الــولايــات المتحـــدة، ومدح حليـــفه الأكبــــر آنذاك «حزب الله» فقط!
أقرّ يومها جميل بأنّ الولايات المتحدة ذاهبة إلى احتلال العراق، وأنّه لا بد لها من ذلك، ربما لأنها ستنهار اقتصادياً، إن لم تفعل ذلك، خصوصاً أن مخزونات الأسلحة الذكية والقادرة على الوصول إلى هدفها، مكدّسة في مخازن شركات تصنيع السلاح التي كان يملك إحداها وزير الدفاع الأميركي آنذاك دونالد رامسفيلد، وأنّه من الضرورة بمكان تفريغ هذه المخازن، وحصول الولايات المتحدة على ثمنها من دول الخليج، لرفع سعر الدولار، الذي بدأ يتهاوى بسبب التفاوت الكبير لكميات الطرح في السوق، على حساب الدورة المالية الحقيقية. ولعلّ المحاضر كان مولعاً بالصناعة، فسرد لنا تشبيهاً عن القوة النابذة، التي عن طريقها ستستردّ الولايات المتحدة قيمة الدولار الحقيقي، وليس أسهم البورصة الوهمية، فشبّه لنا هذه العملية بـ «تنشيف الثياب داخل حوض الغسالة الاتوماتيكية» التي تطرد المياه بطريقة القوة النابذة، أي أن الولايات المتحدة ستطرد القيمة الوهمية، في حال استردت القيمة الحقيقية، من خلال فواتير الحرب العراقية.
محاضرة جميل كانت بحثاً عن أسباب الحرب على العراق، من وجهة نظر نائب رئيس الوزراء في حكومة النظام السوري، الذي حصل على منصبه بصفته «معارضاً» للنظام، وقريباً من روسيا، التي تربطه معها علاقات تجارية وصناعية، (وأقصد تلك الشركات التي يملكها) لكن ما يثير الاهتمام الآن هو: هل سمع فلاديمير بوتين تلك المحاضرة التي ألقاها جميل في مدينة تقصّد النظام تهميشها، على مدى أربعين عاماً؟
محاولات بوتين ليظهر تدخله في سورية، من باب إنهاء الصراع، وتحسين أداء الجيش السوري النظامي، لتحسين ظروف المفاوضات، والانتقال السياسي من دون فراغ يؤدي إلى الفوضى، والمحافظة على مؤسسات الدولة السورية، كلها باتت تدخل في الشك من ناحية نيات بوتين، والهدف من تدخّله العسكري في سورية، على رغم تأييده النظام السوري، والعمل على منع سقوطه، من خلال استخدام الفيتو في مجلس الأمن ثلاث مرات، وتوريد السلاح، الذي وصلت فاتورته إلى عشرات بلايين الدولارات.
لقد صدرت تقارير تتحدث عن الكلفة اليومية التي تدفعها روسيا للعمليات العسكرية في سورية، من خلال الطلعات الجوية، لضرب معارضي الأسد، والذين تعتبرهم روسيا إرهابيين، وتعني بهم جميع من ليسوا ضمن جيش النظام، ولعلّ هذا ما يفسر ضرب قوات موالية للنظام ليست داخل صفوف جيش النظام، فقد قيل في وقتها أنها ضربات خاطئة، إلا أن بعض المحللين اعتبرها وسيلة ضغط على قوات الدفاع الوطني، للانضمام إلى الفيلق الرابع المشكّل حديثاً تحت السيطرة الإيرانية، والإسناد الجوي الروسي.
وأشار أحدث التقديرات عن الكلفة الروسية إلى مبلغ 2.4 مليون دولار يومياً، وقد أكّد بوتين نفسه أنها لن تستمر إلى النهاية، وإنما إلى منتصف كانون الثاني (يناير) 2016، أي أن هذه العملية ستكّلف مئات الملايين من الدولارات، لضرب تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، وتحسين أداء جيش النظام على الأرض. إلا أن بداية العمليات لا تدعو القيادة الروسية إلى التفاؤل فيشكل كبير، لذلك بدأت البحث عن مخرج يحافظ على ماء الوجه أمام الرأي العام الروسي، على الأقل، خصوصاً أن بوتين مدعوم من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، لقيادة «الحرب المقدسة» التي ستنهي «الإرهاب الإسلامي»!
في الواقع، إن انهيار أسعار النفط، والعقوبات الطويلة التي فرضها الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة على روسيا على خلفية ضم شبه جزيرة القرم، ستجعل الوضع الاقتصادي الروسي في مأزق صعب جداً، ولن يستطيع الصمود كثيراً في مواجهة العالم، فكان لا بد من جرعات إسعافية سريعة لإنعاش جسد الاقتصاد الذي وصل إلى حافة الأزمة. وهنا لا بدّ من العودة إلى «المحلل» قدري جميل، فوفق فرضياته أن روسيا لم تتدخل في سورية لحماية الدولة، أو حماية بشار الأسد، ومنع سقوطه، أو تحسين ظروف التفاوض. الآن روسيا تريد أن تُفرّغ مخازنها من السلاح القديم، وتجرّب السلاح الجديد من دون تكاليف.
بعد الاتفاق النووي الإيراني مع مجموعة الخمسة زائداً واحداً، وموافقة المرشد الأعلى في إيران على الاتفاق، وإعطاء أوامره بتنفيذ الاتفاق، ووصايا أوباما من جهة أخرى، برفع تدريجي للعقوبات عن إيران، والإفراج عن الأموال المجمّدة في البنوك الأميركية، ما يعني أن إيران قد تحصل على نحو مئة بليون دولار مجمّدة.
على خلفية هذا الحدث الكبير، جاء التدخل الروسي، بطلب من النظام السوري الذي يعمل كمحافظ لدى إيران، وفق المعادلة التي بات الجميع يعرفها. وبالطبع، فقد وافقت روسيا على هذا الطلب فوراً، على رغم إيقاف تنفيذ صفقات سلاح للنظام السوري في السابق، ريثما يُدفع ولو جزء من الصفقة، كي لا تلدغ روسيا من الجحر السوري مرتين، بعد رفض الأسد الأب دفع الديون السورية لروسيا، إبان انهيار الاتحاد السوفياتي، ما أدى إلى قطيعة لفترة طويلة بين البلدين.
إذاً إيران هي التي ستتكفل بدفع تكاليف التدخل الروسي، الذي يكثف من غاراته، ويلقي كميات كبيرة من الذخائر، لأنها في نهاية المطاف مدفوعة الثمن، وتكون موسكو عوّضت بذلك ما ضاع منها من صفقات مماثلة في العراق وليبيا واليمن، لتعود سوق السلاح الروسي مرة أخرى إلى واجهة الاقتصاد الروسي، الذي أصدر تقريراً عن مبيعات روسيا خلال الأعوام الخمسة عشر الأخيرة، أي ما قبل البدء بمحاربة الإرهاب العالمي، وانتهاء الحرب الشيشانية، حيث وصل حجم المبيعات إلى نحو 115 بليون دولار، وهو إعلان لتحسين الوجه الاقتصادي الروسي أمام الروس، الذين تظاهروا رفضاً للتدخل العسكري في سورية، خوفاً من تفاقم العقوبات الاقتصادية، ووصولهم إلى أيام ما زالت في الذاكرة، في الأشهر الأخيرة قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، عندما لم يعد المواطن العادي يجد مواد استهلاكية في المحال التجارية، ما أدى إلى الانهيار العظيم، وإنهاء أسطورة الاتحاد السوفياتي. فهل يكون الوضع الروسي الحالي بداية انهيار روسيا «البوتينية».