تسويات تنهي الحرب ولا تصنع السلام


أمين بن مسعود

نصوص التسويات تؤسس لحلول محدودة في مستوى المكان والزمان، في حين أن الزمن والحكم الرشيد وحدهما يعيدان بناء الإنسان ويشفيان الأقطار العربية من ‘وجع الأوطان’.

باتت الحروب في الجغرافيا العربية أعقد من أن تحلّ عبر تسويات توقّع في الغرف الضيّقة، أو من خلال وساطات إقليمية ودولية تقارب الأزمة، قصرا وحصرا، عبر روايات الأطراف المتنازعة دون تغلغل في تراكمات ربيع المعضلات الزاحف على الأقطار العربية.

“وجع الأوطان” قد تكون هي العبارة القادرة على تفسير حالة الاستعصاء السياسي والعسكري القائمة اليوم في اليمن وسوريا وليبيا، ذلك أنّه رغم التوصّل إلى مشاريع حلول ومسودات تسويات أوليّة تحظى بالحدّ الأدنى من القبول المحلي والإقليمي والدولي، إلا أنّ حدّة الأزمات تأخذ شكلا تصاعديا.

فمن المفارقات في أقطارنا العربية أنّ كافة التسويات تبنى على مفهوم المحاصصة السياسية والترضيات المناصبية، في حين أنّ الإشكال بات إشكالا هوياتيا ثقافيا سياسيّا لا يحتاج إلى إعادة إعمار العمران، وإنما يحتاج إلى إعادة إعمار الإنسان والأوطان. ذلك أنّ المشاكل الحقيقية التي ضربت الأوطان العربية اليوم ليست في حاجة إلى ورقات تسوية واجتماعات سلام، على أهميتها، بقدر ما تحتاج إلى إعادة تأصيل حقيقي لمفهوم المواطنة ولمصالحة بين الوطن والمواطن.

في ليبيا، الأزمة لن تنتهي عند اتفاقات روما والصخيرات وتونس التي تعالج المحنة من زاوية اقتسام السلطة وترضية الفاعلين السياسيين، في حين أنّ حالة الاستعصاء الليبية تعود إلى انبعاث “هويات” ما قبل الدولة (الأمازيغ والتبو والطوارق) وإحياء أطروحات ما بعد الدولة (التقسيم الناعم على وقع الفيدرالية) يضاف إليهما الكيان الإرهابي ممثلا في داعش الذي بات يسيطر على الخزّان الاقتصادي للسلطة في ليبيا.

ما يعني أنّ كافة جهود التسوية ستصطدم بتباين وهوّة ثقافية وحضارية سحيقة لا تعالج بـ”النصوص” على أهمية النص في خلق أجواء التوافق والتقارب.

عجز اتفاق الطائف المبرم في المملكة العربية السعودية في 1989 على أهميته في إخماد نار الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت من 1975 إلى 1989، عن تجاوز الترسبات السياسية والاحتقانات الاجتماعية الثقافية العميقة التي لا تزال مستمرة ومؤثرة في المشهد السياسي اللبناني. فواحد من بين أسباب امتعاض فريق من الطيف المسيحي لتبوّء سليمان فرنجية لمنصب الرئاسة في لبنان يعود أساسا إلى التنافر التاريخي السياسي “الدموي” بين فريق فرنجية من جهة، وفريق سمير جعجع من جهة ثانية.

الصورة تتوضح أكثر عند الإقرار بأنّ وجع الوطن اللبناني يمنع سمير جعجع من اعتلاء كرسي الرئاسة، وهنا الفيتو ضدّ جعجع مرفوع من فرقاء مسيحيين (المردة أساسا) وسنة (عائلة كرامي) وشيعة أيضا، وحتّى صوت اللاجئين الفلسطينيين المؤثر صلب دوائر القرار اللبناني يحول دون هذا الأمر، ما يعني أنّ التسويات قد تنهي الحرب، ولكنّها في المقابل قد تعجز عن صنع السلام.

عديدة هي التسويات الموقعة بين الفرقاء العراقيين لإنهاء الاحتقان ووضع حد لكابوس “الدولة الفاشلة”، بيْدَ أن كافة مشاريع الحلول اصطدمت باستعصاء هوياتي خلاصته أن الهويات المتمردة ثارت ضد السياسات الدغمائية الطائفية المعتمدة من الفاعل الرسمي، وبالتالي فإنّ حالة من المكاسرة بين “الهوية” و”الدولة” لا تنتهي بمجرّد التوقيع على نصوص مشاريع التسوية.

تنتصب الحالة السورية كعينة ممثلة لعبارة “وجع الأوطان” حيث أنّ المعضلة الطائفية باتت عامل تدمير للماضي والحاضر والمستقبل السوري وشلالات الدم المراق من هذا الجانب وذاك، تمثّل استعصاءات نفسية واجتماعية وثقافية لن تفكّك عقدها عبر قرارات مجلس الأمن أو بيانات العواصم الغربيّة من جينيف إلى فيينا.

ونفس الحالة تقريبا موجودة في اليمن حيث أنّ الهويات القاتلة والمشاريع الإقليمية والقبائل المسلحة والسلطة المهترئة كلّها تضع اتفاقات الفرقاء السياسيين العسكريين على هامش الفعل الحق والإصلاح الجذريّ.

نصوص التسويات تؤسس لحلول محدودة في المكان والزمان، في حين أنّ الزمن والحكم الرشيد وحدهما يعيدان بناء الإنسان ويشفيان الأقطار العربية من “وجع الأوطان”.