كيف طُرٍد «حزب الله» من البوسنة؟
7 مارس، 2016
وسام سعادة
«قاتلنا في البوسنة والهرسك دفاعاً عن أهل السنّة!» كمن يذيع مفاجأة، أراد الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصر الله، أن يبرّر بهذا الإعلان، مشاركة حزبه في القتال في سوريا دفاعاً عن نظام أقلويّ دمويّ متهالك، وأن يقلّل من الطابع المذهبيّ النافر لهذه المشاركة، علماً أنّ «لاسنّية» النظام الأسدي فاقعة وسافرة ولم تكن «تنقصها» اسهامات «حزب الله».
تعامل نصر الله مع موضوع مشاركة حزبه في حرب البوسنة كمن يذيع مفاجأة. اللبنانيّون، من الموالين أو المناوئين له، تعاملوا مع الأمر هم أيضاً كما لو أنّه مفاجأة، فمضوا بين مرحّب ومهلّل من جملة الموالين، وبين من يفترض فيه تقبّل الأمر بابتلاع الموس أو بالروح الرياضية («اللقاء الأرثوذكسي» على سبيل المثال») وبين من اختلطت عليه حرب البوسنة وحرب كوسوفو، وبين مكذّب لحديث السيد، كبعض الأصوات «السلفية». الا انّ حسن نصر الله في هذا كان يقول الصدق. هذا مع فارق أساسي: ليس في الأمر أي مفاجأة.
في ايران، يطلق على أحد صقور النظام، والذي تبوأ منصب رئيس مجلس صيانة الدستور، آية الله أحمد جنتي لقب «آية الله للبوسنة والهرسك». لقد كان دوره أساسياً في اتخاذ القرار بسرعة لارسال مجموعات من «الحرس الثوري الايراني» الى البوسنة والهرسك، وكان لارسالهم دور أساسي في صعود نجمه بين الملالي، بكل ما يمثّله من اتجاه متشدّد و»حرسيّ» (أي دافع باتجاه المزيد ثم المزيد من سيطرة «الحرس» على النظام والمجتمع).
لكن من أرسلهم جنتي كانوا في أكثرهم لبنانيين. لو لم يقرّ نصر الله بذلك لقلنا ان تقرير «معهد الولايات المتحدة للسلام» الصادر في أيلول 1997، والذي يتناول عملية الانتقال الى السلام في البوسنة، يفتري على الحزب ويريد توريطه.
والأمر لم يقتصر على هذا التقرير. خلال النقاشات حول توسيع القوة الدولية العاملة في جنوب لبنان بعد حرب تموز، فجّر الجنرال الكندي لويس ماكنزي، الذي عمل قائدا لقوات حفظ السلام في البوسنة، جدلاً في أروقة المنظمة الدولية، اذ نشر معلومات تفيد بأن مقاتلي «حزب الله« كانوا لجأوا أثناء حرب البوسنة، الى تقصّد الاختباء واطلاق النار من وراء مواقع القوة الدولية لأجل تعريضها ومن يلتحق بها من المواطنين المسلمين للقصف، وفي اطار ممنهج كان القصد منه قطع الطريق على العملية السياسية التي ستؤدي الى توقيع «اتفاقية دايتون» عام 1995. اتهم ماكنزي «حزب الله» يومها بأنه نقل هذا الأسلوب من تجربته في البوسنة الى تجربته في جنوب لبنان.
اندلعت «حرب البوسنة» بين آذار 1992 وكانون الأول 1995. الانقسام الحاد بين مجموعات قومية ثلاث، المسلمين البوشناق والصرب والكروات، فضلاً عن الحسابات الدولية المتقاطعة، أدّت الى استصدار قرار أممي بحظر ارسال الأسلحة الى أي من أطراف النزاع، مؤثرة في المقابل العمل لتشكيل القوة الدولية والعمل على نشرها في منطقة سراييفو.
الى اليوم، يعتبر كتاب البروفسور كايز فيبيس الأستاذ في جامعة امستردام مرجعاً حول «الأجهزة الاستخبارية وحرب البوسنة» حيث أتيح له الاطلاع على آلاف الوثائق المحفوظة لدى المنظمة الدولية ودول غربية معنية بالصراع وعملية السلام. يرجّح فيبيس أن يكون أقصى حد بلغته قوة «الباسدران – حزب الله» هي أربعة آلاف عنصر، تضاف اليها مجموعات «جهادية» شيشانية ويمنية وجزائرية سعت ايران ايضاً الى تأطيرها. يقول فيبيس ان دور المجاهدين الأجانب في حرب البوسنة كان «صغيراً لكنه كان دوراً مهماً». القوة الايرانية المكوّنة من نسبة عالية من الشباب اللبناني، أقامت في زنيتشا وسط البوسنة. لم تكن محبوبة من السكّان. التقارير تفيد ان الأهالي كانوا ينظرون الى العناصر الايرانية واللبنانية وغيرها كمتغطرسين، يسعون الى فرض ثقافتهم الدينية الخاصة، التي تختلف عن الاسلام السني البوشناقي. يلاحظ فيبيس ان هذه القوة كانت بعيدة عن الجبهات، مع انها كانت تحوي محاربين أشدّاء، وتنفّذ عمليات نوعية كقوات صدم مباغتة تشنّ هجمات خاطفة، بعضها دعائي.
فدور القوة التي كشف أمرها نصر الله للبنانيين، ومكشوف أمرها للقاصي والداني من المعنيين بحرب البوسنة، كان هدفها الرئيسي خلق شبكات امنية موالية لايران في البوسنة والهرسك. وهذا يتصل بالحافز الأهم لجنتي والحرس الايراني للذهاب الى البوسنة بالعملاء اللبنانيين: تطويق النفوذ التركي بين مسلمي البلقان، وهو نفوذ يدعمه التاريخ العثماني المشترك، والانتماء السني الموحّد، والوجه الأوروبي لتركيا. يلاحظ فيبيس أيضاً ان تركيا ودولاً عربية كانت أكثر حرصاً على الدعم المالي والمسلّح لمسلمي البوسنة، الا ان نظام علي عزت بيغوفيتش في البوسنة كان قد اختار الاعتماد على ايران التي زارها في ايلول 1992، مع ارسال اشارات بالتقرّب «الأيديولوجي» منها.
لكن كيف وصل مقاتلو «حزب الله» من لبنان الى البوسنة؟ عبر أي مطار؟ مطار العاصمة الكرواتية، زغرب. تطلّب ذلك ضوءاً أخضر من ادارة بيل كلينتون الذي كان يسعى الى انشاء تحالف بين الكروات الكاثوليك والمسلمين البوشناق لصد التوسّع الصربي في البوسنة، وهي سياسة ينتقدها فيبيس بشدّة ويعتبرها مسؤولة الى حد كبير عن مجازر سيريبرنيتشا التي اقترفها صرب البوسنة ضد مسلميها. وبطبيعة الحال كان التسليح الايراني يتدفّق لكل من الكروات والبوشناق عندما كان ذلك ممكناً، أي عندما كان الكروات والبوشناق المسلمون متحالفين، ليتوقف هذا الامداد ساعة يتقاتل الطرفان، ثم يستأنف ساعة تنجح السياسة الأميركية في اعادة ترميم التحالف.
بعد توقيع اتفاقية دايتون عام 1995، سيتخذ بيغوفيتش خياره بالتقرّب الى الغرب. حينها، كان عليه أن يتخذ قراراً له شعبيته بين مسلمي البوسنة، ومطلوباً بشدّة من الادارة الأميركية: طرد المقاتلين الأجانب، لا سيما المجموعات التابعة لايران، ثم الخبراء الايرانيين، ثم المرتبطين بايران في حكومته (حسن جنجيتش، باقر علي سباهيتش). النفوذ الايراني الذي طُرِد من الباب، سيحاول العودة من النافذة من خلال جمعيات خيرية في سراييفو وموستار وزنيتشا وبيهاك، وهو ما يظل يثير بين الفينة والفينة في البوسنة أخذاً وردّاً حول سياسة «التشيّع» التي تحاول زرعها ايران هناك. الا انه يبقى الأساس: في البوسنة، كان مقاتلو «حزب الله» من جملة قوة ايرانية أرسلت لكبح النفوذ التركي، مستفيدة من خيار كلينتوني بإنشاء تحالف كرواتي – اسلامي لمواجهة الصرب، ما أدى الى تسعير حدّة الصراع القومي والديني.
فهل بمثل هذا يريد حسن نصر الله أن يغسل كفيه من تهمة المذهبية؟ هي هي، سياسة فئوية، ايرانية، من أول البوسنة حتى سوريا.