سقوط غرناطة وتغذية التطرف

11 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2016
5 minutes

  • إدريس الكنبوري – العرب

غرناطة يوجد فيها اليوم عدد كبير من المسلمين وهناك الآلاف من الطلبة المقيمين في المدينة والقادمين من مختلف الآفاق في العالم الإسلامي.

احتفلت أسبانيا، هذا العام، بالذكرى الـ524 لسقوط غرناطة في شهر يناير من عام 1492، وسط تراشقات سياسية بين الأحزاب الأسبانية؛ فقد انتقد اليسار تخليد تلك الذكرى التي تشكل مناسبة لليمين المتطرف للتذكير بحضوره، وقاطعت بعض هذه الأحزاب تلك الاحتفالات السنوية التي دأبت الحكومات المحلية في المدينة على إقامتها، في أجواء احتفالية مغرقة في التطرف لم تتغير طيلة قرون؛ فيما وصفها حزب”بوديموس” الجديد بالفاشية.

لا تمثل الاحتفالات بسقوط غرناطة مجرد احتفال بسقوط مدينة، بل الأمر أبعد من ذلك. إنها تمثل انتصار المسيحية على الإسلام في أوروبا، لذلك ساد الارتياح جميع أوروبا لدى سقوطها باعتباره نهاية لحروب الاسترداد. وينظر إليها الأسبان المتشددون بوصفها نهاية العصور الوسطى وبداية تاريخ عالمي جديد، شهد توحيد أتباع الديانة المسيحية وانتشار التبشير إلى خارج أوروبا، من خلال رحلة كريستوف كولومبوس الذي اكتشف ”العالم الجديد”.

وفوق ذلك يُعدُّ سقوط غرناطة رمزا لنجاح الملكين الكاثوليكيين، إليزابيث وفرناندو، في مهمتهما الحضارية، ولذلك تطلق عليهما تسمية ”ملكا غرناطة”، لأنهما، خلافا للملوك السابقين الذين حاربوا المسلمين في الأندلس، حظيا بشرف القضاء على آخر قلاع المسلمين، وتسلما مفاتيح المدينة من يد آخر ملوك غرناطة أبي عبدالله الصغير، الذي يلقبه الأسبان “بوعبديل” أو”التشيكو”، وهي كلمة تعني الطفل الصغير في اللغة القشتالية، كما تسلما منه أيضا بيرق الحرب الذي كان يقاتل تحته. وبحسب المؤرخين، فقد طلب من أبي عبدالله أن يسلم المفاتيح داخل مسجد صغير بالمدينة، إمعانا في تصوير الهزيمة كهزيمة للمسلمين كلهم، وهو المسجد الذي صار في ما بعد كنيسة سان سيباستيان.

ولإعلان هذا الانتصار، الذي جعل الملكين المذكورين يلقيان شهرة أوسع في تاريخ أسبانيا مقارنة بمن سبقهما، أبدى هذان الأخيران رغبتهما في أن يدفنا في غرناطة نفسها. لذلك أعطت الملكة إليزابيث أوامرها ببناء ”الكنيسة الملكية” داخل المدينة، والتي تم الانتهاء من بنائها عام 1504، لكي تكون ملاذا لأرواحهما بعد الموت. ولا تزال طقوس الاحتفالات بسقوط المدينة تشمل حتى اليوم طقس الدخول الرسمي إلى تلك الكنيسة لتحية الملكين، وزيارة المتحف الذي يضم بقايا تلك المرحلة، من مثل مفاتيح المدينة وراية القتال. وتجري خلال هذه الاحتفالات في بعض القرى والبلدات المحيطة بغرناطة إعادة تمثيل بعض الوقائع من تلك الأحداث القديمة، حيث يتم تنظيم مواجهة صورية بين السكان الذين ينقسمون إلى فئة تمثل المسلمين وفئة تمثل المسيحيين، يكون النصر لهؤلاء في الأخير.

مثل هذه الاحتفالات أصبحت في السنوات الأخيرة تثير حفيظة الكثير من الأسبان، الذين باتوا ينظرون إليها كتعبير عن التشدد الديني وعنوان للكراهية ومعاداة للتسامح، ويطالبون بالكف عن تنظيمها كل سنة بتلك الأساليب المستهجنة، التي تلقى صدى كبيرا لدى التيارات المتطرفة الرافضة للأجانب وخاصة منهم المسلمون. فأسبانيا اليوم ليست أسبانيا الأمس، عندما كانت بلدا صافي العرق خالص الديانة بعد إفراغ البلاد من المسلمين واليهود، أو إكراه من تبقى منهم على التحول إلى المسيحية الكاثوليكية، بل أصبحت بلدا منفتحا وديمقراطيا، وتشكل جزءا من أوروبا حيث التعددية والتعايش والتسامح بين مختلف الديانات والأقوام، ولا يليق اليوم أن تستمر في إحياء تاريخ قديم أصبحت القيم الأوروبية نفسها اليوم ترفضه، وتتحدث عنه كتب التاريخ الأوروبي كأحلك ما يكون في تاريخ شعوب أوروبا، من حيث هيمنة محاكم التفتيش وسيادة الحروب الدينية.

يوجد في غرناطة اليوم عدد كبير من المسلمين، وهناك الآلاف من الطلبة المقيمين في المدينة والقادمين من مختلف الآفاق في العالم الإسلامي، كما يعيش فيها الآلاف من المواطنين الأسبان الذين اعتنقوا الديانة الإسلامية، أسسوا جمعيات وهيئات للتعايش بين أتباع الأديان الثلاثة، ويسعون إلى إعادة إحياء الطابع العربي للمدينة، ثقافيا ودينيا، ليكون رافدا من روافد التعددية في أسبانيا الحديثة؛ ويمكن للمدينة أن تصبح رمزا للتسامح بدل أن تكون في كل عام تذكيرا بالأحقاد، خصوصا ونحن في مرحلة حرجة بسبب بروز ظواهر العنف الذي يتغذى على التزمت الديني أو العرقي أو الطائفي.