وداعًا أيتها القيادة القومية

 
تأخر موعد الدفن، أو على الأقل إعلان الوفاة لأكثر من خمس سنوات، سارت فيها البلاد نحو العزلة العربية، وأصبح شعار الوحدة أول ثلاثية أهداف البعث في خبر كان، والعرب سحبوا من دمشق سفاراتهم وسياحهم ومشاريعهم الاقتصادية، وصولاً إلى كرسيها الشاغر في قاعات مؤتمرات القمة.
مع إعلان حزب البعث لوفاة قيادته القومية، يصبح شعار الوحدة العربية في خبر كان
اليوم تنقل جريدة "الأخبار" الموالية للنظام السوري أن "القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي أصدرت أخيرًا قرارًا حلت بموجبه وبشكل نهائي القيادة القومية للحزب، على أن تنقل جميع ممتلكاتها من العقارات والسيارات والمكاتب بجميع محتوياتها إلى ملاك القيادة القطرية، حيث تم تكليف لجنة خاصة بمهمة جرد تلك الممتلكات وتسلّمها بشكل قانوني". إذن، حتى السيارات المركونة، والعقارات والأختام القومية لم تعد صالحة لكل ذلك الثغاء العربي، والأوراق التي تحمل في ترويستها كليشيهات "حزب البعث العربي الاشتراكي- القيادة القومية" ستنقل إلى مكانها الحقيقي؛ إما إلى مسودات لكتابة البيانات، أو سلة المهملات التي ستنهي مرحلة من التصفيق للأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة. أما عن الأسباب التي نقلتها "الأخبار" وراء هذا القرار فهو يعود لعاملين أساسيين، الأول ضعف نشاط القيادة القومية وغيابها عن ساحة العمل الحزبي لعقود طويلة، والثاني تنفيذ مضمون قانون تأسيس الأحزاب السياسية الذي يحظر على الأحزاب المؤسّسة في سوريا افتتاح فروع خارجية لها. وتلك الأسباب يجب التوقف عندها فهي حقيقة تأخر البوح فيها ولكنها على أرض الواقع السوري قائمة، فالبعثيون السوريون الذين كانت العروبة بالنسبة لهم مهنة ومنصبًا حزبيًا، بدأوا يرددون منذ السنة الأولى للأزمة في سوريا أنهم فقدوا بعدهم العربي، وأن العرب تآمروا على سوريا وزرعوا فيها الخراب، من خلال دعمهم للفصائل الثورية، وحرضوا عبر قنواتهم الإعلامية على تمزيق البلد الذي احتواهم ذات يوم، ودافع عنهم عقائديًا وعسكريًا، وحتى أولئك الذين نأوا بأنفسهم علنًا، هم أيضًا خذلوا السوريين البعثين، وتآمروا عليهم. هكذا هم بعثيو سوريا، هم فقط من يفهم معنى العروبة، وهم فقط من يمثلها، وهم فقط من يحدد عروبة الآخرين، في الوقت الذي تحولت سوريا تحت حكم حزبهم إلى عالم من الرعب المخابراتي الذي لا مثيل له، وهذا ما تترجمه أذرعهم الإعلامية الممولة إيرانيًا بدعوى التمترس الممانع. أما عجائز القيادة القومية العرب، الذي قصدوا سوريا لحصد مكاسب شخصية لدى مزرعة القيادة القومية، ومن الغريب حقًا ذلك التناقض الذي خلقه البعث السوري عبر جعل القيادة القطرية هي من تتحكم بالقيادة القومية في حزب يدعي تمثيل العرب ويسعى للنهوص بهم؛ أولئك العجائز منهم من مات، ومنهم من غادر سوريا، لم يكونوا، في كل سنوات تواجدهم فيها لم يكونوا سوى أدوات صغيرة بيد البعث السوري الأم، وإن ساهموا في التصريحات الرسمية للتلفزيون السوري عن قضايا العرب عندما يقع خلاف بين سوريا ودولة أخرى عربية، أو بالهجوم على سياسات الأنظمة التي تحكم بلادهم "تونس-مصر-العراق". وأيضًا متابعة شؤون الطلبة البعثيين من بلدانهم، والاجتماع بهم، ورعاية الأمسيات الشعرية والندوات الثقافية كما كان يفعل الرفيق محمد صالح الهرماسي، التونسي الأصل، الذي يقول في إحدى ندواته معبرًا عن وجهة نظر "حزب البعث" بالحال العربية: "شرّان دمّرا أمتنا وما زالا، أولهما الخازوق الصهيوني الذي زرعه الاستعمار في أرضنا ليمنع وحدتها وتحررها ويعيق مشروع نهضتها وتقدمها، وثانيهما نعمة انقلبت إلى نقمة وشرّ مدمّر هي النفط الذي أحكم الغرب قبضته عليه للاستفادة منه كمادة حيويّة واستراتيجية أولًا، ومنع العرب من الاستفادة الحقيقية منه في التنمية والنهوض وامتلاك عوامل القوّة ثانيًا".
منذ السنة الأولى للأزمة في بلادهم، فقد السوريون البعثيون إيمانهم بالبعد العربي
وفي كل مؤتمراتها التي لم تتجاز ثلاثة عشر مؤتمرًا قوميًا كان آخرها في عام 1980، كانت تناط بها وفق ما جاء في دورها مهمة: "إغناء عقيدة الحزب وفكره، حيث ترسم المناهج والسياسات وتتخذ القرارات والتوصيات المتعلقة في المجالات الثقافية والتنظيمية والسياسية والاقتصادية، إضافة لتطوير القاعدة التنظيمية للحزب بما يتناسب مع كل مرحلة". القرار مع كل هذه المبررات ترك الباب مفتوحًا لدور القيادة القومية، وإن كان صغيرًا من خلال ما جاء في تسريب "الأخبار"، أنه من المتوقع "أن يُستحدث مكتب في القيادة القطرية لحزب البعث تكون مهمته التواصل مع أحزاب البعث الموجودة في عدة دول عربية، والتي لا تزال تمارس نشاطها الحزبي في تلك الدول". المؤكد والمتوقع أن هذا الثغاء العربي القومي قد ولى إلى غير رجعة، ليتوافق مع الواقع لأول مرة بأن قدمه البعث السوري ليس أكثر من أكذوبة عاشها موظفو مبنى القيادة القومية في دمشق، في ظل نظام منافق حتى العظم، وحزب منخور يشبه تلك الأحزاب التي عبدت النموذج السوفيتي الستاليني من أقصى اليمين إلى اليسار عالميًا، وتحديدًا اليسار العربي الخَرِف.