نزيه أبوعفش شاعر صرخ ‘كم من البلاد أيتها الحرية؟.. ثم سلم نفسه لشبح الطائفية
7 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2015
الشاعر نزيه أبوعفش تحول من طليعة المثقفين المعارضين لنظام الأسد إلى واحد من أبواقه ومهرّجيه بعد خمس سنوات على انطلاق الثورة السورية.
يا ربَّ الأرضْ
يا ربّ الشعراء، والحالمين، وفاقدي الأملْ ربّ الخائفين، والثكالى، والطيرِ، وضِعافِ البهائمْ يا ربَّ الأرضْ إنْ لم تستطعْ إصلاحَها اِجعلْها خراباً”.
كلمات نزيه أبوعفش، الشاعر السوري الذي ارتبط اسمه بنداء الحرية قبل أربعة عقود كاملة، حين بدأت دواوينه توزّع سراً بين اليساريين والمعارضين والمطلوبين والملاحقين أمنياً، بين الشباب والصبايا، بين مثقفين عرب كثر، كانوا يختارونه لقضاء الوقت معه حين يزورون دمشق، ولم يكن آخرهم الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، ليتحول أبوعفش مع الوقت إلى أيقونة مضادة.
وحتى الأمس القريب، كانت هنالك هالة من القدسية تحيط بالشعراء. تعصمهم من أخطاء “الرعاع”؛ كان الدور التنويري للمثقف حاضراً في الشارع المنتفض، الذي لعب المثقفون دوراً محورياً في استفاقته من سباته، من خلال البيانات التي قامت بصياغتها جمعيات ما يسمّى بإحياء المجتمع المدني.
ابتداء من العام 2001، إلى أن وئدت بشكل كامل عام 2002، بعد أحكام السجن التي صدرت بحق أهم المفكرين، وحملة لواء الفكر المدني -ممّن وقعوا على هذه البيانات أو دارت شكوك حول أنهم قد يوقعون- والذي دفن كل أمل، في أن نظام الأسد قابل للتخلي عن صبغته الأمنية، والتحول إلى نظام مدني ومؤسساتي، خاصة بعد الترويج لثقافة “الطبيب الشاب” القادم من بريطانيا متأبطاً ذراع سيدة تحمل الجنسية البريطانية.
صليب الوهم
لم يطل الأمد حتى أخمد الأسد ربيع دمشق الأول، بأحكام سجن طالت المثقفين والمنتسبين للأندية، التي كان يفترض أن تكون البراق الذي سيمتطيه هؤلاء، ليخرجوا سوريا من الشرنقة السوداء إلى حدائق النور؛ نزيه أبوعفش كان واحداً منهم، لكنه اختار أن يقبع مصلوباً في سرداب، كما كان يظهر للجميع على أنه مصلوب على جدار الحرية في جميع دواوينه.
ولد أبوعفش في مرمريتا عام 1946. وتلقى تعليمه فيها، وعمل في التعليم، كما عمل محرراً وموظفاً، وعضواً في جمعية الشعر في اتحاد الكتاب. وصدر له “الوجه الذي لا يغيب”، “عن الخوف والتماثيل”،”حوارية الموت والنخيل”، “وشاح من العشب لأمهات القتلى”، “أيها الزمن الضيق، أيتها الأرض الواسعة”، “بين هلاكين”، “هكذا أتيت.. هكذا أمضي”، “ما ليس شيئاً” وغيرها.
كتب عن حياته مرة “الصاعقة الأكبر كانت قراءتي للبيان الشيوعي. كان ذلك في نهايات مرحلة دراستي الثانوية، وكانت أمّي (التي لا تعرف القراءة، والمذعورةُ دائماً من احتمالاتِ أن يُسجن أبي مرة ثانية) تحرق أو تخفي كل ما تقع عينها عليه من كتبٍ وكراريس مشبوهة تحمل صوراً لمؤلفين ذوي لحى طويلة (تخيّلوا لحية كارل ماركس)، وكان هذا الكتاب واحداً من كتب قليلة نجت من محرقة أمي”.
ويضيف صاحب “الله قريب من قلبي” واصفاً تكوّنه الفكري كثوري عرف طريقه “كانت قراءة البيان بمثابة اكتشاف لطريق أخرى، طريقٍ تستحق أن تُختبر وتُسلك. نعم، كانت منعطفاً ونقطة تحول. وهكذا، في تلك المرحلة الحاسمة من الشباب، سيصير لي صديقان يتشاركان في صناعة حواسي وعقلي: كارل ماركس الذي لن أتوقف عن قراءة بيانه إلى ما بعد عقودٍ من ذلك الوقت، ويسوع المسيح الذي سأكتشف ملامحه الأولى في تراتيل كنيسة مرمريتا، والذي ستشكِّل تراجيديا حياتهِ وموته العمود الأساسي للبناء القلق الذي ستقوم عليه حياتي، وتتوشّح بظلاله وسوداويةِ عناصره جميعُ نصوصي وقصائدي وكوابيسي”.
كان هذا في الماضي، أمّا اليوم، فنستطيع القول إن نزيه أبوعفش لم يكن في أيّ يوم، أصدق من لحظة كتابته مقاله المعنون “السياسة هي: فن المتاجرة بالعار”، ويبدو أن من كان يحظى يومها بلقب “شاعر”، تدرّب على هذه اللعبة جيداً في عالمه الخاص، هذه التهمة التي حاول الأديب اللبناني عباس بيضون نفيها عنه، حين قال بأنه لا يشك بأن نزيه أبوعفش قد أصبح “غارسوناً ” لدى نظام الأسد، غير أن شاعرنا وجد أن تلك “الصنعة” تدرّ ربحاً وفيراً، فارتضاها على حساب شعره، وكلمته، وحتى اسمه الذي كان كبيراً حتى وقت قريب.
لوحة من رسومات نزيه أبوعفش الذي اتخذ من المسيح رمزا لتكوينهأبوعفش نسخة العام 2005
في نسخة العام 2005، كان نزيه أبوعفش، شاعراً متمرّداً على كل الأيديولوجيات، وهو الذي مُنع من مزاولة نشاطه الأدبي، ونقل من عمله في التدريس إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بدعوى أنه خطر على الطلاب بحسب كلمة للصحفي حكم البابا في مؤتمر المنظمة العربية لحقوق الإنسان العام 2003.
في تلك النسخة البكر، التي لم يطلها مقص الرقيب، ولا أيديولوجيات “الممانعة” المتعفنة، كتب نزيه أبوعفش، متحدثاً عن “جنون الأعلام” الذي اجتاح العلاقات السورية- اللبنانية، إبان اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري؛ كتب يومها يقول “هذه المرة لم أجد الحماس الكافي للسخرية منها ومن وطنيّتها الباذخة، أنا الذي كنت أقول على الدوام لمن يتفاخرون بأعلام بلدانهم: إنّ خلف كلّ علمٍ هويةَ وحش، وناب وحش، ومصرع وحش، العلم صورةُ تَجَبُّر الإنسان، وصورة انحطاطه ويأسه أيضاً”.
أبوعفش، يرى في من يختبئون خلف العلم وحوشاً، ولكنه لا يرى الشيء ذاته بحق من يستقوون ببساطير الطغاة، بل هم يقومون بواجبهم، تجاه وطن فصّل على مقاس رؤوس أكل أدمغتها القيح، والحقد، رؤوس تعتاش على الطائفية، وانتهاك قداسة الوطن في كلّ مناسبة.. بدعوى الوطنية والغيرة على البلد.
يخرج نزيه أبوعفش، بعد سنوات عشر، خمس منهن كنّ عجافاً بحق ليس على مستوى القتل وآلة الحرب، التي جزّت أعناق أبناء البلد، وخنقت أصواتهم. بل لأنها أزالت طبقة الطلاء اللامع الذي كان يخفي تحته هذا الكمّ الهائل من الصدأ والتهتك، الدفين تحت تلك الطبقة، في ضمائر من كنا نخالهم شعراء.
أبوعفش نسخة 2015
في نسخته الجديدة، يخرج “أبوعفش” ليقول “مسامحة القتلة مسؤولية الله أما إرسالهم إلى الله، فتلك مسؤوليتي”. ولكنّ الصدمة الكبرى تأتي حين تكمل القراءة، في التوقيع الذي ذيّل فيه كلامه، لقد اختار اسم “فلاديمير بوتين أبوعفش” في استعارة لحرب بوتين المسيحية المقدسة التي أعلنها وشنها على الشعب السوري، بذريعة محاربة داعش.
لا نعرف أي منطق “وطني” يدعو الشاعر لاستعارة اسم رئيس دولة تحتل الأرض السورية، وتصدّر القتل لكلّ أبنائها، سواء أكانوا من مؤيدي الأسد، أم من أولئك الثائرين الذين خرجوا على طاعة “الحاكم بأمر البرميل”.
في قصيدة سابقة، نشرها أبوعفش على صفحات صحيفة حزب الله (الأخبار اللبنانية) يشير من نافذة المثقف المتعالي الضيقة، إلى تطاول “الرعاع” على سادتهم، كما هو واضح من كلماته، وإلى عدم أحقّيتهم في الاحتجاج، وهو اليساري، الموقع على ما عرف ببيان الـ”99” عام 2000، يقول:
“نعم
هو الشحّاذ الذي كلُّهُ في الوحْلِ
وعينُه على التاج.
ربما لهذا (لأجل هذا، وبسببِ هذا)
هو الحيوانُ الوحيد الذي مَـجَّدَ الطموح”.
يرى الشاعر في أولئك الذين خرجوا للمطالبة بانتزاع الحكم، من يد من اعتادوا السطو عليه، من يد من ورث البلد عن أبيه وكأنه تركة، أنهم “شحاذون يتطلعون إلى التاج”، فماذا تبقى من الشاعر، حين يصنف الناس وفق انتماءات طبقية، وطائفية؟
الخوف من المعارضة
في هذه النسخة المحدّثة، التي خضعت لعملية محو للضمير، يخرج نزيه أبوعفش، على صفحات جريدة السفير، الموالية لنظام كان حتى الأمس القريب يهاجمه، كلّما سنحت له الفرصة، ليقفز إلى قارب الناجين من هذه التهمة، في أول فرصة أتيحت له، متهماً شركاء المعاناة، والألم، والحرمان، من ممارسة أبسط حقوق المواطنة؛ يخرج الشاعر، ليقول إنه “يخاف هذه المعارضة”، وتبريره أن “النظام ظلمه، ومنعه من الكتابة، ولكنّه لم يخفه”.
ما الذي يمكن أن يخيف شاعراً، أكثر من خنق كلماته في داخله، ومنعها من التحليق في الأثير، أكثر من إرخاء العنان لأهازيجه، كي تراقص العصافير، وتمنح للنجوم بريقاً إضافياً؟
لماذا يخاف شاعر من معارضة لا تملك أجهزة أمنية، ولا مقصّ رقيب، ولا أقبية تودع في غياهبها كلّ من يتجرّأ على تاج الملك، وينال من قداسته؟
هل كانت هذه المعارضة في لبنان تمتهن كرامة أصدقاء الشاعر اللبنانيين، الذين احتج على النظام لما ارتكبه بحقهم من انتهاكات؟ وهو الذي دافع عنهم قائلاً “هل كانت إهانة المواطنين المستضعفين (وبعضهم أصدقاء نعرفهم) جزءاً من مهمتنا في لبنان؟ هل كان الابتزاز، بشتى صوره، جزءاً من هذه المهمة؟ هل التطاول على البشر كان جزءاً من المهمة؟ هل الإساءة لصورة الجندي -حارسِ الحياة والكرامة والأمن- كانت جزءاً من المهمة؟”.
العبيد الذين يراهم أبوعفش
مسألة محيّرة هي تلك الازدواجية التي يعاني منها نزيه أبوعفش، فالممارسات التي مارسها النظام بحق اللبنانيين منذ دخوله بحجة حمايتهم وفرض الأمان في لبنان، هي ذاتها التي نال فيها من كرامة المواطن السوري في الحقبة ذاتها وبآلة القتل نفسها، ولكن الشاعر ببصيرته المتقدة يخاف من العامة وينتصر للنخب.
لم يخفِ أبوعفش، تلك الازدواجية المحنطة والبرجوازية السافرة في بدايات الثورة السورية، وفي 6 أبريل، حيث لم يكن قد مضى شهر من عمر الثورة فنشر على صفحته الشخصية على موقع الفيسبوك “ذلك كلُّ ما أراه: ظلامٌ ينفتح على ظلام، عبيدٌ يستنجدون بنخّاسين قدامى، والهاربون من القسوة يشحذون سكاكين قسوتهم”.
هنيئاً للشاعر نجاته من مركب النخاسين القدامى، وكأن شركاء القضية -سابقاً- ممن اعتقلوا في اعتصام وزارة الداخلية، تحوّلوا إلى نخاسين، ومن تاجر بهم وأودعهم غياهب السجون هو ذلك البطل الأسطوري الذي سيحمله على حصان أبيض مجنح ليحلّق في سماء رحبة، بلا “نخاسين”.
تأملتُ طويلاً صفحة نزيه أبوعفش على موقع فيسبوك، وتوقيعه باسم الرئيس الروسي، رئيس البلد الذي صدّر للعالم ثورته البلشفية؛ الثورة التي أشعل شرارتها أدباء عظماء كتولستوي، وبوشكين، وماتوا قبل أن يروا ثمارها، أما من رأى ما جرّته من استبداد على العباد، فقد انصرف عنها.
مفارقة غوركي
سيذكر التاريخ أن غوركي، والذي كان صديقاً حميماً لستالين، أبعد عن البلد، لأنه وقف معارضاً لسياساته في البلد، وانتصر لأصدقائه الشعراء، وأنه وولده ماتا مسمومين في إقامتهما الجبرية، وأن نزيه أبوعفش تحول من شاعر من طليعة المثقفين المعارضين لنظام الأسد القمعي إلى واحد من أبواقه ومهرّجيه بعد خمس سنوات من القتل ونصف مليون شهيد سفكت دماؤهم على تراب وطنهم، الذي لطالما تغنّى به أبوعفش، وسيذكر التاريخ أيضاً أنه نصّب نفسه قاضياً يحاسب فيه من افترض أنهم قتلة، وقرّر منح نفسه الحق بـ”إرسالهم إلى الله”.
قال نزيه أبوعفش قبل شهور “والآن -مثلما حاولتُ قبل ثلاثين أربعين عاماً- سأواصل التخلّي عن كل خطابٍ يزعم أنه يرشد إلى حقيقةٍ أو يقينٍ أو محطةِ خلاص؛ وسأكتفي بكتابةِ اليأس والأحلام. وأيضاً سأتذكّر: سأتذكّر أنني أمضيتُ حياتي خائفاً من أعداء حياتي وخائفاً من أعدائهم”. خائف من الآخر. لأنه يرى الآخر وحشاً بالضرورة.