الموقف من الشيعة وصراع الأجيال

منذ بدء الصراع الطائفي المكشوف بين الشيعة والسنة في السنوات الخمس الأخيرة، ما زالت الساحة الفكرية والحركية والإعلامية تشتعل كلما أدلى أحد الإسلاميين المخضرمين السنّة بتصريح يدافع فيه -ولو جزئيًّا- عن إيران وأذنابها، أو يحاول فيه أن يبرر أو يتفهم بعض مواقفها. وبالرغم من كل محاولات المخضرمين للتبرير والتوضيح، فلا يبدو أن ذلك سينجح في عرف الشباب الثوريين. أعتقد أننا إزاء صراع أجيال بالدرجة الأولى، قبل أن يكون هناك خلاف بين مدارس فكرية، فالإسلاميون المخضرمون عاصروا الجيل الأول لطلائع العمل الإسلامي التي تشكلت بهدف استعادة أمجاد الخلافة. وبعد أن كانت إسرائيل (ومن ورائها الاستعمار والرأسمالية والشيوعية) العدو الأوحد في نضالهم؛ برزت في المواجهة أنظمة الطغيان العسكرية، إلا أن المخضرمين لم يجدوا أنفسهم آنذاك في أي صراع داخلي أو خارجي مع الشيعة، كما لم يُصنف النظام العلوي (النصيري) في أدبياتهم سوى على أنه مارق عن الإسلام من قبل السنة والشيعة معاً. وعندما قامت ثورة الخميني "الإسلامية" ورفعت شعارات الحرب ضد إسرائيل وأميركا، وانتقلت إيران من الحليف الأول لهما في المنطقة إلى "العدو" الأبرز لهما؛ توجه وفد من جماعات الإخوان في عدة دول إسلامية إلى طهران للتهنئة، وتطلب الأمر نحو عشرين سنة حتى يبدأ بعض قادة الإخوان بالاعتراف بمذكراتهم بأنها كانت ثورة طائفية شيعية لا إسلامية. وحتى بعد الاصطفاف الطائفي الواضح في ظل الربيع العربي وتورط حزب الله وإيران في القتل الطائفي المباشر، ما زالت الصورة غير واضحة لدى كثير من مخضرمي الإخوان، فما زالت ذكريات المعارك التي خاضها حزب الله ضد الصهاينة حاضرة في الذهن، وما زال الرئيس السابق للحزب "صبحي الطفيلي" يصرح بكل وضوح بأن الحزب انحرف عن مسار المقاومة الذي قام على أساسه، ويطلق تصريحات مثيرة للدهشة يبرر فيها انحيازه لصالح الثورة السورية وانقلابه على إيران، مؤكدا أن قادة الحزب قرروا في بداية الثورة الوقوف على الحياد قبل أن تصدر الأوامر الإيرانية بوجوب الانخراط المباشر في المعركة. قبل أيام، نشر الإعلامي المصري المخضرم "أسعد طه" مقالاً بعنوان "حزب الله وأنا.. وقائع ما جرى"، وكأنه أراد فيه أن يبرئ تجربته المهنية الثرية، مما قد يتبادر إلى ذهن الشباب من انحياز إلى جانب الحزب، فالإعلامي الذي ذاق مرارة الهزيمة المؤلمة عام 1967 لم يشعر بنشوة الانتقام إلا بعد عشرات السنين عندما أتاح له حزب الله التغلغل في جبهات القتال بجنوب لبنان ويوثق بعدسته استماتة عناصره على الشهادة، ليقف موقفاً صعباً في نهاية المقال أمام التناقضات الملحة ويتساءل "كيف يتوضأون ثم يغرسون الرصاصة في قلوب الأبرياء (السوريين)؟"، ومجيباً على تساؤلات من يطالبه بالندم بأن مهنيته اقتضت نقل الصورة كما كانت دون انحراف كما "انحرفت" بندقية حزب الله. قد يكون هذا التبرؤ مُيَسَّراً في حسابات كاتب وإعلامي حر يمارس مهنته، لكنه أمر مقعد للغاية في حسابات حركتي حماس والجهاد الإسلامي، فالموازنة هنا لا تقتضي فقط قصر الرؤية السياسية على العدو الأوحد (إسرائيل) وتجنب خوض معارك جانبية -مع إيران مثلاً- بل ينبغي على التصريحات والمواقف المعلنة أن ترضي أيضاً الرأي العام السني الذي انقلبت معاييره تجاه الشيعة وإيران في السنوات الأخيرة، وسيدور هنا جدل لا ينتهي بشأن مدى حاجة هذه الفصائل لمداهنة إيران، فهناك من يزعم أن الفصائل مضطرة لتلقي الدعم منها في ظل المقاطعة السنية العربية المؤسفة، بينما يستند آخرون إلى تسريب صوتي للقيادي بحماس "موسى أبو مرزوق" وهو يؤكد أن إيران لم تقدم لهم شيئاً منذ 2009، ليتساءلوا: لمَ المداهنة إذن؟! وأخيراً، جاءت تصريحات "راشد الغنوشي" وتوضيحاته اللاحقة لتكشف بوضوح عن أولويات العقلية المخضرمة، فالثورة الخمينية ما زالت في عين الكثيرين تجربة ملهمة، والتعايش المذهبي ممكناً ما دام العدو المشترك هو إسرائيل، وعليه فإن المشكلة تكمن في "انحراف البندقية"، والتي يمكن إعادتها إلى جادة الصواب إذا ما تمكن أمثال "محمد خاتمي" و"علي الأمين" و"صبحي الطفيلي" من قيادة الدفة وتقليص الهوة. لكن الأمر مختلف جذريًّا لدى جيل الشباب الذي أشعل الثورة وانخرط مضطرًّا في معركة مصيرية مع المحور الشيعي، ولا سيما لدى من لم يبلغ الثلاثين من العمر ولم يعاصر معارك حزب الله ضد إسرائيل بوعي كاف. فما رآه هذا الجيل خلال خمس سنوات من وحشية الطائفيين لا تضاهيها كل التجارب المرة لمعارك المخضرمين مع إسرائيل، ولا التجارب السابقة أيضاً مع أنظمة الطغاة العسكريين. فالإجرام المرتبط جذريًّا بالطائفية الشيعية وعقيدة التمهيد للمهدي المزعوم؛ بات منتشراً بكثافة غير مسبوقة على الإنترنت، بما يكفل لكل شاب سني أن يتخذ موقفاً لا مهادنة فيه، وهو أمر ربما لم يتوفر لدى الجيل السابق سوى لمن شهد التعذيب بنفسه في سجون حافظ ورفعت الأسد أو عانى بنفسه من الحملات الأمنية والعسكرية في مناطق محدودة مثل حماة وحلب، والتي لا تقاس قسوتها ومدى اتساعها بما يحصل اليوم. المخضرمون ما زالوا يضعون "الإسلاميين" كلهم في كفة واحدة بمقابل القوميين والشيوعيين والصهاينة، لذا فإن السياسيين من أصحاب اللحى والعمائم السوداء ليسوا في نظرهم سوى "إسلاميين" ولكن بلون مختلف، واختلافهم لا يعدو كونه اختلافاً مذهبيًّا وعقائديًّا كما هو حال الفِرق الإسلامية الأخرى، أما القتلة منهم فيوضعون في خانة التطرف الذي يشمل جماعات سنية أيضاً. وهكذا لا يجد المخضرمون مشكلة في وضع أيديهم بيد "الثورة الإسلامية" الخمينية، وحزب الدعوة العراقي، وحزب الله "المقاوم" اللبناني، طالما كان هؤلاء يرفعون راية "الجهاد" ضد إسرائيل والشيطان الأكبر، وأي قتل طائفي أو تعاون مع المحتل يُبرر بأنه مجرد انحراف ناشئ عن أجنحة طائفية يمكن عزلها. أما الشباب فيصرون على أن الشيعة مرتبطون عضويًّا بإسرائيل والغرب، وأن شعارات المقاومة لم تكن سوى خدعة تاريخية كبرى، وأن ما يجري على الأرض من إرهاب وإجرام يكفي لعدم الاكتراث لكل تصريحات الإصلاحيين والمعتدلين من الشيعة، ولعدم تصديق شيء مما يقوله الطفيلي وأمثاله. نحن إذن أمام رؤيتين لعصرين مختلفين، ولا أظن أن أحداً من الفريقين سيتمكن من التأثير في رأي الآخر، وكما هو حال الصراع الطبقي والحراك الاجتماعي والحروب الطائفية، فإن أفكار الأجيال المتعاقبة تتصارع أيضاً، وقد يكون الصدام عنيفاً عندما يتعلق الأمر بقضايا مصيرية ملوثة بالدم، ولا أستبعد أن ينشأ عن ذلك طمس عنيف لتراث المخضرمين ونضالهم، فالأجيال الثورية تميل غالباً لاتخاذ مواقف فاصلة لا رحمة فيها ولا مهادنة.