on
علي عبد الله يكتب: القرار 2254.. دون أسنان وكثير العورات
ل يستمر التوافق بشأن القرار 2254 الخاص بسوريا رغم النواقص والثغرات والتباينات المتبقية، ويفتح الطريق أمام الخطوات الإجرائية لتدخل حيز التنفيذ، أم نعود إلى المربع الأول؟ وكيف ستتصرف المعارضة؟
لم يكن صدور قرار مجلس الأمن رقم 2254 لحل سياسي في سوريا تحت الفصل السادس، نقطة ضعفه الوحيدة، بل فيه نقاط أخرى تتمثل في ما انطوى عليه من نواقص وثغرات والتباسات.
قدم القرار تصورا عاما لحل سياسي للصراع في سوريا وعليها، لكنه صدر تحت الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، أي ليس له قوة إلزام، بالإضافة إلى انطوائه على نواقص وثغرات وفراغات طلب من الأمم المتحدة إنجازها.
ولم يحدد القرار آلية تنفيذ وقف إطلاق النار وتوقيته، والجهة التي تشرف على مراقبة الالتزام به، كما لم يصدر لائحة بالمنظمات الإرهابية، ولم يتبن مخرجات مؤتمر المعارضة الذي عقد في الرياضلتوحيد موقفها وتشكيل وفدها إلى المفاوضات، وسلّم بالموقف الروسي الإيراني ببقاء رئيس النظام خلال المرحلة الانتقالية دون أن يبت في مسألة ترشحه للانتخابات الرئاسية من عدمه.
كل هذا لم يثر رد فعل المعارضة الرافض فقط، بل أثار تقديرات متناقضة ومتضاربة حول فرص تنفيذه بين من يرى توافر شروط تنفيذه من تخطي الأزمة السورية عتبة ما يمكن للضمير العالمي أن يسكت عنه، إلى دخولها مرحلة لو زادت عنها لتفكك النظام الإقليمي في الشرق الأوسط برمته، مرورا بتحول الأزمة إلى شأن داخلي في دول كثيرة عبر موجات هجرة كثيفة هزت استقرار مجتمعات ونظم سياسية، وبين من يرى أنه حمل بذور فشله في ثناياه.
فمع أهمية الاعتبارات التي سيقت لترجيح احتمال تنفيذه، فإن ثمة مبررات كثيرة وكبيرة للتحفظ على صحة التقدير، بعضها مرتبط بمتن القرار وبعضها بالتباينات التي ما تزال قائمة بين مواقف الأطراف المحلية والإقليمية والدولية الفاعلة في الصراع في سوريا وعليها.
فالقرار صيغ بطريقة فضفاضة تقبل التأويل والتفسير بعدة أوجه، مما يفتح بابا للتلاعب والتهرب من الالتزامات من جهة، وتضمن في ديباجته الطويلة مطالب أساسية للأطراف المحلية والإقليمية والدولية والتف عليها في بنوده الإجرائية مما جعل ورودها نافلة لا طائل منها من جهة ثانية. ففي الديباجة كلام واضح وصريح عن بيان جنيف1 وعن هيئة الحكم الانتقالية الكاملة الصلاحيات (التنفيذ الكامل لبيان جنيف المؤرخ يوم 30 يونيو/حزيران 2012، والذي أيده القرار 2118 لعام2013، وذلك بعدة سبل منها: إنشاء هيئة حكم انتقالية جامعة تخوَّل سلطات تنفيذية كاملة، وتعتمد في تشكيلها على الموافقة المتبادلة، مع كفالة استمرارية المؤسسات الحكومية).
تكرر الموقف في البند الأول، بينما البند الرابع يتحدث عن “حكم ذي مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية” (روسيا والنظام يتحدثان عن حكومة وحدة وطنية بحيث يشرك النظام عددا من المعارضين المقبولين في حكومته)، فهل هما شيء واحد أم شيئان مختلفان؟ وقد وُضعا لمنح كل طرف من أصحاب المواقف المتباينة في مجلس الأمن فرصة الادعاء بأن القرار يتبنى موقفه، وهو ما يعني وجود لغم سينفجر خلال المفاوضات ويطيح بها.
في بنده العاشر طالب بتدابير لبناء الثقة دون أن يحددها، وتحدث في البند الثاني عشر عن “الإفراج عن أي محتجزين بشكل تعسفي، لا سيما النساء والأطفال”، وتجاهل معتقلي الرأي والنشاط السلمي للمعارضين، ودعا في بنده الثالث عشر إلى “وقف جميع الأطراف فوراً أي هجمات موجهة ضد المدنيين والأهداف المدنية في حد ذاتها، بما في ذلك الهجمات ضد المرافق الطبية والعاملين في المجال الطبي، وأي استخدام عشوائي للأسلحة، بما في ذلك من خلال القصف المدفعي والقصف الجوي”، ولم يذكر أصناف القصف العشوائي والجوي وخاصة البراميل المتفجرةالتي يلقيها النظام على المدن والبلدات والقرى الخارجة عن سيطرته.
وتحدث في ديباجته عما وصفه “بجدوى مؤتمر الرياض” بعدما أشار إلى اجتماعات موسكو والقاهرة وطلب من المبعوث الدولي وضع قائمة نهائية لوفد المعارضة، وهذا فجر مشكلة بين الهيئة العليا للمفاوضات التي شكلها مؤتمر الرياض والمبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا الذي يريد ضم شخصيات تريدها روسيا وإيران وترفضها الهيئة وحلفاؤها في السعودية وتركيا وقطر.
وأما التباينات بين الأطراف المحلية فعميقة وغير قابلة للجسر، فالنظام الذي يتمسك بالبقاء في السلطة ويعتبر الثورة التي عمت البلاد عام 2011 مؤامرة خارجية (كونية)، ويضع المعارضة السياسية والعسكرية في خانة الخيانة والإرهاب، ليس جاهزا بعدُ للتخلي عن موقفه والانخراط في عملية سياسية جادة ومسؤولة لتنفيذ القرار الدولي الجديد، وقد تعاطى مع القرار الجديد كما تعاطى مع سابقه (بيان جنيف1)، حيث تسرب تشبيه مسؤولين فيه للقرار الجديد بالقرار القديم الذي “حمل بذور فنائه بداخله” وفق رأيهم، وبدأ بطرح الشروط ووضع العقبات في طريق تنفيذه من تمسكه “بأولوية محاربة الإرهاب قبل أي عملية سياسية”، و”لا مفاوضات مع الإرهابيين”، إلى ضرورة “انتظار حل قضية مشاركة تنظيمات إرهابية في وفد المعارضة”.
المعارضة أيضا لم تتقبل القرار وقاست مضمونه على مضمون قرارها في مؤتمر الرياض، وكأنها كانت تفترض أن يتطابق معه، وتمسكت بقرارها وكأنها لا تدرك طبيعة اللحظة السياسية بما فيها من توافق دولي على الدخول في عملية سياسية تسمح بالاتحاد لمواجهة المنظمات الإرهابية والحد من تدفق اللاجئين، وما يفرضه هذا التوافق من تنازلات وحلول وسط تعبيرا عن مصالح الدول الكبرى والتوازنات العسكرية القائمة التي بدأت بالتغير لصالح النظام بعد التدخل الروسي وانخراطه المباشر في المواجهة.
الأطراف الإقليمية هي الأخرى غير متوافقة، فإيران متمسكة ببقاء النظام، خاصة أنه لضعفه وحاجته إلى دعمها، استسلم لمطالبها وغض النظر عن تدخلها في قراره واختراقها لمؤسساته السياسية والعسكرية والأمنية، في حين تتبنى الأطراف الداعمة للمعارضة موقفا يهدف إلى إضعاف دور إيران في الإقليم عبر إخراجها من سوريا عبر دعم المعارضة. وقد عبّرت هذه الأطراف عن تباينها العميق عبر السجال حول قائمة المنظمات الإرهابية، حيث قدم كل طرف أسماء المنظمات المرتبطة بالطرف الآخر لوضعها على اللائحة السوداء لائحة المنظمات الإرهابية (كلف الأردن بوضع قائمة فدخل في مأزق للتباين الذي ظهر في القوائم التي زودته بها الدول المشاركة في المجموعة الدولية لدعم سوريا، إذ بلغ عددها 167 منظمة، وكي لا يقع في الإحراج وزع المنظمات على ثلاث قوائم: حمراء فيها أسماء المنظمات الإرهابية المجمع عليها دوليا، وخضراء للمنظمات المجمع على أنها ليست إرهابية، ورمادية للمنظمات التي لم يتفق على تصنيفها ووزعها على دول المجموعة للبت فيها).
الأطراف الدولية ليست أفضل حالا، فواشنطن التي لا تريد التنازل لموسكو في سوريا ولا في الملفات الأخرى العالقة بينهما، وجدت نفسها أمام مشهد مركب ودقيق: نظام يقتل شعبه ويرفض الاعتراف بحقوقه السياسية ومطالبه في الحرية والكرامة، ومعارضة لم تنجح في إثبات جدارتها بإدارة البلاد، ودول حليفة تقف إلى جانب المعارضة وتصر على إسقاط النظام، وقوى إقليمية كبرى(إيران وروسيا) تدعمه وتعمل على ترسيخه وتعزيز فرص بقائه.
فاختارت حلا قائما على معادلة “لا غالب ولا مغلوب”، والعمل على دفع الأطراف المحلية والإقليمية إلى القبول به عبر التحكم في تطورات الصراع حتى يصل الجميع إلى قناعة باستحالة تحقيق الانتصار وتحقيق أهدافه في سوريا، ودفعهم إلى القبول بالتنازل عن بعض المطالب والدخول في مفاوضات حل وسط.
وكانت كل مواقفها ومفاوضاتها مع روسيا بهدف الوصول إلى هذه القناعة، وتمسكت برحيل رأس النظام لترضي حلفاءها الإقليميين، وكانت ردود روسيا على الموقف الأميركي مرتبطة بأهداف عريضة تريد تحقيقها من وقف تمدد حلف الناتو نحو حدودها إلى وقف نشر الدرع الصاروخي الأميركي في أوروبا، إلى الاعتراف بها كقوة عظمى ثانية، ومشاركتها في القرار الدولي على قدم المساواة مع أميركا.
وقد وجدت موسكو في الصراع بسوريا فرصة لاختبار قدرتها على تحقيق ذلك، فدعمت النظام وتذرعت بالقانون الدولي (تناست القانون عند عقدها تفاهمات ثنائية مع أميركا)، وعملت على وضع العراقيل أمام تنفيذ بيان جنيف1 عبر تعزيز قدرات النظام العسكرية لتغيير التوازن الذي أفرزه البيان، ولما لم تنجح تدخلت مباشرة وقلبت التوازن ولعبت دورا كبيرا في صياغة بياني فيينا كبديل لبيان جنيف، لكنها لم تنجح في ذلك نجاحا تاما.
لذا ورد في البيان وبياني فيينا ما دفعها إلى الحديث عن الوقت الطويل الذي يحتاجه تنفيذ بند تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات، بالتوازي مع تصعيد عسكري مجنون استهدف المدن والبلدات والقرى والمواطنين في الأسواق الشعبية، باستخدام أسلحة فتاكة شديدة التدمير وقنابل عنقودية للتأثير على مواقف الأطراف الأخرى في مراحل التنفيذ، وخاصة وقف إطلاق النار وقائمة المنظمات الإرهابية بعدما اضطرت للقبول بالانتقال السياسي وبالجدول الزمني المقترح لذلك.
أرادت روسيا اتفاقا سريعا هربا من إطالة أمد تدخلها العسكري في الصراع والغرق في المستنقع السوري ومع الإدارة الأميركية الحالية، خوفا من تغيرات قد تطرأ على الموقف الأميركي بعد الانتخابات الرئاسية، فقبلت ببعض ما كانت ترفضه.
وأرادت الإدارة الأميركية استدراج روسيا إلى حل سياسي كي تسجل إنجازا سياسيا في عامها الأخير بالبيت الأبيض تقطع به الطريق على مزايدات حزبية في موسم الانتخابات، وتعزز فرص الحزب الديمقراطي في المنافسة على كرسي الرئاسة، فصدر القرار 2254 بصيغته وبنوده.
فهل يستمر التوافق رغم النواقص والثغرات والتباينات المتبقية ويفتح الطريق أمام الخطوات الإجرائية لتدخل حيز التنفيذ، أم نعود إلى المربع الأول؟ وكيف ستتصرف المعارضة للاحتفاظ بدورها وتحقيق بعض مطالبها في كلتا الحالتين؟