تغيرت الرياض ولا دعم لـ’لبنان الإيراني’


تغيرت الرياض ولا دعم للبنان الإيراني

منذ القرارات السعودية الأخيرة إزاء لبنان لم يتوقف السجال السعودي الداخلي، كذلك اللبناني الداخلي، حول نقاش الحدث بصفته استثناء صادما لم يعهده البلدان، فكيف تفسّر النخب السعودية الحدث، وما موقفها من تداعيات ذلك على مستقبل العلاقات الرسمية والشعبية بين البلدين.

لم تفاجئ القرارات التي أعلنتها المملكة العربية السعودية إزاء لبنان اللبنانيين فقط، بل نالت تلك الصدمة أيضا من الرأي العام السعودي، بعد أن اعتاد تقليديا على معاملة خاصة اعتمدتها بلادهم في تعاملها مع لبنان كدولة وبلد وحكومة.

الحقيقة أن السعوديين طالما نظروا إلى لبنان نظرة ودّ وإعجاب، وطالما اعتبروا تطوراته السياسية جزءا من يومياتهم. ولا عجب من أن الإعلام السعودي بمنابره الصحافية، كما تلك الفنية والثقافية، قد أفرد دوما مساحة رحبة للبنان خبرا وتحليلا ومتابعة لشؤونه في كافة القطاعات.

وقد ارتبط البلدان بعلاقة تاريخية قديمة، سواء في الإطار السياسي المعروف والذي لم يتغير مهما تغيرت طبائع الحكم وطبيعة الحاكم في السعودية، أو في الإطار السياحي والاقتصادي والاجتماعي، حيث تحوّل لبنان إلى بلد آخر للسعوديين يستثمرون فيه مالا ووجودا ومقصدا سياحيا لم تربكه إلا قلاقل البلد، والتي لا تمنع السعودي من الإصرار على العودة إليه حال انتهائها.

لكن النخب السعودية عبّرت منذ عهد الرئيس الراحل رفيق الحريري عن تحفّظ إزاء العلاقة مع لبنان وحكرها على البوابة الحريرية السياسية. وقد تفاقم تحفّظ المتحفّظين وعلا اعتراضهم إثر ما أحدثه اغتيال الحريري من تدهور في علاقات السعودية بسوريا، وراحت بعض الأصوات تنتقد السياسات التي تؤدي إلى “خسارة صداقة بلد كبير كسوريا من أجل عيون آل الحريري”.

ولئن كانت تلك الأصوات تهمس بشكل علني داخل أروقة الجدل السعودي، إلا أن الصحافة السعودية أفرجت عن كمّ من الغمز واللمز والانتقادات الصريحة ضد الحريرية على الرغم مما تعرضت له منذ اغتيال رفيق الحريري، وعلى الرغم من الهيمنة النارية التي مارسها ضدها حزب الله، لا سيما منذ أحداث “7 أيار” الشهيرة.

وقد طرح خروج الرئيس سعد الحريري من لبنان بعد الانقلاب على حكومته وانتقاله للاستقرار في العاصمة السعودية أسئلة داخل المملكة حول نجاعة السياسة السعودية في لبنان، وحول مسؤولية المملكة في ما آلت إليه أحوال حليفها الأول وتياره في لبنان.

واللافت أن الانتقادات الداخلية لم تكن تدفع الحكم السعودي بالرد لاسترجاع مصالح الرياض ونفوذها في لبنان، بقدر ما كانت تصبّ جام غضبها على الحلفاء وعلى سوء أدائهم الذي يسمح لخصوم السعودية بقيادة حزب الله بالتمدد والتغوّل والتطاول على السعودية ونظام الحكم فيها.

وعبّرت الصحافة السعودية، في الأسابيع التي سبقت قرارات الرياض وقف هبة الأربعة مليارات دولار السعودية للجيش اللبناني والقوى الأمنية، عن غضب لا سابق له ضد لبنان واللبنانيين بسبب موقف وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل من مسألة ما تعرّضت له السفارة السعودية في طهران وقنصليتها في مشهد.

وذهبت بعض الأقلام إلى الدعوة إلى طرد اللبنانيين من المملكة وإلى اعتبار لبنان “مستعمرة إيرانية” والتعامل معه تعامل العدو، متسائلة عن أصوات الجالية اللبنانية في السعودية من الهجمات والشتائم التي تنطلق من لبنان ضد المملكة.

وإذا ما أثار ذلك سجالا بين الصحافيين السعوديين واللبنانيين دفاعا عن وجهة نظريهما، فإن الحملة الصحافية السعودية ضد لبنان بدت أنها مطلوبة للرياض.

بدت هذه الحملة وكأنها تمهيد تبريري للقرارات السعودية، التي حظيت بسرعة قياسية بتضامن خليجي أقلق لبنان واللبنانيين، وعكس جدية في المقاربة السعودية الجديدة، ذلك أن تفاقمها قد يؤدي إلى انهيار حكومة بيروت إضافة إلى تأثيرات ذلك على النظام السياسي اللبناني في غياب رئيس للجمهورية وغياب البرلمان.

الواضح أن تغيرا كبيرا قد طرأ على المملكة العربية السعودية منذ تبوأ الملك سلمان بن عبدالعزيز عرش البلاد، وأن التغير في أسلوب الحكم بشكل عام قد انسحب على الحالة اللبنانية.

في هذا الصدد يقول الأكاديمي والكاتب السعودي خليل بن عبدالله الخليل لـ”العرب”: “لم يعد الشعب السعودي المتعلّم مرتاحا من الإنفاق على بعض الدول بسخاء، دون مردود إيجابي على مصالح بلاده. والواضح للمختصين أن عهد المجاملات والترضيات انتهى من قبل القيادة السعودية، وحان زمن انتهاج سياسة جديدة.

لذلك فإن الإجراءات والقرارات التي اتخذتها القيادة السعودية تجاه لبنان بسبب عداوة حزب الله للسعودية وسيطرته على اتخاذ القرارات الأساسية ومفاصل الدولة اللبنانية، أسعدت الشعب السعودي وصفق لها بوعي. ويمكن للسعودية وللسعوديين الابتعاد عن لبنان إلى أن يقف اللبنانيون أمام توغلات وانتهاكات حزب الله في بلادهم، وسيجد الشرفاء اللبنانيون من إخوتهم السعوديين المواقف المشرفه كما وقفوا معهم في العقود الماضية”.

تأييد للقرار السعودي

لا يختلف موقف جمال أمين همام، الباحث في الشؤون الخليجية، عما سبق، حيث قال لـ”العرب” إن “النخب السعودية تؤيد القرارات التي صدرت عن حكومة بلادها، تلك القرارات التي وجدت تأييدا خليجيا وعربيا وإسلاميا، كرد فعل على مواقف حزب الله تجاه بلدهم، حيث أن هذه النخب ممتعضة من مواقف وتصريحات حزب الله التي تهاجم المملكة وتتطاول على قيادتها، بل تعتبر هذه النخب أن ممارسات حزب الله تجاه المملكة تدخل في الشأن الداخلي السعودي وتعبر عن انحياز كامل لإيران، وهو المتحدث باسم طهران وذراعها العسكرية في المنطقة، وهناك أدلة موثقة لدى النخب السعودية تؤكد تبني حزب الله وأمينه العام مواقف عدائية ضد المملكة وقيادتها.

وترى هذه النخب أن المملكة وقفت إلى جانب لبنان في كافة المراحل والأزمات، ودعمت الاقتصاد اللبناني بالمساعدات المباشرة والودائع ثم تسليح الجيش وقوى الأمن الداخلي، وكذلك الدعم خلال الهجوم الإسرائيلي على لبنان، وأن المملكة قدمت للبنان منذ 2001، ما يزيد عن 28.25 مليار ريال”. ويرى فهد الطياش، أستاذ الإعلام المشارك بجامعة الملك سعود في حديثه لـ”العرب” أنه “لا يقصد بالإجراءات السعودية تعزيز مكانة جناح طائفي على الآخر، فالمملكة تحرص على مصالح لبنان البلد العربي الشقيق والعزيز على قلب السعودي وقيادته. لكن عندما يختطف فصيل طائفي المشهد اللبناني وتعجز المؤسسة الكبرى الممثلة في الجيش وقوى الأمن عن القيام بواجبها الوطني، إلا تحت مظلة الطائفي المتسلط بحجة المقاومة، عندها يصبح الدعم السعودي لتلك المؤسسات عديم الجدوى، وهو يمثل سهما قد يرتد في نحورنا من طائفي يقوم على مصالح إيران وليس لبنان.

وفي الإجمال ستدفع الإجراءات السعودية كامل الطيف اللبناني لتقييم موقفه المؤيد أو الرافض أو المندهش. عندها ستتحرك ألوان الطيف لترى المشهد كاملا وليس اللون الأصفر والأيدي الملوحة في الفضاء في ظاهرة صوتية أزعجت الأمة ولم تحرر حتى مزارع شبعا. فتحرك الطيف اللبناني هو المطلوب حتى لو كانت من بوابة “إدارة الفوضى المتناثرة”. والعملية الجراحية لا بد أن يتألم منها الجسد اللبناني ليشفى. ولذا فلا ضغوط أمنية أسوأ مما هو على أرض الواقع”.

مع ذلك فإن الأسئلة تدور حول الأسباب التي تقف وراء هذا “الحقد” الذي كشفت عنه الصحافة السعودية، لا سيما بعد صدور القرارات الأخيرة، تحديدا الداعية إلى طرد كافة اللبنانيين من كل دول الخليج. صحيح أن تلك الأقلام قليلة ولا تعبر عن الرأي العام السعودي، لكن مجرد أن وجدت تلك الأصوات صدى لها داخل المملكة فإن ذلك يعكس ظاهرة مقلقة بالنسبة للبنانيين على الأقل.

لكن، الطياش يعتبر “أن المواقف المتطرفة لا تعبر عن رأي عام دقيق ولا عن رأي العقلاء وأهل الحل والعقد وسدة الحكم. وإنما هي جزء من حالة غضب في المشهد الإعلامي من مواقف تتكرر من شقيق تتوقع منه أن يحمي ظهرك أوعلى الأقل يحترم نفسه أمام الملأ ويقول إنه ضد الاعتداء على البعثات الدبلوماسية والدبلوماسيين. أما الموقف من اللبنانيين في المملكة والخليج فلا خوف عليهم فهم دوما في مأمن من زوابع السياسة. ولكن من يعتقد أن مصلحة الولي الفقية ووكلاء الفتنة أهم من مصالح الدول التي تستضيفهم فهذا أمر لا يرتضيه عاقل ولا تتحق به المصلحة الوطنية، وبالتالي فالعقوبات على قدر الأخطاء. ولكن لا يمكن أن يؤخذ أي لبناني من زاوية طائفية أو غير ذلك ما عدا الزواية الإجرامية والقانونية.

وسيظل اللبناني أخا عزيزا في بلده المملكة وفي دول الخليج. بل وبالعكس فنحن ندين للكثير منهم مشاركتنا مسيرة النهضة والتنمية حتى أصبحت المملكة وطنهم الذي يرزقون فيه ويعيشون فيه بأمان لعقود”.

من جهته، وحول المقالات التي تطالب بطرد اللبنانيين، يرى جمال همام أن ذلك يمثل حالة من رد الفعل والشعور الوطني ضد تصرفات حزب الله، حيث يعتقد الكُتاب في المملكة أن هذه التصرفات معادية، ولا يجب أن تصدر من دولة عربية مثل لبنان، كما أنها تحمل نكرانا للجميل.

ويشير همام إلى أن السعودية ودول الخليج تستضيف 500 ألف لبناني يحولون أكثر من 6 مليارات دولار سنويا إلى بلادهم، فيما تبلغ استثمارات اللبنانيين في دول الخليج أكثر من 50 مليار دولار. وفي ما يخص تحميل السعودية وحلفائها وقوع لبنان في يد حزب الله، أوضح أن هذا كلام غير دقيق لكون حزب الله يسيطر على لبنان فعلا، فهو الذي يعطل انتخاب رئيس الجمهورية، ويستخدم الثلث المعطل لتعطيل عمل الحكومة اللبنانية وكذلك تعطيل عمل البرلمان اللبناني، وهذا واقع عملي في السياسة اللبنانية.

وجهات نظر

خليل الخليل يخفف من وطأة تلك المقالات العدائية ضد لبنان ويبرئها من أي علاقة بمزاج الحكم، فهو يعتبر أن “المجتمع السعودي حي ومثقف ويعيش هموم بلاده وأمته وللكتاب السعوديين الحق في تسجيل آرائهم ومواقفهم، وللقيادة السعودية أن تختار وتقرر. وليس في المملكة أحزاب أو قوى تفرض على القيادة مواقف لا تراها. لذا، ردود أفعال الكتاب السعوديين تعبر عن وجهات نظرهم، ولمواجهة بعض الكتابات والمواقف العدائية والرعناء من بعض الكتاب والإعلاميين والسياسيين اللبنانيين، مع الاحترام للمنصفين والمعتدلين، وللحلفاء والأوفياء للمملكة وللعروبة وهم الغالبية في لبنان. وفي ظني لن يتم طرد لبنانيين من المملكة كما يتوقع، لأن ذلك لا يتوافق مع السياسات السعودية تاريخيا، ولا ينسجم مع حسن العلاقة التاريخية بين الشعبين، ولا مع تداخل المصالح الاقتصادية بين القطاع السعودي الخاص والقطاع اللبناني الخاص مما لا علاقة له مباشرة بالمواقف السياسية لحزب الله أو المعادين للسعودية من المرتبطين بنظام بشار الأسد والنظام الإيراني“.

ويضيف الخليل أنه “لم يحدث طرد وترحيل من المملكة بالجملة لمواطني دولة أخرى سوى مرتين في تاريخ المملكه هما: طرد اليمنيين على إثر حرب تحرير الكويت عام 1990 عندما انحازت الحكومة اليمنية آنذاك لنظام صدام حسين، وحدث شغب وإخلال بالأمن من بعض اليمنيين في الرياض، فتم ترحيل قرابة المليون يمني لأسباب أمنية، وكذلك حدث مثل ذلك مع المصريين العاملين في المملكة بسبب صدامات سياسية مع القيادة الناصرية المصرية منتصف الستينات من القرن الماضي، وتم طرد الكثير من المصريين كذلك لأسباب أمنية، وللحكومة السعودية حق اتخاذ ما تراه مطلوبا لحماية أمنها ومصالحها”.

وحول الأجواء السعودية الضمنية والتي قد تفصح عنها الصحافة من خلال انتقادها لحلفاء المملكة في لبنان، يرفض الطياش تحميل أصدقاء السعودية “سقوط لبنان في يد حزب الله”، ويقول “السبب في نظري أن لبنان يدار بعقلية ‘البازار’ فكانت هناك أصوات قابلة للتخلي عن عروبة لبنان في سبيل أموال إيران. ولكن النكتة الكبيرة التي انطلت على اللبنانيين هي ‘أكذوبة المقاومة’ و’سلاح الممانعة’ وغير ذلك من الحجج التي سكت عنها الشارع اللبناني ولم يستشعر بها إلا لما أصبح هذا السلاح يهدد أهل بيروت وطرابلس وغيرهما. وأعتقد أن المصالح الضيقة للطوائف هي التي ساهمت في غياب التاجر الشمولي في بازار لبنان. فهذا البلد قائم على السياحة وقد أصيب في مقتل بسبب الانفلات الأمني. لبنان يحتاج إلى تاجر لا يعادي أحدا ويبيع ويشتري من الجميع. فبلد السياحة مثل بلد الثورة بحاجة للجميع لا الاصطفاف الطائفي الضيق”.

واللافت، لا شك، أن للسجال السعودي حول لبنان أهمّية قد لا تحظى بها مسائل أخرى متعلقة بالسياسة الخارجية السعودية، ذلك أن لبنان حاضر لدى النخب السعودية في مجالات السياسة والثقافة والصحافة والإعلام والاقتصاد والإعلام، حيث أن العائلة السعودية معنية، بشكل أو بآخر، ومن خلال أحد أعضائها أو أكثر، بطبيعة العلاقة الجديدة مع لبنان، مع تأكيد لافت على حرص السعوديين على أمن واستقرار ومستقبل لبنان، إذ يعبرون عن تمني أن تأتي إجراءات بلادهم، على قساوتها، لصالح ذلك، معوّلين على قدرة اللبنانيين أنفسهم على إخراج بلادهم من براثن القبضة الإيرانية.

تغيرت الرياض ولا دعم لـ’لبنان الإيراني’ الاتحاد برس.