الثورة الصناعية الرابعة.. التحدي القادم للعرب
24 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2016
- د. حسن مصدق – العرب
تعتبر ثورة المعلومات والتكنولوجيا من أهم النقلات التي جدت في العالم الحديث، حيث أصبحت التقنية بمثابة القاعدة الأساسية التي تنطلق منها دول العالم في تعاملاتها ورفع مستواها وتقدمها. وتجاوزت كل المسافات وحدود المكان عبر عدة وسائط أهمها وسائط التواصل الاجتماعي، إلا أنها خلقت فجوة رقمية على عدة مستويات لا سيما مع الجيل الثالث وأمن الإنترنت الذي يرجح الباحثون أنه سيكون بمثابة المنعرج الجديد والعالم على أعتاب الثورة الصناعية الرابعة.
اختار منتدى دافوس العالمي عنوان “الثورة الصناعية الرابعة” شعارا لدورته الـ46، ومرّد هذا الاختيار، وفق الخبراء أن “الثورة الصناعية الثالثة”، وهي ثورة الحوسبة الرقمية، التي انطلقت في خمسينات القرن الماضي، وصلت إلى ذروتها وتطبيقاتها في الذكاء الصناعي والتكنولوجيا الحيوية وثلاثية الأبعاد والثورة الحاصلة في مجال مواقع التواصل الاجتماعي والعالم الرقمي.
وقد تحدّثت جنيفر بلانك، الخبيرة الاقتصادية، في برنامج لشبكة “يورونيوز″، عن ماهية هذا العصر الجديد، قائلة “إن كنتم تفكرون بالثورة الصناعية الثالثة، فإنها حقا الحوسبة، كان ذلك العصر الرقمي الذي بدأ منتصف القرن العشرين تقريبا. وما نشهده هو أن الثورة الصناعية الرابعة هي التي بنيت عليه مع كل هذه التكنولوجيات المثيرة، إن كانت التكنولوجيا الحيوية أو الذكاء الاصطناعي والطابعات الثلاثية الأبعاد، كل هذه الأمور الهامة وعلى اختلافها جاءت مع بعضها”.
ووصف المشاركون في دافوس الثورة الصناعية الرابعة بمثابة تسونامي التقدم التكنولوجي الذي سيغير في الكثير من تفاصيل الحياة البشرية. وعبر البعض عن قلقه من هذه الثورة الرقمية، ودور المواطن في فضاء التفاعل الرقمي تمييزا عن تفاعله الاجتماعي التقليدي، فالتفاعل الرقمي أصبح أداة متاحة للجميع، فضلا عن كون الفضاءات الإلكترونية أصبحت سهلة الوصول بعد أن كانت بعيدة أو مستبعدة.
وإذا تأملنا مليا خارطة الاقتصاد الرقمي في العالم العربي، كان عدد المتصلين بشبكة الإنترنت في عام 2005 محصورا في 25.3 مليون مستخدم، أما في نهاية عام 2014، فقد فاق استخدام شبكات التواصل الاجتماعي أكثر من 85 مليون مستعمل للفيسبوك، و6 ملايين لشبكة تويتر، فيما يستعمل أكثر من 25 بالمئة من العرب شبكات التواصل الاجتماعية، حيث الربط الإلكتروني يتنامى سريعا في العالم العربي.
وفي المغرب نجد أن استعمال موقع الفيسبوك قد تجاوز 7.5 مليون (9 بالمئة)، وفي الجزائر 6.8 مليون (8 بالمئة)، وفي تونس 4.6 مليون مستخدم (6 بالمئة)، ويبلغ سن مستخدمي الفيسبوك ما بين 15 و29 سنة ما يناهز 68 بالمئة من المستعملين، أما على مستوى مصر فقد تجاوز 19.400.000 مستخدم (24 بالمئة)، وفي المملكة العربية السعودية وصل إلى 8.4 مليون مستخدم (10 بالمئة)، وبلغ في الإمارات العربية المتحدة 4.8 مليون (6 بالمئة)، كما يبلغ مستعملي الفيسبوك في العراق حوالي 7 مليون مستخدم (9 بالمئة).
وعلى مستوى التغريدات، يحتل تويتر المرتبة الثالثة وراء الشبكة الاجتماعية المهنية بـ8.5 مليون مستعمل. وحسب تصنيف الاتحاد الدولي للاتصالات (تقرير 2015) من حيث تنمية وتطوير مؤشر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، تأتي البحرين في الصدارة: المرتبة 1 إقليميا و27 عالميا، وتحتل قطر المرتبة 2 إقليميا و31 عالميا، والإمارات العربية المتحدة تأتي في المرتبة 3 إقليميا و32 عالميا، وتحتل السعودية المرتبة 4 إقليميا و41 عالميا، ثم تأتي الكويت في المرتبة 5 إقليميا و64 عالميا، مما يدل على أن بلدان الخليج العربي حققت مؤشرا أعلى في تنمية تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وهي بذلك من البلدان الخمسين الأولى في التصنيف العالمي، فيما يحتل الأردن المرتبة 92 عالميا وتونس المرتبة 93 والمغرب 99 ومصر 100، والجزائر 113 والسودان 126 وسوريا في المرتبة 177. ورغم ذلك فإن انتشار الإنترنت في المنطقة العربية لا يتعدى نسبة 40.3 بالمئة بالنسبة لكل 100 نسمة، فيما تصل إلى 81.1 بالمئة في أوروبا و إلى 81.3 بالمئة في البلدان المتقدمة، وتصل إلى 39 بالمئة في آسيا والمحيط الهادي، بينما تصل في أفريقيا إلى 10.7 بالمئة، وفي باقي العالم 46.4 بالمئة، حيث ما يزال العالم العربي يعاني من فجوة رقمية بالرغم من الجهود المبذولة.
فرص ومخاطر العصر الرقمي
تمثل شبكات التواصل الاجتماعي في الإنترنت التشاركي الوسائل الجديدة لمجتمع المعلومات، حيث يقصد بها التفاعلات الجمعوية التشاركية التي يقوم بها رواد الإنترنت عندما يتفاعلون من خلال الشبكات أمثال الفيسبوك (53 مليون مستخدم في عام 2014)، والذي يليه في الأهمية تويتر، وهذا يمثل أكثر من ثلاثة أضعاف محتوى جميع الصحف العربية المطبوعة في اليوم، وغوغل بلوس وماي سبيس وديلي موشن وموقعي يوتيوب وفليكر (نشر الصور)، حيث يوجد نحو 167 مليون مرة مشاهدة مقاطع فيديو يوميا، ويجري رفع ما يعادل ساعة واحدة من الفيديوهات إلى يوتيوب في الدقيقة في المنطقة العربية، ما يضعها في المرتبة الثانية عالميا بعد الولايات المتحدة الأميركية.
إجمالا، أصبح “الويب التشاركي” يشمل عدة مظاهر لعل أبرزها: إيجاد قنوات نشر جديدة متحررة نسبيا من أي رقابة، ويختلف رواد الإنترنت في تفاعلهم كل بحسب موقعه ودوافعه ورغباته. حيث تسمح الشبكات الاجتماعية بالتبادل السريع للمعلومات والانطباعات والأحكام، والمشاعر، لتجمع بين نشر معلومات والتشارك فيها، مما يجعل منها مفهوما يشمل أبعادا مختلفة يسمح للأفراد والجماعات بالتواصل فيما بينهم، وقت ما أرادوا على الشبكة، وحيث ما أرادوا، ومن خلال برامج المحادثة الفورية والمدونات ومنتديات النقاش، أي من خلال وسائل الإعلام الحاسوبية.
لكن ما نعيشه اليوم من تفاعل رقمي سريع وانتشار مذهل للمعلومات وتأثير فاعل للتقنيات الجديدة في مجال الاتصال، يفرض الاعتراف بأن الشباب العربي يتوجه اليوم نحو هذا العالم الرقمي بكثافة، لكن دون ثقافة نقدية لهذه الوسائط. فالتكنولوجيا الجديدة في المعلومات والاتصالات، وخصوصا الشبكة العالمية التشاركية لديها القوة والقدرة لتحرير أقواله، لكنها يمكن أن تجعل منه مستهلكا جامحا ومتلصصا وصاحب هوية غامضة ومتشظية، ومتذبذبة بين سائر الخيارات والمعلومات المتناقضة، بل أكثر ما يقلق هو تحوله إلى عنصر خطير على مجتمعته.
لذلك فإن واقع هذه الشبكات معقد جدا، ففيها يوجد كل شيء ولا شيء، الحقيقي والمزور، من الاستعراض ومن التلصص والتشويش والإشاعات، فهي تعزز من الثنائية الحتمية بين تقدم تقني يسمح بالتواصل سريعا وبين التواصل الإنساني الذي يجب عليه في المقابل التريث بالقدر الكافي. إذ أن التواصل الإنساني الحقيقي والعميق لا يتم أبدا بسرعة التواصل التقني. ومن ثم نطرح سؤالا جوهريا من ينظم هذه الغوغائية الإلكترونية؟ ومن يضبط إيقاعها عندما تحيد عن الصواب؟ ومن يفرق بين الصالح والطالح؟ بين المفيد وغير المفيد؟ بين الدعاية المغرضة والحقيقة؟
ولعل الحكمة العربية في هذا الباب تقول “إن الطنين الزائد يصيب بالصمم”، وهو ما يعني أن التباعد الاجتماعي، سيكون إحدى السمات الأساسية لمجتمع ينضح بالمعلومات من كل حدب وصوب. ولذلك، أصبحت هذه التكنولوجيا مولدة وهدامة للروابط في آن، وتحيط بها رهانات اجتماعية – اقتصادية، وتكنولوجية، وسياسية تحيل بالضرورة إلى تفكيك العامل البشري في المجتمع الشبكي.
والواقع أنه لكي يوجد مجتمع، يجب أن لا ننسى بأنه لا بد من توفير شبكة اجتماعية، ولكن العكس غير صحيح.
لذلك، كيف العمل عندما تؤدي التكنولوجيا الجديدة إلى عزلة الناس وتجريدهم من الانتماء الوطني، وتجعلهم بـلا جـذور، وتتـاجر بعناوين بريدهم الإلكتروني، وبمحتويات الشبكات الاجتماعية، واستخدام التسويق الموجه، وإعادة بيع البيانات الشخصية، وإرسال الرسائل الدعائية لهم تحت غطاء الرسائل الشخصية، مما جعل البعض يظن أن الشبكات الاجتماعية ما هي في الحقيقة إلا شباك خادعة للشركات واقتصاد الاتصال عن بعد، لا سيما عندما يتعلق الأمر بصناعات ثقافية سمحت بظهور اقتصاد رقمي.
إن تحديات عصر المعلومات، تكمن في الاعتراف بأن التنمية أصبحت بصيغة الجمع، حيث لم يعد الأمر يقتصر على التنمية الاقتصادية والسياسية والثقافية والبشرية، بل أصبح يشمل أيضا أداة هذه التنمية التي أصبحت التنمية الرقمية أحد عناصرها الأساسية.
وتتمثل في تحسين توصيل الإنترنت والربط والتغطية الواسعة أمام الشباب لكي ينمي قدراته على الاكتشاف والابتكار وبالتالي يصبح التعليم عن بعد والدورات الدراسية والتثقيفية ومواقع تعلم اللغات الأجنبية ووسائل الإعلام الاجتماعي والإخبار ومنصات استلهام الحلول عبر مشاركة الجمهور متاحا، وعاملا محفزا لإنعاش مفاهيم المسؤولية، ومجابهة التحديات التي يواجهونها، وخاصة أن كل شاب من بين أربعة شباب عاطل عن العمل في العالم العربي.
وما يهم في هذا الباب، هو التركيز على عدة مؤشرات نراها كفيلة بتحديد مفهـوم الفجوة الرقمية في العالم العـربي وأبـرزهـا ما يتعلق بالجانب التقني الذي يشمل مؤشرات موضوعية تتمثل في غياب الحد الأدنى من البنيات التحتية (عدد الهواتف، عدد أجهزة الكومبيوتر، نسبة مستعملي الإنترنت بالنسبة لإجمالي السكان، عدد مواقع الإنترنت بالغة العربية…)، أما الثاني فيشمل مضمون هذه الفجوة (النفاذ إلى مصادر المعلومات.. استيعاب… تحصيل.. توظيف… توليد المعرفة).
ا
لفجوة الرقمية
يكشف تقرير الاتحاد الدولي للاتصالات في عام 2015، عن فجوة رقمية جديدة تلوح في الأفق، وتتمثل في أنه إذا كان تطور شبكة الإنترنت في صيغتها الأولى (1.0) مقتصرا على الخبراء، فإن تطور شبكة الإنترنت (2.0) من (2003-2007) قد فتح المجال أمام رواد الإنترنت لينتظموا في جماعات افتراضية، بينما ستشمل المرحلة الثالثة إنترنت الأشياء (3.0) ثلاثة مبادئ أساسية (حركية مستمرة، كونية شاملة، توصيل دائم)، ليتفرع عن ذلك الجمع بين تطبيقات التصنيع، والنقل والمدن الذكية والاستهلاك والنشر والتوزيع، فضلا على الربـط بـين جميـع الأجهـزة التقليـديـة مثل الثلاجة وصنبور الماء والمصباح الكهربائي ومرآب السيـارة، التي ستصبح كلهـا ذكية بفضل محاسس آنية مجهزة بآليات الاتصال، كما سيتم ربط الاتصال بحلول عام 2020.
والأهم من ذلك، فإن إنترنت الأشياء سيستمد قوته وقيمته من توليد بيانات جديدة ومعالجتها وتحليلها، سواء كانت بيانات نصية أو بيانات وسائط اجتماعية. بحيث يلامس الاتصال الآني الاتصال البعدي لكي يشمل تقاسم المعلومات حول جميع الأشياء المصنعة، ولكي تمتد بعد ذلك إلى جميع مجالات البيئة والحياة وربط معطياتها وبياناتها مع جميع الأجهزة الأخرى.
وهذا الأمر يتيح لإنترنت الأشياء أن يصبح دافعا رئيسيا لعجلة التنمية، وسيكون عنصرا هاما في بناء مدن الغد. لذلك، إن الشبكات الاجتماعية لا تشكل في الثورتين الصناعيتين الثالثة والرابعة إلا الجزء الجليدي الظاهر، أما الجوهري الذي بوسعه أن يضبط عقاربها، فيكمن في النظام الثقافي والاجتماعي، أي تلك التصورات التي يصنعها المجتمع عن هويته وأنماط حياته وعيشه. ومن ثمة، ضرورة التفكير الشامل حول العلاقات بين المعلـومة والثقافة والاتصال والمجتمع والسياسة، أكثر من السؤال حول الأدوات التقنية واستخداماتها. فالاتصال السليم في المجتمع يتجاوز الفرد، ولا ينفصل عن الثقافة والمجتمع.