أكرم البني يكتب: وقف إطلاق النار بين الخيبة والأمل



أكرم البني

هو حدث مهم التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في سورية بعد سنوات من عنف دموي ومدمر، والحدث الأهم هو صموده النسبي حتى الآن، إن كان مجرد هدنة موقتة أم وقفاً للأعمال العدائية، ويبقى أن ثمة أسباباً ومعوقات تجعل الأمل ضعيفاً في أن يغدو هذا الاتفاق فاتحة لوقف الصراع نهائياً ووضع البلاد على سكة المعالجة السياسية.

أولاً، أن ينجم اتفاق وقف إطلاق النار عن إرادة دولية أساسها التوافق بين واشنطن وموسكو، يثير الشكوك حول فرص نجاحه وثباته ما دام يرتهن إلى درجة صدقية هذا التوافق ومدى جدية الطرفين في إجبار حلفائهما المحليين على تنفيذه، فكيف الحال مع غموض آليات مراقبته وتحديد الجهة المسؤولة عن خرقه ووسائل محاصرتها وردعها؟ يزيد الأمر تعقيداً التباين اللافت في تحديد ماهية الجماعات التي لا يشملها الاتفاق وتوصف بالإرهابية، ثم وجود نيات مضمرة لدى الراعين، ليس في الإصرار على إنجاح الاتفاق ومعالجة مثالبه ونواقصه، بل للتصعيد وخلق بدائل حربية في حال فشله، أوضحها استمرار الضربات الروسية لمحاصرة بعض أطراف المعارضة المسلّحة، ثم التهديد الأميركي بالانتقال إلى «الخطة ب» للتدخل في مجرى الصراع السوري، هذا ناهيكم عن حضور قوى إقليمية ليست لها مصلحة في إخماد بؤرة التوتر السورية، بل يهمها إذكاء الصراع عبر تمويل الأطراف المتنافسة وتشجيعها لخرق الاتفاق وخلق ذرائع تطيح فرص التهدئة، ولا تخفى على أحد تجارب مريرة في المنطقة لعب فيها التدخل الإقليمي دوراً نافذاً في تسعير الصراعات المحلية ومنع الوصول إلى حلول ملموسة في شأنها.

ثانياً، يتقدم في خصوصية الصراع السوري احتمال تحويل وقف النار من بعض الأطراف التي يغريها منطق الغلبة وما تحققه من تقدّم على الأرض، إلى ورقة لربح الوقت كي تمعن في سياسة الحصار والإخضاع وتتوغل أكثر في الفتك والتنكيل لتحسين مواقعها الميدانية، بخاصة أن أهم القوى المتصارعة لا تزال تراهن، وإن بدرجات متفاوتة، على الخيار العسكري لكسر إرادة الآخر، إن من جهة نظام أدمن رفض تقديم التنازلات السياسية ويحلم بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء وتحقيق انتصارات يستعيد بها السيطرة على البلاد، وإن من قوى وجماعات نمت على هامش سنوات الحرب المتواصلة ولا مصلحة لها في وقف إطلاق النار والخضوع للمسار السياسي، وستفعل ما في وسعها لإفشال هذا الخيار، والقصد أن طول أمد الصراع وتداعيات الحصار والعقوبات الاقتصادية خلق ما يسمى اقتصاد حرب، بات يسيطر على مجريات الحياة، ويدار ممن تصحّ تسميتهم بأمراء حرب يتعزز نفوذهم وامتيازاتهم من استمرار العنف ووأد فرص التسوية والسلام، وتعزز هذا الواقع الطبيعة المعقدة والمتفردة لبعض مراكز القوة لدى النظام والمعارضة المسلّحة وتعدد مرجعياتها، ما يكشف مروحة واسعة من الأسباب المحلية التي تؤدي إلى إفشال أي هدنة وإطالة أمد الاقتتال.

ثالثاً، صحيح أن استمرار الاستعصاء العسكري يعتبر دافعاً رئيساً لوقف العنف ولغة السلاح، ربطاً بتوصل غالبية الأطراف المتصارعة، وإن على مضض، إلى قناعة باستحالة تحقيق نصر حاسم، وصحيح أن وقف إطلاق النار لن يكون مقبولاً ومستداماً إلا بتوفير الشروط السياسية الضرورية لاستمراره والمستندة إلى صيغة عادلة للحل تلبي مطامح الناس في التغيير وإقامة مؤسسات ديموقراطية واعدة، الأمر الذي يقع على عاتق المفاوضات المرتقبة في جنيف وقدرة الأطراف الفاعلة فيها على دفع العملية السياسية إلى الأمام، لكن الصحيح أيضاً أن ما قد يعزز وقف النار في الخصوصية السورية هو فصل الملف الإنساني والإغاثي عن الملف السياسي، والبدء بإلغاء توظيف معاناة الناس لربح بعض النقاط، واعتبار مصير البشر وشروط حياتهم، مسألة أعلى وأنبل من الغايات السياسية لأي طرف في الصراع، وإذ نعترف بوجود عقبات متنوعة تعترض هذا الخيار، نعترف أيضاً بأن النجاح في الفصل بين المفاوضات حول أسس نظام الحكم القــادم وبــين تقدم الملف الإنساني، كالشروع في فك الحصار عن مناطق محاصرة منذ مدد طويلة وإيصال المساعدات الغذائية والدوائية لها وكشف مصير المفقودين وإطلاق سراح المعتقلين، يمكنه أن يأتي بمناخ جديد ينعش بعض الأمل عند من يقاسون الأمرّين من فظاعة الصراع ودمويته، ويثير الثقة بجدوى التهدئة وخيار المعالجة السياسية، والقصد أنه ثبت في كثير من الصراعات الأهلية أن التركيز على الوجه الإنساني وضمان تنفيذ القرارات المتعلّقة بالملفات الإغاثية، بما في ذلك القدرة على توفير الخدمات وتحسين شروط الحياة، يعتبر دافعاً قوياً لأطراف النزاع للتهدئة والتواصل، ويفتح الباب تالياً لتفعيل دور قوى واسعة من المجتمع متضررة من استمرار منطق السلاح وهيمنة لغة القوة، بما في ذلك تمكين جهات من المجتمع المدني لتضطلع بدور أكثر أهمية في دعم وقف مستدام لإطلاق النار، ما دامت تستطيع التواصل مع مختلف الأطراف الداخلية الفاعلة والتوسط في ما بين.

أخيراً، وعلى رغم مرور سنوات من العنف المفرط والدم والخراب، تلمس لدى عموم السوريين توقاً شديداً الى الخلاص مما هم فيه ورغبة عارمة في وقف القتال وإحلال السلام، تحدوهم دوافع قوية لتمكين اتفاق وقف إطلاق النار القائم، وتشديد المطالبة بالجدية والصدقية في تنفيذه، وإدانة كل من يخرقه أو يتجاوزه.

والحال هذه، وبعيداً من تشاؤم العقل، ينتعش بعض الأمل بأن يشكل اتفاق وقف إطلاق النار الساري، فرصة لتخفيف حدة الاستقطاب وذاك التفشّي المفزع للغة الحقد والإلغاء، وربما لاستعادة شيء من العقلانية التي دمّرها منطق الحرب، بخاصة مع تنامي اقتناع بعبثية استمرار القتال وبأن الجميع سيخرج خاسراً منه، والأهم فرصة لاجتراح حل سياسي يحاصر جماعات التطرف والإقصاء ودعاة العنف والغلبة، ويمهد لإنقاذ سورية وشعبها المنكوب من دوامة الفتك والتنكيل والخراب.

المصدر: الحياة اللندنية

أخبار سوريا ميكرو سيريا