هل تدفع أميركا سورية إلى نفوذين سعودي وروسي … والعراق إلى يد إيرانية وتركيا إلى عزلة؟


هل تدفع أميركا سورية إلى نفوذين سعودي وروسي ... والعراق إلى يد إيرانية وتركيا إلى عزلة؟
AFP / Christof STACHE

يتحدث جمال حمدان عن «عبقرية المكان» في ما يخص مصر. يمكن الحديث نفسه بالنسبة إلى تركيا. ولكن يمكن تبديل التعبير ليصير «لعنة المكان»: التقاء قارات ومضائق بحرية وطريق اجباري للتجارة الدولية وحدود حضارات. جعل هذا كله من البلدين مطمعاً للطامعين، وأول ما يفكر به الغازي هو غزوهما واحتلالهما.

منذ قيام الدولة التركية الحديثة عام 1923 مع مصطفى كمال (أتاتورك) كان هناك تفكير بإدارة الظهر للجنوب خلافاً لما فعل العثمانيون منذ السلطان سليم الأول، وأن تيمّم تركيا وجهها باتجاه الغرب. خلال سبعين عاماً وضح بأن أنقرة يمكن أن تقبل كأداة عسكرية في «الناتو» ضد السوفيات، لكن الطريق مسدود أمامها للدخول في «الاتحاد الأوروبي» الذي جرى الإعلان أكثر من مرة، ومن أكثر من مسؤول فرنسي وألماني، بأنه «نادٍ مسيحي مغلق». عندما انهار الاتحاد السوفياتي عام 1991 كان واضحاً بأن أهمية تركيا الاستراتيجية عند الغرب الأميركي- الأوروبي أصبحت في حال تناقص بالقياس إلى فترة الحرب الباردة (1947- 1989) ما بين واشنطن وموسكو. اقترح الرئيس التركي توركوت أوزال «إقامة عالم تركي يمتد من بحر إيجة إلى تركستان الصينية» لتملأ تركيا الفراغ السوفياتي في الجمهوريات الإسلامية السوفياتية السابقة التي (ما عدا طاجيكستان) لها عالم ثقافي- لغوي تركي. كان هذا مناسباً للقوميين الأتراك الطورانيين الذين كانوا على عداء وتخالف مع النزعة القومية الأتاتوركية التي لا تلتفت شرقاً. أيضاً ناسب هذا واشنطن التي أرادت سد المجال الجغرافي الجنوبي أمام موسكو في القفقاس وآسيا الوسطى.

في هذا الإطار، كان ملفتاً الصعود الانتخابي للإسلاميين الأتراك في تسعينات القرن العشرين: في انتخابات 1995 التي كانت البوابة لأول رئيس وزراء تركي إسلامي في أنقرة الأتاتوركية هو نجم الدين أرباكان زعيم «حزب الرفاه»، ثم انتخابات 2002 التي أتت بحزب تلميذ أرباكان، أي رجب طيب أردوغان، وهو «حزب العدالة والتنمية» إلى سدة الحكم. عنى صعود الإسلاميين بأن هناك اقتراحات للمجال الجغرافي التركي تحظى بغالبية تصاعدية عند الأتراك، لكنها ليست موجودة لدى الأتاتوركيين والطورانيين فهي ترى المجال الحيوي في الجنوب الإسلامي العربي عند بلاد الشام والرافدين، في نوع من «العثمانية الجديدة»، مع رأي بأن الطورانية بلا أفق وبأن الأتاتوركية قد فشلت.

كان انفتاح أردوغان على دمشق منذ 2004، وانفتاح الأخيرة عليه، ناتجاً من عوامل عدة، أحدها التحالف الأميركي- الإيراني في العراق المغزو والمحتل الذي ترجم في زيارة وزير الخارجية الأميركي كولن باول لدمشق بعد ثلاثة أسابيع من سقوط بغداد في 9 نيسان (إبريل) 2003 بفتح نار أميركية على العاصمة السورية كسر التقارب الأميركي- السوري الذي بدأ في1 حزيران (يونيو) 1976 مع الدخول السوري العسكري إلى لبنان. وفعلاً ترجم ما جرى في بغداد عبر القرار 1559 في أيلول (سبتمبر) 2004 الذي كان فاتحة صدام أميركي- سوري في لبنان.

كان رئيس الوزراء التركي يملك أيضاً الكثير من عوامل القلق من التحالف الأميركي- الإيراني ومن تصاعد نفوذ طهران بالنتيجة في بغداد، ولكن، كان هدفه الأساس من التقارب مع سورية فتح طريق للجنوب العربي- المسلم كان يعرف مثل السلطان سليم بأن بوابته هي دمشق، ولو أنه كان يدرك بأنه أيضاً طريق لتطويق الامتداد الإيراني وربما لكسر الجسر الممتد من قم إلى الضاحية الجنوبية ببيروت وإلى فلسطين عند حركة «حماس».

وعندما تخلّت دمشق عن التحالف الثلاثي التركي- السعودي- السوري الذي كان وراء قائمة «العراقية» بزعامة إياد علاوي في انتخابات برلمان العراق في 7 آذار (مارس) 2010 ووقفت مع طهران في تصعيد نوري المالكي ثانية في 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010 لمنصب رئيس الوزراء، ثم ترجم هذا التخلي ثانية في إسقاط رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري عبر كتلة سياسية لبنانية موالية لطهران ودمشق أثناء اجتماع الحريري مع أوباما في البيت الأبيض في 12 كانون الثاني (يناير) 2011، فإن هذا كان يعني تصدُّع ما بناه أردوغان خلال سبع سنوات مع العاصمة السورية وعبرها.

مع «الربيع العربي»، منذ تونس 14 كانون الثاني 2011 وسقوط الرئيس بن علي، التفت أردوغان إلى الإسلام السياسي «الإخواني»، وقد اقتنعت واشنطن مع سقوط الرئيس المصري مبارك في 11 شباط (فبراير) 2011 بأنه يمكن أن يكون حصانها الجديد مع كابتن فريق للإسلاميين موجود في اسطنبول هو أردوغان. أثناء زيارة رئيس الوزراء التركي تونس وطرابلس الغرب والقاهرة في خريف2011 تصرّف وكأنه السلطان سليم بعد معركة الريدانية عام 1517 التي أسقطت حكم المماليك في القاهرة والتي أتت نتيجة لسقوط دمشق عقب معركة مرج دابق في العام السابق.

عند تشكيل «المجلس الوطني السوري» في 2 تشرين أول (اكتوبر) 2011 كان واضحاً أن أردوغان سيلعب في سورية بتفويض أميركي عبر ستارة محلية ما لعبه ساركوزي في ليبيا من خلال ستارة «المجلس الانتقالي الليبي» منذ آذار 2011. على الأرجح فإن الفيتو الروسي في 4 تشرين الأول 2011 في مجلس الأمن ثم المتكرر في 4 شباط 2012، مع إرسال قطع الأسطول الروسي للبحر الأسود إلى ميناء طرطوس في الأسبوع الأخير من تشرين الثاني، تم القضاء على سيناريوات التدخُّل العسكري للناتو بقيادة تركيا، وهو ما دعا إليه علناً المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين السورية رياض الشقفة في مؤتمر صحافي في 18 تشرين الثاني في اسطنبول. كان فيتو موسكو في مجلس الأمن طريقاً إلى تدويل الأزمة السورية عبر خطة كوفي عنان في آذار ثم في صدور بيان «جنيف1» في 30 حزيران 2012 عبر توافق أميركي- روسي، ولكن لم يترجم سحب التفويض الأميركي لأنقرة في الملف السوري ونقله إلى موسكو إلا في 7 أيار (مايو) 2013 عبر «اتفاق موسكو» بين كيري ولافروف، عقب تغيُّر موقف واشنطن من الإسلام السياسي «الإخواني» إثر «11 سبتمبر جديدة» ولكن في 2012 وفي بنغازي بدلاً من نيويورك، حين قتل إسلاميون ليبيون ساعدهم «الناتو» في إسقاط القذافي السفير الأميركي في ليبيا. كانت أولى الترجمات الأميركية لذلك هي «اتفاق موسكو» بعد ثمانية أشهر ثم تنحي أمير قطر في 25 حزيران ثم سقوط حكم «الإخوان» في مصر في 3 تموز 2013، قبل أن يلحق بهم حكم «حركة النهضة» التونسية، ثم تأييد الغرب للفريق حفتر في الشرق الليبي ضد الإسلاميين في طرابلس الغرب، وسكوت الغرب الأميركي- الأوروبي عن تآكل حكم الرئيس اليمني منصور هادي، المدعوم من الفصيل «الإخواني» المحلي، أمام تحالف الرئيس السابق علي عبدالله صالح والحوثيين حتى سيطرة الأخيرين على صنعاء في خريف 2014. في المقابل كان واضحاً منذ (اتفاق موسكو) أن باراك أوباما لم يعد يريد تنفيذ كلامه في 18 آب (أغسطس) 2011 عندما دعا الرئيس السوري «إلى التنحي»، بل يريد تسوية سورية تقودها موسكو، ولم يعد يريد سيناريو سورياً مكرراً لذلك الليبي يقوده أردوغان.

اتفاق الكيماوي السوري في 14 أيلول 2013 ترجم عملياً التوافق الأميركي- الروسي، ثم جرت ترجمة ثانية في «جنيف2» السوري في 22 كانون الثاني 2014 قبل أن يفشل بحكم الدعم الغربي للتظاهرات التي قادت إلى اسقاط حكم الرئيس الأوكراني الموالي لموسكو. عندما جرى الاتفاق النووي الأميركي- الإيراني في 14 تموز 2015 كان واضحاً اتجاه أوباما إلى مغادرة أميركية للشرق الأوسط باتجاه التركيز على الشرق الأقصى مع تفويضات أميركية لوكلاء في الشرق الأوسط أحدهم طهران في بغداد، ولكن، كانت المفاجأة أن أحد هؤلاء الوكلاء هو موسكو، التي وضح، عبر محطتي «فيينا 1 و2» ثم القرار 2254 ثم «جنيف 3»، بأن دخولها العسكري إلى سورية منذ 30 أيلول 2015 هو بغطاء وموافقة أميركيتين من أجل أن يقود الكرملين التسوية السورية بكل ما ينتج من ذلك من مفاعيل، وأهمها إنهاء الدور التركي في الأزمة السورية. كان ذلك واضحاً الثلثاء 15 كانون الأول (ديسمبر) 2015 حين زار الوزير كيري الكرملين وتطرّق مع بوتين للموضوع الأوكراني بالتوازي مع السوري، بأن الطريق ممهد إلى يوم الجمعة التالي حين جرى تبني القرار 2254 في نيويورك، وهنا تجدر ملاحظة كم أصبح شرق أوكرانيا هادئاً في الشهرين الماضيين.

صحيح أن الوجود العسكري الروسي في سورية منذ 30 أيلول 2015 قاد إلى تحجيم الدور الإيراني في الأزمة السورية، إلا أن مفعوله الأكبر من الناحية الجغرافية – السياسية كان فتح الطريق إلى إنهاء الدور التركي برضا أميركي في سورية المنفجرة أزمتها منذ أحداث درعا في 18 آذار 2011، مع دور سعودي في سورية المقبلة بالتوازي في النفوذ مع روسيا، تمكن قراءته منذ أن قرر لقاء «فيينا 2» أن يكون مؤتمر المعارضة السورية في الرياض تمهيداً لـ «جنيف3».هذا قاد إلى عزلة تركيا بعد أن حضرت موسكو عسكرياً في جنوب الجمهورية التركية (في الأرض السورية) وجرى حبس تركيا في قفصها الجغرافي الخاص وإغلاق الستار على كل ما فكر به أردوغان جنوباً، وربما، بل على الأرجح، أن هذا ما يدفع الأتراك إلى محاولة تخريب «جنيف 3» بعد انعقاده ولو عبر أدوات في المعارضة السورية، لأنهم يرون أن التسوية السورية ستؤدي إلى اعلان إنهاء نفوذ أنقرة جنوباً، فيما من الواضح أن المجال الشرقي في القفقاس وآسيا الوسطى السوفياتية السابقة أيضاً أصبح مغلقاً أمام الأتراك بحكم الاستيقاظ الروسي المستجد مع بوتين، وبحكم الامتداد الاقتصادي الصيني هناك، وهو ما يقلق واشنطن أيضاً ويدفعها للتحالف مع موسكو ضد بكين، بينما زاد الطابع المسيحي للغرب الأوروبي بحكم «داعش» والخشية من المهاجرين الجدد ومفاعيل وجودهم الديموغرافي والثقافي في المجتمعات الأوروبية، وهو ما يزيد قوة انسداد باب «الاتحاد الأوروبي» أمام الأتراك.

هل تدفع أميركا سورية إلى نفوذين سعودي وروسي … والعراق إلى يد إيرانية وتركيا إلى عزلة؟ الاتحاد برس.