on
حلب.. رحلة الحياة والموت!
فجأة، اتخذت القرار، سأتخطى الحدود جميعها، وأخوض تلك التجربة التي لطالما كانت مثارًا لاهتمامي وأنا أنقل وقائع الحرب من خلف الحواجز، هذه المرة لن أكتفي بالنظر عن بعد، لا بد من نقل الواقع كما هو، بصورته الواضحة من قريب، من أرض سوريا نفسها، الصورة المجردة، الحقيقة كاملة من الميدان دون أي معالجة، عن قرب ومن قلب الحدث.
كانت تلك، ليلة ليلاء شديدة العتمة، اقتربت من الحدود السورية-التركية حاملة سلاحي الوحيد “المايكرفون” الذي لطالما رافقني في أسفاري، وإلى جانبي المصور الذي يتصبب عرقًا، ويرتعش خوفًا، لا يحمله على التقدم سوى فضوله وشغفه في خوض التجربة إلى جانبي، بينما يسير أمامنا دليل من أهل حلب، كان قطع على نفسه عهدًا بأن لا يبرحنا حتى يستقر لنا المقام في قلب المدينة المحاصرة من كل جانب.
تخطينا الحدود ثلاثتنا، توقفنا كثيرًا، كنّا كلما شاهدنا قبسًا من نار أو ضوء خافت يلوح بالأفق، نتستر خلف أغصان الأشجار، نسبح بالوحل، ونتخفى خلف الصخور خشية على أنفسنا من المليشيات الإرهابية التي تزحف باتجاه ريف حلب منذ عدّة أيام..
ثلاثة أيام بليالها.. استغرقت رحلتنا المتخمة بالمشقة، حتى استقر لنا المقام في بيت متواضع تحتمي فيه أسرة من سبعة أفراد، لم يدخروا جهدًا في إيوائنا، واحسنوا استقبالنا، وتعاونوا معنا بما استطاعوا، إيمانًا منهم برسالتنا، وتقديرًا لما بذلنا من جهد لإيصال صيحاتهم، ونقل صورة واضحة عمّا يحيط بهم.
من ثغرة في شباك الطابق العلوي، بدت حلب مثل مدينة أشباح خاوية على عروشها، تعتقل سماءها طائرات روسية غريبة عن المكان، وتبدد صفو ليلها براميل تُلقى من الجو فتتساقط كالحميم على رؤوس سكانها، يهتز المنزل، وتتزعزع أركانه، يبدو الحي وكأنه مصاب بزلزال مزمن لا يبرحه، من هذه الثغرة ورغم عتمة الليل، يبدو المشهد أكثر وضوحًا، هنا في الجانب الموازي للحياة، لا يشعر بالاطمئنان إلا من نأى بنفسه شهيدًا، أو من حالفه القدر، فنجا من سكاكين الإرهاب، وحمم البراميل، ووصل إلى بر الأمان..
أزيز الطائرات يتواصل، أتساءل: كيف ينام هؤلاء باطمئنان؟ أي عزيمة تلك التي تدفعهم للبقاء؟ ألا يخافون من الموت الذي يلاحقهم كل لحظة؟ كل ثانية؟ لم تمهلني الطائرات كثيرًا حتى أستجمع ما تبقى لدي من قوة، أو أن أحصل على إجابة تشفي فضولي، حتى باغت الحي صاروخ لم يبق ولم يذر، فجأة تعالت أعمدة الدخان، ترافقها صرخات كثيرة وأنّات، قصف في كل مكان، وحميم تصبه السماء على رؤوس الأطفال والنساء، في هذه الأثناء تقلصت مساحة المنزل، حتى بدا وكأنه قبر ضيّق، يأوي في باطنه تسعة أشخاص، بدا المنظر مهولاً مريعًا، الجميع يتراص في زاوية واحدة، أصحاب المنزل في الصفوف الخلفية، ونحن وُضعنا في المقدمة ملاصقين للجدار، يتسابقون لتهدئة روعنا وحمياتنا، كمثل الذي جرّب الموت ألف مرة، وصار يعطي دروسًا في الزهد بالحياة.
قصف في كل مكان، قنبلة واحدة تُلقى، فتصير فجأة مثل بركان، تنشطر إلى عشرات القنابل الحارقة، لا مفر من الموت، حدثتني نفسي، هل سأصبح خبرًا؟ سأتحول إلى الصورة التي جئت لنقلها؟ أين الجيران؟ من بقي يا ترى لهذا الطفل الذي يشق صراخه عتمة الليل؟ الجميع يجري على غير هدى، فتحت الأبواب، لا مأمن في المنزل بعد اليوم، لم تكن سوى لحظات، حتى أدركت أنني بت وحيدة هائمة بين المنازل والأنقاض، أين المصور؟ أين العائلة؟ لا ألمح سوى أخيلة بالأفق تركض في كل اتجاه، لا تصدر سوى أصوات الصراخ والبكاء.
تتسارع دقات قلبي التي تتناغم معها قدماي، فأخطو مسرعة، إلى أن وصلت إلى بقايا غرفة، يبدو أنها ما تبقى مما كان يوماً منزلاً، في الداخل صراخ أطفال وبكاء، وجدتهم متراصين في فزع شديد وعزلة، أكبرهم مصاب، يتحامل على جرحه ليحمي الآخرين، من خلفي يناديني أحدهم فجأة، إنه المصور قد عاد، هيا بنا، يقول: ماذا عن الأطفال؟ قلت: لقد اعتادوا، دعينا ننجو بنفسنا، قال، وبدأ يشدني إلى الخارج، وأنا ممسكة بيد صغير، لن أتركهم ينازلون الموت وحدهم، إما أن نحيا جميعا أو نموت، صاروخ آخر، ضباب كثيف، فجأة هدأ الصراخ من حولي.
في الفندق الذي أقيم فيه منذ وطأت قدماي المناطق الحدودية التي أزورها لتغطية وقائع التطورات الميدانية، وجدتني فجأة وسطت الهدوء، أطالع الغرفة من حولي، أسابق المسافات إلى النافذة، أبحث عن طفل كان للتو يئن من فرط الألم، وآخر يصرخ وسط الضجيج، لا أحد بالأفق، في الخارج أنوار وحياة وهدوء، اختفت الطائرات فجأة من السماء، وأطلت الشمس من خلف الجبال مشرقة، القلب ما زال ينبض متسارعًا، خفقاته تؤذن بشيء من الارتباك، هل هو حلم، أو لعله كابوس، لا يراود إلا من يعيش حقًّا خلف الحدود.
كان لصوت القصف، ومشاهد اللاجئين، وفصول المعاناة التي أنقلها، الأثر البالغ في حياتي، مشاهد تأبى أن تفارقني حتى في منامي، تقض مضجعي تلك الأصوات العابرة لحدود، جلست على حافة السرير أحمد الله على النجاة تارة، وأتخيل واقع الحياة هناك، حيث اصطحبتني الأحلام، ترى، كيف يعيشون؟
أي حياة تلك وسط الدمار والبراميل والحمم؟ كيف يشعر من يقتل ولده في غارة يشنها ابن جلدته، ومن كان يومًا يلقب نفسه بسيد البلاد، والحامي الأمين؟
في الصباح، اقتربت من الحدود، ألقيت نظرة، تذكرت الأطفال الذين تركتهم من خلفي، هناك في الواقع من يشبههم، هناك من يصرخ في هذه الأثناء، أسئلة كثيرة راودتني، كيف وصل بهم الحال إلى ما باتوا عليه؟ كيف لم تنجدهم أمة تعدادهم مليار ونصف المليار؟ أين العالم عن أطفال جرحى، ويتامى محاصرين؟
تراجعت إلى الوراء خطوة، معي “المايكريفون” الذي رافقني في رحلة الموت، عاهدت نفسي على تأدية الرسالة، والسعي إلى أن أقدم شيئا لمن آووني في منزلهم على ضيقه، وأحسنوا استضافتي، لا أملك لهم من أمري شيئا سوى أن أحمل الحقيقة على كاهلي، وأرتقي بتلك الأصوات إلى النّاس..
في المناطق الحدودية تتجلى أسمى آيات التعاون والانتماء والإخلاص، هناك، العشرات من أصحاب المهن المختلف، مناطق يؤمّها خلق كثير، من الذين تأبى عليهم نفوسهم النوم على فراش وثير، بينما ينام أطفال حلب في العراء، تظللهم أعمدة الدخان المتصاعد، أدركت هنا أننا جميعًا نتحمل المسؤولية، وأن لدى كل منّا ما يقدمه، بعيدًا عن مضمار العالم الافتراضي، و”فيسبوك”.
هناك على تخوم سوريا، من يستقبل اللاجئين بالماء والطعام، وهناك من يكفل العائلات ويؤويها، من يقدم الخبز والحليب بما استطاع، وآخر يصطحب أبناءه يجودون بما ادخروا على نظرائهم الفارين من البراميل والقنابل العنقودية، أدركت أن لكل منّا ما يستطيع تقديمه من موقعه لشعب أنهكته الحرب وتقطعت به السبل، وتخلى عنه النّاس أجمعون.
هافينغتون بوست عربي ـ رقية حمزة