كل هذه الفروع الأمنية في سورية


يُمكن، بكل بساطة، وبلا ذرّة مبالغة، تأليف موسوعة عن أنواع الفروع الأمنية في سورية، حتى أن بعضهم يتباهى بعدد الفروع الأمنية التي يعرفها وبتصنيفها. وإذا كانت سورية دولة أمنية بامتياز، فإن كلمة أمن التي من المُفترض أن تحرك مشاعر الطمأنينة والأمان في النفوس، فإنها على العكس تجعل المفاصل تتقصف ذعراً، إذ يكفي أن تخبر أحداً أن عناصر من الأمن سألت عنه، حتى تظهر عليه أعراض السكتة القلبية من شحوب وضيق تنفس وتعرق بارد.

 

ويروّعك التناقض الفظيع في عمل الفروع الأمنية وعدم التنسيق على الإطلاق فيما بينها. وخير دليل الأمثلة الحية، شخص يملك محلاً تجارياً متواضعاً، سُجن تسع سنوات بتهمة انتمائه إلى رابطة العمل الشيوعي من عام 1990 إلى 1999، وكان في التاسعة عشرة من عمره لما سجن. هو حالياً متزوج، ولديه أطفال، وأراد أن يشتري بيتاً في مدخل مدينة اللاذقية.

 

وبما أن كل شيء، حتى الشهيق والزفير، يتطلب الموافقة الأمنية، فقد قوبل طلبه بالرفض، ولم تسمح له الجهة الأمنية المُختصة بشراء البيت، لإيواء أسرته التي تعيش في ظروف قاسية، ولم تفسر له السبب. وكانت جهة أمنية أخرى، لها حسابات أخرى، قد رضيت أن تعطيه جواز سفر. كيف يتم التنسيق، أو على الأدق اللا تنسيق، بين الأجهزة الأمنية السورية؟ الله أعلم.

كيف يمكن لجهة أمنية أن تمنع مواطناً من حقه بشراء منزل، وجهة أمنية أخرى تعطيه الحق أن يملك جواز سفر.

مثال آخر، قضى صديق عشر سنوات في السجن في التسعينيات، بتهمة عمله في حقوق الإنسان، وهذه تهمة في سورية، وتكفي عبارة تمويل خارجي، حتى يشعر السوري نفسه أنه سقط في هاويةٍ لا قرار لها. أنجب الرجل طفلاً قبل السجن، وطفلة بعد السجن، ثم تقدم بطلبٍ إلى الجهة الأمنية المختصة لحصوله وأسرته على جوازات سفر.

 

تمت الموافقة على إعطائه جواز سفر، بعد محاولات عديدة، لكنهم منعوا، وبإصرار شديد، حصول زوجته على جواز سفر خاص بها. وممنوع عليه أن يسأل عن الأسباب. وأكاد أجزم أن عقل السوري يستحيل أن يُصاب بالزهايمر، لأنه مُنشغل دوماً بحل الألغاز، فعمل المخ خير محفز لصحة الدماغ.

 

ثمة نوع متطور ومتخصص أيضاً من الأجهزة الأمنية، فحين زرت البحرين، قبل أربع سنوات، بدعوة من وزارة الثقافة، كنت وقتها ممنوعةً من السفر، لسببٍ أجهله، ربما بسبب مقال كتبته، ولم يرض عنه الرقيب، أو بسبب تقرير أمني كُتب بحقي.

وفي سورية، يُمكن إهمال كل شيء عدا التقارير الأمنية، لكنني تمكّنت من السفر إلى البحرين، بمساعدة إنسانة راقية ووجدانية، تعمل مع النظام. ولما عدت، استدعيت إسعافياً إلى جهاز أمن الدولة، وقدمت لي أوراق كبيرة، لأكتب بالتفصيل المُمل كل خطوة، وكل كلمة قلتها في البحرين. وأحسست بالذل، ولا شيء غيره، ذل نقي صاف صفاء المرارة المتورمة من القهر.

 

وثمّة فروع أمنية متخصصة بمنع معارضة الداخل من السفر، وهذه الحقيقة تصيبك بالبلاهة. إذ كيف يمكن لمعارضين داخل سورية أن يكونوا ممنوعين من السفر، وأين شعارات المصالحات الوطنية والحوارات البناءة إلى ما هنالك؟ أية ألغاز على العقل السوري أن يحلها، لكي يفهم كيف تعمل الأجهزة الأمنية، كل واحدةٍ على حدة.

 

وإلى متى سيظل المواطن السوري يتقصف ذعراً من مفردة أمن، وأن يُصاب برهاب حواجز التفتيش، وخصوصاً السفر إلى لبنان أو تركيا؟ ولماذا على كل سوري حضر مؤتمراً أن يقدم تقريراً عن كل كلمة وكل تصرف حصل في المؤتمر، هل المواطن السوري قاصر أو خائن، أو لا يستحق كرامته بوصفه مواطناً؟ وبما أن الحديث الدارج، هذه الأيام، هو المصالحات الوطنية، فيا ليتها الأجهزة الأمنية تبدأ بالمصالحات فيما بينها، وأن تضع لنفسها خطة عمل واحدة، أساسها احترام كرامة السوري وحريته، وألا يكون مُتهماً حتى يثبت العكس، وأن تعيد إلى مفردة أمن معناها الحقيقي.

هيفاء بيطار

العربي الجديد