هل هي بداية الحل في سوريا


Children make their way through the rubble of buildings in a devastated street on January 1, 2015 in the al-Kalasa neighbourhood of the northern Syrian city of Aleppo. More than 76,000 people were killed in Syria's brutal conflict in 2014, making it the bloodiest year yet in the country's nearly four-year war, a monitor said.  AFP PHOTO / BARAA AL-HALABI
العرب اللندنية – سعيد ناشد

يحقّ لنا أن نبتهج ولو قليلا ونعتبر أنّ الجمعة الماضية لم تكن جمعة كسابقاتها، كانت جمعة مفصلية لم يعرف لها الشعب السوري مثيلا منذ خمس سنوات، لعلها كانت جمعة مباركة بكل المعاني بعد تعاقب العشرات من الجمعات بطعم التفجير والتدمير، في هذه الجمعة لم يتغير إيقاع الموت اليومي داخل المقتلة السورية الكبرى، بل ظلت آلة الموت الرّهيب تحصد أرواح الأبرياء بلا رحمة، إلا أن الجمعة الماضية كانت جمعة الحل أيضا، أو كانت جمعة بداية الحل لأجل إنهاء أكبر مأساة إنسانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

في كل الأحوال، سيبقى الأمل معقودا والعمل محمودا والخطر موجودا. ولسنا نبتغي التذكير بالمخاطر من باب تبخيس الجهد المبذول، وإنما من باب الاستعداد لرفع التحدي. في الواقع، لا يبدو أن هذا المشروع الذي يمثل أرقى مظاهر الذكاء الدبلوماسي في العصر الحديث، وليد صدفة أو نتيجة رد فعل متسرّع على مخاطر الهجرة والإرهاب، وهي مخاطر لا ينكرها أحد، لكن يبدو أن هناك جهدا دوليا استثنائيا خارج مدار الضوء وبعيدا عن دائرة الضجيج الإعلامي أفضى إلى توزيع دولي دقيق للأدوار، بموجبه توصل مجلس الأمن إلى المصادقة بالإجماع على خطة طموحة لأجل تحقيق السلام في سوريا. واضح أن خلف الضجيج الإعلامي، وخلف كواليس جنيف وفيينا والرياض كان هناك جهد علمي وتقني وفني انخرطت فيه العشرات من اللجان والمؤسسات لغاية الوصول إلى اتفاق بين القوى الخمس في مجلس الأمن، روسيا وأميركا وفرنسا والصين وبريطانيا، وهو الاتفاق الذي أفضى إلى خارطة طريق لأجل حل المسألة السورية.

قبل التطرّق إلى أهم مضامين الاتفاق، هناك في الجوانب الشكلية خلاصة أساسية. كثيرون من شبّهوا الخلاف الرّوسي الأميركي حول المسألة السورية بأجواء الحرب الباردة، وفعلا فقد كانت بعض اللحظات توحي بعودة الحرب الباردة، غير أنّ الاتفاق حول سوريا يحيلنا إلى أجواء الحرب العالمية الثانية حين تحالفت واشنطن وموسكو لأجل التصدي إلى الخطر الأكبر، النازية. الخطر الأكبر اليوم هو الإرهاب التكفيري في شخص تنظيم داعش وملحقاته، والقاعدة وأخواتها. وإذا كان الغرب قد وظف إلى حد بعيد الحركات الإسلامية خلال الحرب الباردة لقطع الطريق أمام المدّ الشيوعي، فيبدو أن الاستمرار في توظيف الحركات الإسلامية “المعتدلة” لقطع الطريق أمام الحركات الإسلامية المتطرفة رهان مفلس. وربما الوعي بإفلاس هذا الرهان هو ما أكده تقرير جينكينز حول نشاط الإخوان المسلمين في بريطانيا والذي اعتبر الانتماء للإخوان “مؤشرا على التطرّف”. ما قد يعني تحولا في الاستراتيجية الغربية، وما قد يفتح الباب أمام توافق روسي أميركي قد يطول به الزمن ما طال زمن الحرب على الإرهاب. وهو التوافق الذي متى استحكم فستكون له نتائج على مستقبل الشرق الأوسط برمته.

ماذا تقول تفاصيل الخطة الأممية حول سوريا؟ تقترح الخطة خطوات واضحة: حيث يقوم الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه إلى سوريا بجمع ممثلي الحكومة السورية والمعارضة ليبدأوا مفاوضات رسميّة حول عملية الانتقال السياسي، وتحديد مطلع يناير 2016 كموعد لبدء المفاوضات بالموازاة مع وقف إطلاق النار بين كافة الأطراف باستثناء المناطق التي يسيطر عليها داعش والنّصرة، ثم يتم تشكيل حكومة انتقالية في غضون 6 أشهر، مع وضع وسائل تبني دستور جديد وإجراء انتخابات حرّة وإجراء انتخابات رئاسية خلال مدة لا تتعدى 18 شهرا.

نستطيع الاعتراف بأن قرار مجلس الأمن حول سوريا قد أحدث اختراقا كبيرا وسط جدار سميك، مع الإبقاء على عدد من القضايا العالقة، غير أن الدبلوماسية ليست سوى فن تعليق النقاط العالقة، أي تعليق بعض النقاط بالنحو الذي يتيح الفرصة لتطييب النفوس وجبر الخواطر. في هذا المشروع الطموح هناك أكثر من نقطة عالقة، ليس أصعبها مصير بشار الأسد الذي وإن كان يمثل عقبة كأداء إلا أنه لم يعد يمثل عقبة أولية، فقد تُرك مصيره إلى نهاية المرحلة الانتقالية، وهذا بصرف النظر عن التصريحات الشفهية التي تندرج ضمن تحفيز المفاوضات. نعم، هناك ثلاث عقبات آنية، هي امتحان للمعارضة بكل تأكيد، لكنها امتحان للمنتظم الدولي الذي لا يمكنه أن يرفع يده قبل إنهاء المهمة:

العقبة الأولى، تتعلق بالقدرة على ترسيم المجال المشمول بوقف إطلاق النار، سيما وأن المناطق التي يسيطر عليها داعش والنصرة واللذين سيتم استثناؤهما لا تمثل مناطق حدوديّة ثابتة. وفوق ذلك هناك خلايا إرهابية داعشية أو نصروية تعمل بتنسيق ميداني في بعض المواقع، وقيادة مشتركة في مواقع أخرى، مع جماعات مدعومة من بعض القوى الإقليمية ومصنّفة ضمن قوى “الاعتدال”.

العقبة الثانية، تتعلق بالجماعات المعارضة التي ستشارك في المفاوضات. فجهود الرياض في توحيد المعارضة مفصليّة لكنها محكومة بالتوازنات الإقليمية والداخلية، ما يعيق بلورة هيئة متجانسة ذات كفاءة عالية وقادرة على تدبير مفاوضات تفصيلية بالغة الدقة. يضاف إلى ذلك أن استبعاد تمثيلية وحدات حماية الشعب الكردي، التي لعبت الدور الأبرز في دحر قوات تنظيم الدولة الإسلامية، قد يرضي بعض القوى الإقليمية لكنه يضعف قدرة المعارضة على مقاومة الإرهاب. علما وأن الشرط الأمني لنجاح العملية الانتقالية يقتضي التقدم في مقاومة الإرهاب الفتنوي.

العقبة الثالثة، تتعلق بالتنظيمات المصنفة بالإرهابية والتي سيتم استبعادها من الحل. فرغم جهود الأردن في توفير لائحة دولية توافقية حول المنظمات الإرهابية التي يجب استبعادها من الحل السلمي في سوريا، إلاّ أنّ الخلافات الإقليمية والدولية والداخلية حول اللائحة النهائية لا تزال مطروحة، فضلا عن أن التداخل الميداني بين التشكيلات المسلحة في سوريا يزيد من تعقيد عملية الانتقاء.

طبعا خارطة الطريق تلك هي أقل من مطالب المعارضة السورية التي كانت تتمنى مرحلة انتقالية دون الأسد، لكن هل هناك من حل عسكري؟ لقد حظيت المعارضة المسلحة بدعم إقليمي غير مسبوق من حيث المال والسلاح والإعلام، وحتى المقاتلين المتطوعين، وأخذت كل الوقت لإسقاط النظام، أو إقناع الجيش بالانضمام، أو المساهمة في إحداث انشقاقات من مستويات عليا للدولة، أو تنظيم عصيان مدني واسع، أو الزحف على دمشق، أو إنجاز اعتصام مليوني في وسط دمشق، لكن لا شيء من هذا تحقق. خمس سنوات مرت، تشتتت خلالها المعارضة وسقط معظمها في فخ التطرف التكفيري. وفي الواقع لم يكن من المرتقب أن يقتنع الغرب بتكرار السيناريو الليبي بعدما رآه من مآس باتت تهدد أمنه.

بكل تأكيد، يستحق الشعب السوري المتحضر أن يعيش في ظل نظام يحفظ حريته وكرامته، إلا أن القاعدة تقول: لا يكفي أن تكون مظلوما حتى تنتصر. لقد كان الجيش الحر أول فصيل مسلح تشكل من منشقين عن الجيش النظامي، وكان الحس الثوري الصادق يستدعي دعم هذا التنظيم الذي أخذ زمام المبادرة في ظرف عصيب، إلا أن الذي حدث هو إغراق الساحة بتنظيمات جهادية سرعان ما ستتنافس على الغنائم المرشوشة بالحقد الطائفي ودماء الأبرياء. وليس يخفى عن أحد ما يحدث حين يتحول الصراع السياسي على السلطة إلى صراع بين مؤمنين وكافرين.

ونحن نحاول أن نستشرف المآلات الممكنة، هناك معطيات لا بدّ من ذكرها. لم يأت القرار الأممي معزولا، لكنه جاء ضمن نسيج من القرارات والتدابير، ما يمنحنا رؤية أكثر وضوحا: فقد صدر تقريران هامان بنحو متزامن “وثائق قيصر” حول جرائم بشار الأسد والتي قام بتسريبها أحد المصورين العاملين ضمن المخابرات العسكرية للأسد، ويعيش اليوم متنكرا داخل الأراضي الفرنسية، وتقرير جينكينز الذي أنجزته الحكومة البريطانية حول أنشطة الإخوان المسلمين داخل المملكة المتحدة، والذي أكد أن الانتماء إلى الإخوان المسلمين يعدّ “مؤشرا على التطرف”. لا شك أن “وثائق قيصر” ستمثل ضغطا قانونيا وأخلاقيا وجنائيا على الأسد وحلفائه، ولا شك أن تقرير جينكينز سيضعف الرهان الغربي على الإخوان المسلمين كحركة “وسطية معتدلة” لغاية احتواء الإسلام الجهادي المتطرف، ومن يدري فقد تظهر رهانات أكثر جدية ومعقولية.

مشكلة الرؤية الغربية لا تزال إلى الآن مختزلة ضمن مقاربتين: المقاربة السياسية في ما يسمى بالحل السياسي، والمقاربة الأمنية في ما يسمّى بالتدابير الأمنية. وهنا تغيب المقاربة الأهم: المقاربة الثقافية أي ما يسمّى بالحل الثقافي، وهذا مقام آخر.

كاتب مغربي