مناف قومان: الجنيه المصري وخيارات التعويم

يعلو صوت مطلب التعويم الحر للجنيه المصري من قبل مؤسسات ورجالات اقتصاد داخل وخارج المجتمع المصري على سبيل الحل للخروج من الأزمة التي تعصف بسعر صرف الجنيه المصري مقابل العملات الأجنبية، حيث ارتفع سعر الصرف مقابل الدولار إلى نحو 9.75 جنيه لكل دولار في السوق السوداء في حين أنه لا يزال في السوق الرسمية عند 7.83 جنيه لكل دولار منخفضا بنسبة 25% من قيمته عن 5.80 جنيه في عام 2011، فإلى أي مدى يُعتبر مطلب التعويم الحر للجنيه صحي في الوقت الراهن؟

جواب محافظ البنك المركزي المصري “طارق عامر” كان واضحًا لأولئك الذين يطالبون بذاك المطلب، حيث أجاب عندما سُئل عن ذلك : ” حاليًا لا، ولكن من الممكن التفكير بالتعويم إذا وصل حجم الاحتياطي الأجنبي بين 25 و 30 مليار دولار”، علمًا أنه الآن يدور في فلك 16.5 مليار دولار متراجعًا 50% عن مستويات ديسمبر من العام 2010.

فحوى رفض المحافظ لاقتراح التعويم الحر الآن هو الخوف من الضغوط التضخمية التي ستتبع العملية في ظل اقتصاد مترهل وسوق صرف هش، حيث يعاني ظروف حالية متردية بسبب انخفاض معدلات النمو وارتفاع نسبة البطالة وتدهور مصادر التمويل الأجنبي نتيجة انخفاض عائدات السياحة وقناة السويس والصادرات، وتقلص المساعدات الخارجية وتخارج رؤوس الأموال هاربة إلى الخارج بسبب تردي الأوضاع.

يتّبع المصرف المركزي سياسة التعويم المدار لتحديد سعر الصرف حيث تسمح لصناع السياسة النقدية بالتدخل في السوق في أوقات معينة لضخ كتل دولارية من أجل تغطية الطلب على الدولار، وقد ضخ المركزي في السوق مئات الملايين من الدولارات خلال أوقات متفرقة كان آخرها في 6 مارس/ آذار حين طرح في مزاد استثنائي 500 مليون دولار بسعر 7.73 دون أي بوادر لانحسار الأزمة، بل على العكس قفز الدولار إلى 9.80 جنيه، علمًا أن المركزي كان يتدخل بشكل دوري 3 مرات أسبوعيًا بمبالغ تقدر بنحو 40 مليون دولار.

أما في حال تم تبني سياسة التعويم الحر، فإن البنك المركزي سينسحب من آلية تحديد سعر الصرف ويتركها لقوى السوق العرض والطب فمن خلال تفاعلهما يتم تسعير الجنيه بالقيمة الحقيقية، وحسب الخبراء فإن تبني هذه السياسة في الوقت الراهن سيدفع بالجنيه إلى حدود 12 – 13 جنيه مقابل الدولار، بسبب الطلب العالي على الدولار في السوق. وسيؤدي إلى ارتفاع في المستوى العام للأسعار بشكل يرفع معدل التضخم أكثر مما هو عليه الآن عند 10.1%.

وارتفاع الجنيه إلى مستويات مثل 12 جنيه للدولار سيرفع من قيمة الواردات التي شكلت نحو 80 مليار دولار في العام الماضي، بالتالي انفلات أسعار السلع المستوردة والسلع المنتجة محليًا التي يعتمد تصنيعها على سلع مستوردة، وهذا يُحمّل المستهلك من ذوي الدخل المحدود والفقراء عبء هذه الارتفاعات، أضف إلى ذلك الصناعات المحلية التي تعتمد على سلع أولية مستوردة سينخفض إنتاجها وتنخفض تنافسيتها فتضطر لتخفيض عدد العاملين  من أجل خفض التكاليف ما يزيد من معدلات البطالة. فضلًا عن ازدياد نسبة الدّين على الناتج الإجمالي المحلي التي تسجل الآن نحو 90%.

المعلوم أن الدول تستخدم خفض قيمة العملة من أجل تشجيع الصادرات وتحفيز السياحة، وفي مصر العجز التجاري بازدياد نتيجة انخفاض الصادرات مقابل ارتفاع الواردات حيث استوردت مصر في عام 2015 ما قيمته 80 مليار دولار وصدّرت ما قيمته 13.8 مليار دولار حتى نهاية سبتمبر، وأما السياحة فارتفعت تكلفتها من جراء الرسوم الإدارية والضرائب وارتفاع تكلفة التمويل التي عمدت شركات السياحة تحميلها على السائح فضلًا عن التهديدات الأمنية التي لحقت بالموسم بعد إسقاط الطائرة الروسية في شبه جزيرة سيناء. بالتالي انخفاض قيمة العملة إلى مستويات غير مدروسة (بعد تعويم سعر الصرف) سيؤدي لتفاقم الأزمة أكثر.

فالتعويم الحر ينصح به في حالة الاستقرار وهي سياسة صرف مفيدة من حيث أنها تحد من نشاط وتوسع سوق الصرف الموازي عن طريق تحسين وتكثيف العمليات التي تمارسها البنوك الخاصة بالتحويل والصرف بأقل تكلفة، ويخفّض تكلفة الاستثمارات والسياحة بالنسبة للأجنبي فيجذب استثمارات أجنبية مباشرة وينشّط حركة السياحة، وعادة ما  تلجأ الدول لهذه السياسة عندما تحقق اكتفاء (أو شبه اكتفاء) زراعي وصناعي ويتوفر لديها احتياطي أجنبي ومصادر مستقرة تُدر عليها العملات الأجنبية.

والنقطة الجوهرية في تبني هذه السياسة أنها يجب أن تُبنى على أساس تحسّن أداء المؤشرات الاقتصادية الأساسية وهي: “معدل نمو اقتصادي إيجابي، معدل تضخم منخفض، رصيد إيجابي لميزان المدفوعات، ومعدل بطالة منخفض جدا”، في حين أن الاقتصاد المصري يعاني من ركود ومعدل تضخم عالي ورصيد سالب لميزان المدفوعات ومعدل بطالة مرتفع وعليه فإن قرار تبني هذه السياسة قرار خاطئ وقد يقود الاقتصاد إلى هاوية.

وبالإضافة لما سبق فإن التحول نحو سعر صرف مرن (التعويم) يحتاج من سوق الصرف أن تتوفر فيها العمق والسيولة، فتطبيق نظام سعر الصرف المرن يتطلب وجود سوق للنقد الأجنبي على درجة كافية من السيولة والكفاءة تسمح باستجابة سعر الصرف لقوى السوق، ويحد من التقلبات المفرطة في السعر عن سعر الصرف الحقيقي للعملة. إلا أن سوق الصرف المصري شحيح بالعملات الأجنبية ويعاني من الضحالة وعدم الكفاءة ومحدودية أسواق تداول النقد الأجنبي بين البنوك، فضلا عن الضربات الموجعة لمولدات الدولار في الاقتصاد وأهمها السياحة والاستثمار.

وتوفر نظم فعالة لتقييم وإدارة مخاطر سعر الصرف في القطاعين العام والخاص، فعند الانتقال إلى سعر الصرف المعوم تنتقل مخاطر سعر الصرف من البنك المركزي إلى القطاع الخاص الذي توكل له مهمة تسعير العملة، وتتركز مهمة المركزي في مراقبة الأسعار وتجميع المعلومات لرصد مصادر الخطر المختلفة في أسعار الصرف بما في ذلك مصادر واستخدامات التمويل بالعملات الأجنبية، بالاضافة الى الإجراءات ذات الصلة بالمخاطر الداخلية وتشمل فرض القيود على تركز الاقتراض بالعملة الأجنبية، والرقابة الإحترازية لمخاطر النقد الأجنبي.

يبدو أن رؤية طارق عامر محافظ المركزي في عدم اتباع سياسة التعويم الحر في هذه الظروف الحالكة صحيحة ولكنها مؤلمة في الوقت الحالي إلا أنها قد تثمر على المدى البعيد. فخفض الجنيه بشكل تدريجي من قبل المركزي سيعيد الاستثمارات الأجنبية وينعش السياحة المصرية مستقبلا لو ترافق ذلك مع إصلاحات اقتصادية، وهذا يسهم في رفع معدلات النمو. والثابت هنا أنه لا يوجد نظام سعر صرف يناسب جميع البلدان في كل الظروف، وعليه فمقارنة أزمة الجنيه المصري مع أزمة أخرى قد تكون مجحفة بعض الشيء.

وما يقوم به المركزي المصري هو الحفاظ على احتياطيات الدولار لديه من خلال خفض تدريجي لقيمة الجنيه لتقليص الفجوة مع السوق الموازية قدر المستطاع، وتحويل التدخلات الدولارية التي يقوم بها من السوق الموازية إلى البنوك مع إصدار تعليمات لها بقصر تمويل الواردات على السلع الأساسية من وقود وغذاء فقط، ورفع الرسوم الجمركية على السلع الكمالية من أجل تخفيض فاتورة الواردات لتقليص عجز الميزان التجاري وتخفيف الضغط على احتياطي الدولار.

والخلاصة حتى يكتب النجاح  لتعويم الجنيه لابد أن يتزامن ذلك مع مراحل إصلاح اقتصادي حقيقي وشامل يتضمن تخفيض الواردات ورفع الصادرات وإعادة الثقة بالمنتج المحلي والصناعة الوطنية للإستعاضة بها عن السلع المستوردة، وتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تستوعب وظائف كثيرة وتسهم في تخفيض معدل البطالة، وجذب استثمارات أجنبية وتحسين السياحة التي ستؤدي إلى مراكمة احتياطيات من النقد الأجنبي، وإعادة الاعتبار لمعدل التضخم لإن التضخم من أكثر العوامل التي تؤثر سلبًا على القيمة الحقيقية للعملة وللقوة الشرائية لها والتحكم الصارم به سيمكن من تعزيز الثقة في تداول العملة وتشجيع الطلب عليها وتحسين سعر الصرف، وبدون هذه الأمور لا يمكن أن يتحسن الاقتصاد ولا سعر صرف العملة.

*مناف محمود قومانطالب ماجستير اقتصاد سياسي بمعهد دراسات الشرق الأوسط والعالم الإسلامي بجامعة مرمرة بإسطنبول.