واشنطن تشرعن الإرهاب الشيعي لمحاربة الإرهاب السني


نيد باركر

في أحدث مستجدات ملف التعذيب الذي يتعرّض له المعتقلون في سجون العراق منذ الاحتلال الأميركي، كشف تقرير لوكالة رويترز، نقلا عن تحقيق أميركي أجري قبل عشرة أعوام، لكن ظلّ طي الكتمان، أن الولايات المتحدة تستّرت على أعمال قتل وتعذيب وانتهاكات بحق عراقيين سنّة، كانت تقوم بها بالأساس منظمة بدر الشيعية.

في أواخر 2005، أي بعد عامين من غزو الولايات المتحدة للعراق، داهم جنود أميركيون مبنى تابعا للشرطة في بغداد ووجدوا 168 سجينا في حالة مروعة، وبدا أن الكثير منهم كان مصابا بسوء التغذية والبعض تعرض للضرب. وأماط اكتشاف هذا السجن السري اللثام عن عالم من عمليات الخطف والاغتيالات التي سادت في إحدى أكثر الفترات عنفا في تاريخ العراق.

وقال مسؤولو أمن عراقيون وأمنيون، في ذلك الوقت، إن خلف هذه العمليات منظّمة غير رسمية تابعة لوزارة الداخلية تسمّى دائرة التحقيقات الخاصة، ويديرها قادة من منظمة بدر، وهي حركة سياسية شيعية مؤيدة لإيران، تلعب اليوم دورا كبيرا في حرب العراق ضد تنظيم الدولة الإسلامية السنّي.

وكانت تلك الواقعة من أبرز الأحداث الصادمة في عراق ما بعد الاحتلال، وجاءت في خضم الجدل العالمي الذي أثارته فضيحة صور التعذيب في سجن أبوغريب، التي نشرتها شبكة “سي بي إس نيوز” في 28 أبريل 2004. ولتفادي التصعيد والانتقادات، ضغطت واشنطن على الحكومة العراقية لتحقّق في موضوع هذا السجن، لكن نتائج تحقيقات بغداد لم يتم الإفصاح عنها قط.

وقال دبلوماسيون ومسؤولون عسكريون أميركيون، حاليون وسابقون، إن الجيش الأميركي أجرى تحقيقه الخاص في هذا الأمر، ولكن عوضا عن نشر النتائج قرّر الضغط على المسؤولين العراقيين مخافة الإضرار بالتركيبة السياسية العراقية الهشة ولم ينشر أي من التقريرين، ولكن وكالة رويترز قالت إنها اطلعت عليهما وعلى وثائق أميركية أخرى تخصّ العقد الماضي من تاريخ العراق.

ويشير التحقيق الأميركي، الذي أجري قبل عشرة أعوام بشأن السجن السري، إلى ضلوع مسؤولين وجماعات سياسية في موجة أعمال قتل طائفية ساعدت في إشعال حرب أهلية. وتثير نتائج التقرير المخاوف من أن سكوت الحكومة الأميركية عمّا يجري اليوم من انتهاكات مزعومة ترتكب باسم محاربة تنظيم الدولة الإسلامية.

وممّا جاء في التقرير الأميركي “قام موظفو مديرية التحقيقات الخاصة على نحو غير قانوني باعتقال وتعذيب وقتل مواطنين عراقيين. وامتنع مسؤولو الحكومة العراقية عن اتخاذ أي خطوة. وواجه المحققون الأميركيون “عدم تعاون من الحكومة وتردّدا من جانب الشهود للتقدم والإدلاء بشهادتهم.

ومن بين المتهمين بإدارة السجن السري أو المساعدة في التغطية على وجوده رئيس القضاء العراقي، مدحت محمود، ووزير النقل بيان جبر وقائد كبير في منظمة بدر يشار إليه بالمهندس أحمد. وامتنع القاضي محمود عن التعليق على هذا الأمر، بينما قال زميل سابق مقرب له إن محمود كان يعلم بوجود السجن السري ولكنه لم يكن يعلم ما يجري بداخله. بدروه، لم يردّ وزير النقل جبر على أسئلة رويترز، رغم أنه كان قد صرّح علنا بأنه لم تقع أي مخالفات في ذلك السجن.

ويقول السنّة في المناطق التي يتم تحريرها من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية، إن الفصائل الشيعية مدانة بارتكاب انتهاكات هي الأخرى، وأن ممارساتها لا تختلف عن ممارسات تنظيم الدولة الإسلامية.

وقال عدد من ضباط الأمن وعضو في مجلس محلي وقادة قبليون إن 718 سنيا في محافظة صلاح الدين خطفهم مقاتلون من فصائل شيعية منذ أبريل 2015 ولم يتم الإفراج إلا عن 289 منهم وذلك بعد دفع فدية في معظم الحالات. وفي مواجهة هذه الحقائق، يقول بعض المسؤولين الأميركيين الحاليين والسابقين، إن على واشنطن الكف عن التهوين من شأن هذه الانتهاكات.

ويعتقد روبرت فورد، وهو دبلوماسي أميركي سابق عمل مسؤولا سياسيا في السفارة الأميركية بين عامي 2004 و2006، أن قرار الحكومة الأميركية عدم معاقبة القائمين على السجن السري أرسى سابقة مضرة، وقال “قبل عشرة أعوام كانت الفصائل جماعات مسلحة لها أجندات سياسية أو كانت أجنحة مسلحة لفصائل سياسية. والآن وصفهم مكتب رئيس الوزراء بأنهم مؤسسة رسمية ويحصلون على موارد مباشرة من الدولة”.

الفوضى

وقضت منظمة بدر سنوات في المنفى في إيران. وكانت المنظمة الأم وهي “المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق”، أكبر قوة سياسية شيعية في العراق. وبعد سقوط صدام حسين كانت واشنطن تأمل في أن يكون المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق ومنظمة بدر شريكين يعتمد عليهما في تشكيل قوات الأمن.

لكن مسؤولين في المخابرات الحربية الأميركية يقولون إنه على الرغم من مزاعم بأنه جرى تسريحهم بعد عودتهم للعراق، إلا أن مقاتلي بدر لم يلقوا سلاحهم، وبدلا من ذلك بدأوا يغتالون ضباطا عراقيين سابقين وأعضاء متنفذين في حزب البعث وموظفين عموميين.

ويشهد الكولونيل ديريك هارفي، وهو ضابط مخابرات متقاعد بأن الجيش الأميركي اعتقل فرق اغتيال تابعة لمنظمة بدر وبحوزتهم قوائم استهداف لمسؤولين سنة وطيارين في عام 2003 و2004، وهو ما يقود إلى الاستنتاج بأن الهجمات التي قامت بها الجماعات الشيعية العائدة إلى العراق كان من المفترض توقعها. وقال هارفي أيضا إن منظمة بدر والمجلس.

وبعد أن حققت الأحزاب الشيعية انتصارات كاسحة في انتخابات عام 2005 حصلت منظمة بدر والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق على السيطرة على وزارة الداخلية، وجاهرت السفارة الأميركية بتأييد هذه الخطوة. لكن جيمس جيفري، الدبلوماسي الأميركي الرفيع في ذلك الوقت، أبدى مخاوف حينما صار بيان جبر المنتمي إلى منظمة بدر وزيرا، وقال جيفري لـ“رويترز” “بيان جبر هو أكبر خطأ ارتكبته.. ملفه مروّع”.

واستشعر جيفري خطورة هذا الخطأ عندما قام جبر بتعيين أعضاء في منظمة بدر بمناصب قيادية في وزارة الداخلية العراقية. وأنشأ هؤلاء دائرة التحقيقات الخاصة السرية التي يعتقد مسؤولون أميركيون حاليون وسابقون أنها نسّقت أعمال قتل المسؤولين السابقين في عهد صدام حسين.

وزادت أعمال العنف بين الجيش الأميركي والمسؤولين في سفارة الولايات المتحدة، حيث أراد الدبلوماسيون إحالة المسؤولين عن أعمال القتل على العدالة لكن المسؤولين العسكريين كانوا على استعداد لغض الطرف. واعترف دبلوماسي أميركي بأن كبار موظفي قيادة التدريب الخاصة بقوات الأمن العراقية، رفضت طلبا للسفارة الأميركية بتقديم معلومات بشأن تحركات القوات العراقية في مناطق خطف فيها سنّة.

وفي وقت سابق هذا الشهر قال ديفيد بتريوس، الرئيس السابق لوكالة المخابرات المركزية الأميركية لرويترز، إنه كان قلقا بشأن الانتهاكات وأثار القضية مع الحكومة العراقية والجنرال جورج كيسي، الذي كان قائدا للجيش الأميركي في العراق آنذاك.

السجن

طفت التوترات على السطح في نوفمبر 2005 حينما تلقى الجنرال كارل هورست ضباط العمليات في بغداد بلاغا عن أن مراهقا سنيا عراقيا محتجز في سجن سري بوزارة الداخلية. وقام هورست بمداهمة مبنى الشرطة الكائن في حي الجادرية في بغداد، ولم تعثر القوات على المراهق لكنها اكتشفت وجود 168 محتجزا، لتجد واشنطن نفسها أمام مشكلة جديدة، فمنظمة بدر واحدة من القوى العراقية القليلة التي لا تعادي الأميركيين. ولكن بعد ظهور ما صار يسمّى “قبو الجادرية” فإن ذلك الفصيل جرى ربطه بأعمال القتل التي تمزّق العراق.

وفي محاولة لتجنّب التصعيد، دفع مسؤولون أميركيون القيادة العراقية لتحقق في الأمر وتقدم أدلة إلى رئيس الوزراء العراقي آنذاك إبراهيم الجعفري، الذي قال عنه فورد “لم يكن بمقدوره فعل شيء”. وبعد ضغوط بذلها الأميركيون أنشأ الجعفري لجنة تحقيق، لكن لم يتم الإعلان عن نتائج التحقيقات.

ويبرئ تقرير اللجنة، الذي اطلعت عليه رويترز، أجهزة الأمن العراقية وكل المسؤولين العراقيين. وبدلا من ذلك قالت لجنة التحقيق العراقية إن شرطة “البعث” كانت تعامل السجناء بصورة سيّئة. وقد أصابت هذه النتائج كيسي بالإحباط، فعمل على إجراء تحقيقه الخاص. وسلمت نتائج تلك التحقيقات، التي قادها فريق مهام المخابرات الحربية الأميركية إلى كيسي في فبراير 2006.

ويشير التقرير الأميركي إلى ضلوع وزير الداخلية جبر ورئيس القضاء العراقي محمود. كما يلقي باللائمة على رجلين كانا يديران السجن هما قائد مخابرات منظمة بدر في ذلك الوقت، بشار واندي ومسؤول ثان في منظمة بدر هو اللواء علي صادق.

وبحسب التقرير الأميركي فإن جبر كان “شريكا” و”مسؤولا بشكل غير مباشر عن الاعتقالات غير القانونية والانتهاكات والتعذيب وأعمال القتل خارج نطاق القانون”. وأفاد أيضا بأن جبر “امتنع عن التحرك حيال عدة بلاغات بوجود انتهاكات وأعمال تعذيب في القبو”، واصفا سلوكه بأنه “سلوك فيه تغافل”. وقال التقرير الأميركي إن محمود “جرى إبلاغه بالمشاكل” التي يشهدها السجن من قبل بعض زملائه القضاة “ولم يتخذ أي إجراءات لتقويمها”.

ورغم من دعوات المحتجين المناهضين للفساد في بغداد بإقالة محمود، فإنه ما يزال بمنصبه. وفي عام 2010 كلّف مكتبه قضاة تحقيق باستجواب محتجزين في سجن سري آخر في بغداد كان يديره رئيس الوزراء العراقي آنذاك نوري المالكي. وكان يضم أكثر من 400 رجل سني من مدينة الموصل، وجرى اتهام بعض القضاة في قضية تعذيب محتجزين.

وأشار التقرير الأميركي إلى أن المهندس أحمد “كان لديه علم بالاحتجازات غير القانونية والانتهاكات والتعذيب وكتمها عن الآخرين”، وكان نائبه علي صادق “المسؤول المباشر عن الاحتجاز غير القانوني والانتهاكات والتعذيب وأعمال القتل خارج نطاق القضاء”.

وتفيد سيرة المهندس أحمد، الموجودة في وثيقة داخلية لدى الجيش الأميركي، بأن مسؤوله المباشر هو هادي العامري قائد منظمة بدر. ووصفت السيرة أحمد بأنه “واحد من أخطر الرجال في العراق” وأنه قاد “أقسى وأخطر الجماعات المسلحة من فيلق بدر وهو يستخدم معدات وسيارات وزيّا رسميا من وزارة الداخلية”.

وظلّ أحمد بمنصبه في وزارة الداخلية على مدى 18 شهرا بعد عملية مداهمة للسجن، وتدّعي منظمة بدر أنه تقاعد قبل خمسة أعوام، لكنّ مسؤولا عسكريا أميركيا ومسؤولا أمنيا عراقيا سابقا قالا إنه مستمر في قيادة عمليات مخابرات منظمة بدر، ووصفه عضو في مجلس النواب العراقي بأنه مسؤول رفيع في بدر.

في فبراير 2006 وبعد أيام من تلقي الجنرال كيسي تقرير لجنة تحقيق الجيش الأميركي عن السجن الأول، فجّر مسلّحون من السنة مزارا شيعيا في سامراء، الأمر الذي تسبب في نشوب حرب أهلية كاملة. وسلّم كيسي التقرير إلى الجعفري، لكنه قال إن “رئيس الوزراء ليس لديه حافز للتحرك” ومقاومة الضغوط. وكان نوري المالكي، رئيس الوزراء آنذاك يكافح للبقاء في منصبه بعد الانتخابات العامة التي جرت قبل ذلك ببضعة شهور. وحينما تشكلت الحكومة الجديدة في العراق في مايو 2006 أطيح بالجعفري من منصب رئيس الوزراء وأصبح جبر وزيرا للمالية. وقال خليلزاد إن هذه التغييرات أوقفت نمو نفوذ الفصائل الشيعية المسلحة داخل جهاز الشرطة.

بيد أن دبلوماسيين آخرين ومسؤولين عراقيين وضباطا عسكريين أميركيين، يقولون إن الفصائل المسلحة كانت راسخة القدم في جهاز الشرطة والجيش حتى أن عمليات القتل خارج نطاق القانون استمرت حتى أواخر عام 2007. أما من دفعوا الثمن النهائي فقد كانوا من المعتقلين في السجن السري. وقال مسؤول عراقي سابق إن عشرة على الأقل من السجناء قتلوا في أعقاب إطلاق سراحهم. ومازال أحد الناجين يخاف على حياته.

ومع قيام الفصائل الشيعية المسلحة بدور متزايد في الدفاع عن العراق من تنظيم الدولة الإسلامية، قفزت شعبيتها بين الشيعة في البلاد. وأشاد الأميركيون أيضا بانتصارات الفصائل الشيعية المسلحة. وقال جيفري، السفير السابق إنه لم يقلق العام الماضي حينما اجتاح مقاتلو الدولة الإسلامية مناطق سنية لأنه كان على يقين أن الأكراد والعامري، قائد منظمة بدر، سينضمون إلى المعركة. وأضاف جيفري أن “العامري قاتل ثوري متطرف متعطش للدماء”.

لكن، بعض الضباط العسكريين الأميركيين عبّروا في أحاديث خاصة عن قلقهم من أن تسيطر الفصائل الشيعية المسلحة الآن على محافظات بأكلمها. وقال ضابط عسكري أميركي رفيع “إذا لم توجد مصالحة حقيقية، فإن غضب السنة سيستمر وسيزداد التأييد الذي يلقاه تنظيم الدولة الإسلامية”.

وختم محذّرا من أن استراتيجية واشنطن القائمة على شن ضربات جوية على مقاتلي تنظيم داعش مع غض الطرف عن التجاوزات الشيعية تساعد في تقسيم العراق إلى أجزاء دينية وعرقية.