الهدنة اللغز


نستطيع أن نفهم ما لوحت به الإدارة الأمريكية تحت مسمى الخطة « ب » فيما لو فشلت الهدنة الصادرة عن مجلس الأمن بالقرار 2268 على أنه تهديد أمريكي لروسيا بأن موسكو غير مسموح لها بالاستفراد في المشهد السوري خصوصاً، وفي المنطقة على وجه العموم.

بداية خطط الروس لأن تكون الهدنة التي دخلت حيز التنفيذ منتصف ليل « الجمعة – السبت » 24/2/2016 هي من حصة « موسكو » وحلفائها، وهم من سيجني ثمارها، وهم من أشرف على صياغتها بطريقة خبيثة تسمح لهم باستهداف قوى الثورة بذريعة « استثناء داعش والنصرة » من الهدنة. والحقيقة هي أن هذين الفصيلين مستثنيان من الاستهداف الحاسم من قبل الروس ومتروك أمر القضاء عليهما – ربما – للتحالف الدولي بقيادة « الولايات المتحدة الأمريكية».

تعلم موسكو أن التطبيق الحرفي للهدنة يتناقض مع الأهداف التي تدخلت من أجلها في سوريا، لذا فإنها لا يمكن أن تلتزم بها، وسوف تنتهكها بالاشتراك مع حلفائها مستفيدين من الثغرات الكثيرة في الصياغة حمالة الأوجه.

الهدنة الخبيثة تتيح لموسكو استرجاع كثير من المساحات السورية لصالح النظام، بغية ترجيح أوراقه التفاوضية، حيث سارع « دي مستورا » بالحديث عن استئناف محادثات جنيف في 10/3/2016 . مما يعني أن تذهب سوريا لمصلحة « أعداء أمريكا » المفترضين « روسيا وإيران »، الأمر الذي ينتج عنه إمكانية تقوية النفوذ المعادي لأمريكا وحلفائها إلى درجة لا يمكن معها لجمه وكبح جماحه.

لا يمكن تصور أن تسمح أمريكا للتحالف الروسي الإيراني أن ينتصر في منطقة مهمة في العالم كالشرق الأوسط وخاصة أن إسرائيل أحد ساكنيها، إسرائيل التي لديها قلق بالغ من إيران وحلفائها.

أمريكا التي تنتظر انهياراً روسياً مفاجئاً من الداخل الروسي لن تنتظر هذا الانهيار فيما لو تسارعت الأحداث لصالح الروس في سوريا، وخاصة أن إيران لازالت تظهر للروس السخاء المالي على الرغم من تردي الاقتصاد الإيراني وحاجة إيران للمال لتغذية أذرعها العدوانية في المنطقة ولترميم أجزاء من الاقتصاد الداخلي المتهالك إسكاتاً للشعب الإيراني الذي تحمل الكثير جراء « مغامرات الملالي ».

لن تنتظر أمريكا ذلك الانهيار للاقتصاد الروسي فقد تسارع هي في تسريعه، وذلك بالانتقال إلى الخطة « ب » في الشأن السوري، ولأجل ذلك يعي الأمريكان أهمية مراقبة الخروقات الروسية للهدنة النافذة، لتكون بوابة انتقال للخطوة التالية، الخطة التي تحتمل سيناريوهات ثلاثة:

1. دعم قوات المعارضة المعتدلة بالسلاح الثقيل، بما فيه مضادات الطيران، وهذا من شأنه تعديل موازين القوى للثوار لكن على المدى البعيد.

2. فسح المجال للتحالف الإسلامي الذي أعلنت عنه السعودية، وهي تعد له جيداً عبر مناورات « رعد الشمال » والحضور الأخير في قاعدة « أنجرليك » التركية.

3. أن يتولى حلف شمال الأطلسي هذه المهمة، وهو الاحتمال الذي ينطوي على مخاطر كثيرة مما يرجح إيجاد توليفة تخلط بين السيناريوهات الثلاثة.

خططت موسكو للهدنة بطريقة خبيثة على أمل أن تتمكن من جني ثمارها، لتكتشف أن الثمار هي مجرد باقات من «الأشواك والعلّيق والصبر والحنظل» .. فقد شعر الروس بعد انقضاء الأسبوع الأول من الهدنة أنها «ورطة» بالمعنى الحقيقي للكلمة .. فليس في الميدان من ينتهك الهدنة سوى الروس وحلفائهم .. أمام أعين الرقابة الإعلامية وتحت سيف المحاسبة القانونية وفي إطار التهديد الأمريكي بالخطة « ب » التي استشعر الروس مخاطر الحديث عنها، علاوة على تسارع نزف الاقتصاد الروسي .. ومما زاد من الضغوط على حكومة موسكو هو إحراج الثوار لهم حين أظهروا مقداراً لافتاً من ضبط النفس حيال استفزازات الأعداء لهم .. لتأتي المظاهرات السلمية لتضيف ضغوطاً جديدة على كاهل الروس وتشكل الحراجة الأكبر للسياسات الروسية وللرؤية الروسية التي كانت تصف معارضي الأسد بالإرهابيين .. ليرى العالم كله أن الشعب السوري لا يهتف لتطبيق الشريعة بل بالحرية .. ولا ينادي بالخلافة بل بسوريا المدنية التعددية ولا يرفع الرايات السوداء بل يرفع راية الثورة.

هذا المشهد دفع الروس إلى الأخذ بخيارات صعبة ربما أقلها يكون «التخلي عن الأسد» كثمن يدفعه الروس للأوربيين مقابل رفع العقوبات المفروضة على موسكو .. وذلك في تكرار للتجربة الإيرانية حيث كانت الحاجة للمال سبباً أساسياً لتقديم التنازلات .. ومن التنازلات أيضاً أن تنخرط موسكو بشكل حقيقي في محاربة تنظيم داعش بدلاً من استغفال المجتمع الدولي في هذا الملف .. وربما يضاف تنازل أشد خطورة على موسكو ويتعلق بالعلاقة الجدلية بين « روسيا وإيران » فالمطلوب من موسكو فك الارتباط مع إيران الواقعة تحت ضغوطات التحركات الخليجية.

إن فتور العلاقة التركية الأمريكية تزامناً مع « حرب باردة روسية تركية » دفع الأتراك للبحث عن بدائل أخرى مثل إسرائيل وإيران. كما أن احتمالية فتور في العلاقات الروسية الإيرانية مع « حرب باردة خليجية إيرانية » دفع الإيرانيين إلى التقرب من تركيا.

لكن الذي يجب قوله هو أن الثورة السورية هي التي تسببت من قريب أو بعيد بكل هذه الارتدادات في المنطقة والعالم، فهل تعي المعارضة السورية أهمية الانخراط الجاد بالعمل السياسي الذي من شأنه: تعزيز الاستقطاب الدولي والعمل على مباعدة مواقف حلفاء الثورة عن حلفاء النظام، والجدية في فرض عزلة على أعداء الثورة والشعب وتسويقهم كإرهابيين ومجرمي حرب تتوجب معاقبتهم، وتكريس الجهد في تسويق قضية الشعب السوري على أنها قضية حقوقية لا جدال فيها.

لهيئة السورية للإعلام – الكاتب والباحث السياسي : عبد الناصر محمد