قلق روسي من التحرك السعودي نحو سوريا


مما لا شك فيه أن نشر القوات الروسية في سوريا، لا يهدف فقط إلى إعادة رسم مسار الأحداث هناك، وإنما موقع روسيا على الساحة الدولية، فقد عانت موسكو من العزلة، بسبب العقوبات التي لجمتها نتيجة لقرار ضم شبه جزيرة القرم، والدعم الذي تقدمه للانفصاليين في شرق أوكرانيا، ولعل التذرع بمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية كان الطريقة الأنجح لكسر العزلة الدولية بسبب أزمة أوكرانيا.

وذكرت صحيفة أوبزيرفر، أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يحاول لعب دور عالمي على الساحة الدولية، في وقت دخلت فيه قواته إلى سوريا، وأنه من خلال مضاعفة دعم بوتين للنظام السوري المحاصر، فقد أرسل رسالة بأنه لن يكون هناك حل للأزمة السورية من دون موسكو.

تدخل سوريا اليوم في مرحلة غاية الخطورة، أخذت فيها روسيا وقتًا أكثر من كاف، لم تتمكن فيه من تحقيق نصر حاسم، ولم تستطع اجبار الغرب على التنازل عن أي ملف آخر، وأبرزها أوكرانيا.

ووفق العديد من المراقبين، أظهرت الحرب السورية أن قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على إبراز قوتها بالقرب من منطقة التأثير الروسي بدت محدودة، وإذا أخذنا بالاعتبار أن روسيا قد تكون ضعيفة أيضًا، فإن دول الجوار المباشر أضعف، والغـرب ليس مستعـدًا لحمايتها.

الخطير في كل ما يتداول حول سوريا، التصريحات الرسمية الأمريكية، والروسية، إن كان بالتقسيم أو الفدرالية، فهي المرة الأولى التي يظهر كلام كهذا للعلن من مسؤولي الصف الأول في موسكو، وواشنطن، ويمكن أن يطرح في أي مفاوضات قادمة.

بات التقسيم عمليًا موجودًا على الارض السورية، وجاءت “الهدنة” لتعزيزه، مناطق يسيطر عليها نظام الأسد، وأخرى الأكراد، وثالثة تنظيم الدولة الإسلامية، ورابعة ما تبقى من فصائل عسكرية معارضة، وربما خامسة تسبح خارج أي منظومة.

أي تدخل بري مرتقب، سيكون لتنظيم وإدارة الأمور في مناطق سورية معينة، وقطع الطريق على خطط انفصالية، ومنع وإيقاف عمليات التطهير والتهجير التي يتعرض لها عرب سوريا السنة، فوحدها مناطق العرب السنة في سوريا تعاني من فوضى بكل أنواعها، فقط قوى خارجية قادرة على توحيد قواهم، وربما إدارة شؤونهم بعد فشلهم، ولمدة خمس سنين من إدارة أمور لو حتى قرية، على أمل أن تحصل بعدها مفاوضات جدية مباشرة، مثمرة بين الأطراف الفعالة على الأرض السورية، مع عدم إغفال حقيقة أنّ موسكو وطهران تستطيعان التأثير أكثر من غيرهما، لأنهما موجودتان على الأرض السورية، بينما أنصار المعارضة (تركيا والسعودية وقطر) لا يوجد أحد منهم، حتى اليوم.

و تتحرك تركيا مؤخرًا، لتجاوز بعض الأخطاء التي وقعت فيها سابقا، في تعاملها مع الملف السوري، من خلال توسيع تعاونها مع الأطراف العربية المتضررة الحقيقية من خسارة سوريا، الأمر الذي يعطيها غطاء عربي إسلامي، لأي عمل قادم، ناهيك عن مشاركة بعض تلك الدول وبشكل مباشر في أي تحرك عسكري مرتقب، يضع الغرب تحت أمر واقع.
تحاول تركيا التي تستضيف 2.6 مليون لاجئ سوري، إبقاء أحدث موجة للاجئين على الجانب السوري من الحدود، لأسباب عديدة، منها الضغط على روسيا، لوقف دعمها قوات الأسد قرب مدينة حلب، وهو ما ينذر بتدفق مئات آلاف اللاجئين إلى حدودها.

وعدم إدخال تركيا السوريين الفارين من قصف الروس ونظام الأسد، يظهرها، للوهلة الأولى، متعارضة بشكل فج مع مصلحة الهاربين إلى الحدود، ويعيشون أوضاعًا غاية في البؤس. ولكن، على المدى البعيد في مصلحة سوريا دولة واحدة، وفي مصلحة مكونها الأساسي.

واستمرار دخول اللاجئين إلى تركيا بطاقة خضراء لإفراغ المناطق المعارضة من سكانها، وتهجير مزيد من السوريين المعارضين، وإعطاء الأسد الفرصة لمتابعة التغيير الديمغرافي الذي يسهم القصف الروسي بتنفيذه، ليس فقط في تهجير المكون الأساسي في سوريا، وإنما كذلك عندما لجأت روسيا إلى دعم حزب صالح مسلم، الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني، المصنف إرهابيًا في تركيا وحلف الناتو، وذلك لإضعاف الدور التركي في سوريا، وجعل الحزب يسيطر على الشريط الحدودي مع تركيا، استكمالًا لمشروعها ومشروعه، ولإثارة الاضطرابات داخل تركيا نوعًا من أنواع الانتقام، بسبب إسقاط تركيا طائرتها أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.

لم تكن مطالبة أنقرة بإقامة منطقة آمنة منذ وقت مبكر من عمر الثورة السورية مبادرة تركية ذاتية فقد طالب بها الثوار السوريون في “جمعة الحظر الجوي”، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، وفي يناير/ كانون الثاني 2012 في “جمعة المنطقة العازلة”.

وتحول موضوع المنطقة الآمنة إلى موضوع إقليمي في الشمال من الجانب التركي، وفي الجنوب من الجانب الأردني، بعد تدفق مئات الآلاف من اللاجئين السوريين الفارين من قصف طيران الأسد إلى حدود الدولتين الجارتين، وتبقى حدود الدولتين التركية والأردنية، اليوم، بعد مرور عدة سنوات، مفتاح أي تدخل قادم.

صحيح أن التدخل التركي العسكري في سوريا قد تأخر، ولكن الأصح، هو، تأخرت تركيا التدخل بمفردها، وما زال هناك متسع من الوقت للتدخل، رغم أنه ضيق، ولكن في إطار عربي إسلامي ودولي.

وأكثر ما يقلق موسكو اليوم، ليس التحرك التركي المرتقب، وإنما أي تحرك سعودي قريب نحو سوريا، هي تدرك حدود أي تحرك تركي، فبين روسيا، وتركيا تاريخ حافل بالمد والجزر في علاقتهم، على العكس مع السعودية، فهي غير قادرة على معرفة السلوك والخيار الذي ستتبعه الرياض في أي تحرك قادم.

وهناك تركيز في الإعلام الروسي، وتصريحات المسؤولين الروس على انشغال السعودية بحرب اليمن، وأنها غير مستعدة لفتح جبهة أخرى، وليست لدى الأطراف الداعمة للمعارضة أي خطط بديلة، وتعمل موسكو على الانفراد بحلفاء المعارضة السورية المعتدلة، والتي تجتمع كلها على ألا مكان للأسد في مستقبل سوريا بعد قتله مئات آلاف السوريين وتهجير وتشريد الملايين منهم، وتحاول تفريقهم عبر تنازلات لا ترتقي إلى مطالبهم، وربما الشيء الوحيد الذي تستطيع تقديمه هو طمأنة بعضهم على أنها ستحد من النفوذ الإيراني في سوريا، وهذا يبقى أيضا رهن تطور الأوضاع على أرض الواقع، فهزيمة الأطراف التي تدعمها موسكو وطهران في سوريا تعني عمليا حسم معركة اليمن أيضا، وكذلك إعادة لبنان إلى موقعه الطبيعي.

تعي موسكو جيدا، أنه ليس هناك في الواقع أي عمق تاريخي لأي تعاون سعودي روسي، ولا حتى مصالح استراتيجية بعيدة المدى، وربما التعنت الروسي حيال سوريا قد وضع حدًا لأي آمال حقيقية في قيام علاقات متعددة الأهداف، وطويلة المدى بين الرياض وموسكو، وسيكون أي تعاون أو علاقة مستقبلية حتما براغماتي، والتقارب أو التباعد سيكون بشكل منفصل ومرتبط مع كل ملف على حده، مع الأخذ بعين الاعتبار سلوك موسكو حيال أي ملف، وما إذا كان هذا السلوك يتوافق مع مصالح الرياض والعرب بشكل عام.
وما يجري اليوم، بشكل تدريجي ويأخذ بعض الوقت، ترجمة واقعية لكلام عادل جبير وزير الخارجية السعودي المتكرر”الأسد إن لم يرحل بحل سياسي سيرحل بحل عسكري”، فمن كان يتوقع قبل أسابيع وليس أشهر، أن تتمركز الطائرات والمعدات العسكرية السعودية والإماراتية في قاعدة إنجرليك التركية، ويتبع ذلك إدراج حزب الله اللبناني (ذراع إيران في المنطقة، وحليف موسكو) في قوائم الإرهاب ضمن مجلس التعاون الخليجي.

يبقى القول، إن مبعث القلق الروسي، “هزيمتهم المذلة في أفغانستان”، ومجرد ذكرها إلى اليوم يقض مضاجعهم، ويقامر بوتين في منطقة، يتداخل فيها الدين مع القومية، ويمتزج التاريخ بالجغرافيا، ولم يسبق على مر التاريخ لأي قيصر أو إمبراطور روسي التدخل فيها بهذا الشكل الفج، وقد ذكرت صحيفة روسية أن “لا أحد يعرف من أقنع بوتين بأن دخوله سوريا وحل أزمتها سيكون سريعا”، في إشارة واضحة للمأزق الروسي هناك والذي يتحول تدريجيا إلى مستنقع.

د. باسل الحاج جاسم – ترك برس