سلامة كيلة يكتب: خمس سنوات على الثورة السورية.. مقدمات وأجواء وتحولات



سلامة كيلة

التباسات الثورة السورية كثيرة، وسوء الفهم هو الذي طالها، ولا زال الأمر ملتبساً ومشوّشاً، وربما أكثر من ذلك، حيث يصطف اليسار العالمي إلى جانب النظام، وتقف القوى الإمبريالية معه، أو تناور لمصلحته، وهكذا الدول الإقليمية. لهذا، لا بد من تحديد السياق التاريخي الذي انفجرت فيه، والظروف التي أحاطت بها، حيث ليس من الممكن فهمها من دون فهم ذلك كله. وبالتالي، لا يمكن فهم المسار الذي اتخذته، والواقع الذي وصلت إليه من دون ذلك. ولا شك في أن كل الثورات العربية تأثرت بالظروف العالمية والمحلية، وأصلاً كانت نتاج بعضها. لكن، كان الأمر أكثر تعقيداً في سورية.

الأزمة المالية العالمية في 2008

شكّل انفجار الأزمة المالية في سبتمبر/ أيلول سنة 2008 نقطة تحوّل عالمي، فهي ليست أزمة مالية عابرة، خصوصاً وأن النمط الرأسمالي بات يخضع لسيطرة الطغم المالية، بعد أن أصبح “اقتصاد المضاربة” هو الأساس في الاقتصاد الرأسمالي، فقد أصبحت أسواق الأسهم والمديونية والمضاربة على النفط والسلع والعملة، وسيادة “الاستثمار قصير الأجل”، هي السمات الطاغية في النمط الرأسمالي، وهذا ما جعله اقتصاداً أزموياً (أو مأزوماً)، نتيجة الآثار التي يتركها هذا النمط من النشاط الاقتصادي على بنية الرأسمالية، ما يسمح بنشوء “الفقاعات”، نتيجة التراكم التضخمي المتسارع.

لقد أظهر انفجار الأزمة تلك مدى التعقيد الذي باتت تعيشه الرأسمالية، ومدى الضعف الذي بات يحكمها. لأن سيادة الاقتصاد المالي على الاقتصاد الرأسمالي يؤدي إلى احتلالات كبيرة، ليس من الممكن ضبطها، بالضبط بفعل التراكم التضخمي الذي ينتج عن اقتصاد المضاربة والديون والاستثمارات قصيرة الأجل. وإذا كانت الأزمات الرأسمالية السابقة تجد حلاً لها، وكانت أزماتٍ ناتجةً عن مشكلات فيض الإنتاج، فإن الأزمة الراهنة التي أتت نتيجة “فيض الأرباح” لا يبدو أن هناك إمكانية لحلها. هذا ما ظهر بعد سنوات من الأزمة، وظهر أن احتمالات تكرارها كبيرة وحتمية. وإذا كانت قد أصابت الاقتصاد الأميركي، فقد أثّرت في مجمل الاقتصاد الرأسمالي. وبالتالي، يمكن القول إن هذا الاقتصاد بات معرّضاً لأزماتٍ مستمرة، متكرّرة، وربما تكون أسوأ من الأزمة السابقة.

وتعيش أوروبا أزمة ديون “دول الجنوب” (اليونان وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال)، وهي مهدّدة بانهيار كبير كذلك نتيجة احتمالات عجز تلك الدول عن سداد ديونها. وبات الحل يقوم على فرض سياسة تقشّفٍ، تلقي ملايين العمال والموظفين والفلاحين في الفقر. وكذلك تعيش بلدان أوروبا الشرقية أزمات كبيرة نتيجة الإفقار الذي تعمم فيها.

هذا الوضع يعني أن النمط الرأسمالي ككل مأزوم، وأن الرأسمالية باتت عاجزةً عن حل أزمته، لأنها تتعلق بتضخم مرضي في القطاع المالي. ولضرورة تحقيق التراكم المتصاعد والمتضخم، يجب نهب المجتمعات، بما في ذلك المجتمعات الرأسمالية نفسها. وهذا ما يجعل الانفجارات الاجتماعية وتفجّر الصراع الطبقي ممكناً، بل حتمياً. لقد بات العالم “على صفيح ساخن”، وباتت احتمالات الثورة كبيرة، ليس في منطقة واحدة فقط، ولا في الأطراف فحسب، بل حتى في البلدان الرأسمالية نفسها. إذن، تشهد الرأسمالية أزمةً عميقةً لا حل لها، وما قامت به الطغم الرأسمالية هو السعي إلى إدارتها، حيث يجري تأخير حدوثها أو تخفيف آثارها. ليبدو العالم على أبواب ثوراتٍ كبيرةٍ، نتيجة ذلك، ونتيجة السياسة التي تستخدمها الرأسمالية، ليس من أجل حل الأزمة، بل من أجل زيادة التراكم المالي عبر الديون والنهب والمضاربات، والتي تتمثل في سياسة التقشف، وخصخصة “كل شيء”، بما يلقي كل العبء على الشعوب.

ولا شك في أن انفجار الثورات العربية كان نتيجة تلك الأزمة، بعد مسار من الانهيار الاقتصادي، بدأ من سبعينات القرن العشرين، وهدف إلى نهب “القطاع العام”، والمجتمع، وتحكّم الطغم الإمبريالية ورأسمالية مافياوية محلياً. وهي حالةٌ، يمكن أن تحدث في بلدان أخرى، في حال حدوث أزمات جديدة. هذا الوضع هو الذي كان يجعل الرأسمالية قلقة، وتخاف الانفجارات الاجتماعية. في المقابل، هي عاجزة عن تخفيف نهبها، لأن الطابع التضخمي للتراكم المالي يفرض زيادة النهب، وليس تخفيفه. لهذا وجدنا أن سياسة توسيع الخصخصة وزيادة الأسعار والضرائب والنهب زادت بعد الثورات، على الرغم من أن الفقر والبطالة والتهميش كانت كلها في أساس هذه الثورات.

ولا شك في أن انفجار الثورات العربية كان يؤشّر إلى الأخطار التي باتت تحيق بالرأسمالية. لقد أشّرت إلى آثار الأزمة التي لا حل لها، وبالتالي، إلى إمكانية انتشارها عالمياً.

ثانياً: التوضُّع الجديد لأميركا

ضربت الأزمة أميركا بالأساس، فهي مركز التراكم المالي، وحيث تظهر هيمنة الطغم المالية. وإذا كان واضحاً أن أميركا تعيش أزمة منذ سبعينات القرن العشرين، كان يجري تحديدها في ثلاث عناصر: العجز في الميزان التجاري، حيث باتت تستورد أكثر مما تصدر، والعجز في الميزانية، حيث باتت تنفق أكثر من مدخولها كدولة، وتراكم المديونية بشكل كبير. إذا كان واضحاً ذلك، فقد ظهرت أزمة الاقتصاد عبر حالات الإفلاس المستمرة، ومن ثم تمركز الشركات، وتزايد دور المال، بعد أن تضخّم التراكم المالي على حساب الاقتصاد الحقيقي. وهو ما دفع بعد انهيار الاشتراكية إلى محاولة السيطرة المباشرة على العالم عبر الحروب. وعلى الرغم من احتلالها أفغانستان والعراق، وتوسيع قواعدها في العالم، لم تمنع انفجار الأزمة سنة 2008. فقد أصبحت أميركا المثال على هيمنة المال على الرأسمال، وهذا ما ظهر في انفجار أزمة الرهن العقاري التي أوضحت تضخم القروض، من دون ضمانات كافية.

كان واضحاً أن تجاوز الأزمة ليس ممكناً، وأن ما هو ممكن هو إدارتها، مع توقّع حدوث أزمات أخرى، فالفقاعات كثيرة، ويمكن، في كل لحظة، حدوث ما يؤدي إلى انفجارها. ولقد أدت الأزمة إلى كشف ضعف القدرة المالية للدولة الأميركية، بعد أن باتت المديونية تساوي الدخل القومي. وهو ما فرض إعادة النظر في كل الوضعية التي عملت على أساسها الإدارات الأميركية، منذ انهيار الاشتراكية، حيث سعت أميركا إلى مدّ سيطرتها، لكي تشمل العالم، من أجل التحكم بالنفط والأسواق والمواقع الإستراتيجية، وضمان تنافس لا متكافئ مع الرأسماليات الأخرى، يصبّ في مصلحتها، لتعديل كلية وضعها الاقتصادي. لقد سعت لكي يكون العالم أحادي القطب، ومتحكماً به، بلا منافسين. وهي السياسة التي بدأت بالحرب على العراق سنة 1991، وامتدت إلى سنة 2008، حيث انفجرت الأزمة.

أدى الفشل في حل الأزمة، ومن ثم العمل على إدارتها، إلى تغيير كبير في المنظور الأميركي للعالم. لم تعد تعتقد أن في مقدورها السيطرة وفرض أحادية القطب، حيث فرضت الأزمة تقليص ميزانية الجيش، وتخفيض عديده. وبالتالي، بات عليها أن تعيد النظر في توضعها العالمي بما تسمح به قدراتها، وعلى أساس ما تعتقد أنه أولوية لها. لهذا، أقرّت إستراتيجيةً تنطلق من أن أولويتها هي منطقة آسيا والمحيط الهادي (الباسيفيك)، لأنها اعتبرت أن الخطر الممكن ربما يأتي من الصين، التي تتقدّم بشكل لافت، ولقد باتت القوة الثانية على الصعيد الاقتصادي. مما جعلها تمركز قواتها هناك، وتوصلت، أخيراً، إلى عقد شراكة إستراتيجية مع عدد من دول المنطقة.

كانت هذه الإستراتيجية تبعدها عن “الشرق الأوسط”، ما دامت قد نقلت أولويتها، من دون أن تكون بلدان الخليج العربي (وبضمنها العراق) مشمولة بذلك، حيث ظلت تخضع لمبدأ كارتر الذي يعتبرها جزءاً من الأمن القومي الأميركي. بالتالي، قرّرت الإدارة الأميركية سياسة “انسحاب تدريجي”. وضمن هذه الوضعية، باتت تسعى إلى بناء تحالفاتٍ جديدة على ضوء الخوف من “الخطر الصيني”. وهنا، باتت معنية بتطوير علاقاتها مع روسيا، وأيضاً مع إيران، على الرغم من الخلافات التي كانت لا زالت قائمة معها، والتي لا زال بعضها قائماً.

ما يمكن قوله هنا هو أن إستراتيجية بوش الإبن قُبرت، وتراجع الاهتمام بالمنطقة العربية نسبياً، وبات منظورها لا مبالياً بشكلٍ ما. كل ذلك بمعنى التمسك بالسيطرة على الدول، كما كان الأمر في السابق. بالتالي، تراجع اهتمامها بالسيطرة عليها، على الرغم من أن تراجعها لم يكن سريعاً، وليس بدون تدخلات.

ثالثا: تموضع النظام

كانت سياسة بوش الإبن تدفع النظام السوري إلى الخلاف معها، حيث كان الهدف هو تغيير النظام وفرض نظام “طوائفي” تحكمه “السنّة”. ولهذا، ظهر أنه جزء من محور “مناهض” لأميركا، وهو ما أسمي محور “الممانعة”، وضم تركيا وقطر وإيران والنظام في مقابل المحور الاعتدال الذي كان بقيادة السعودية، وبدعم أميركي. ولقد أظهر اغتيال رفيق الحريري هذا التناقض بين المحورين، وأظهر أن أميركا تريد تغيير النظام، على الرغم من سعي “رجال الأعمال الجدد” المشكّلين من العائلة وروابطها (الأسد، مخلوف، شاليش) إلى فتح الخطوط معها، وتحقيق التفاهم الضروري لاستمرار النظام.

ظهر سنة 2005 أن أميركا والسعودية يعملان من أجل تغيير النظام، مستفيدين من مقتل رفيق الحريري، الذي أفضى إلى انسحاب القوات السورية من لبنان، وتصاعد الضغط الدولي عليه. لكن، فشل التغيير، وأفضت الأزمة المالية إلى نجاح باراك أوباما، الذي أتى بسياسة جديدة، قامت على التهدئة في “الشرق الأوسط”، والانسحاب من العراق، وتجاوز الصراع الذي كان يبدو أنه ضد الإسلام.

وإذا كان النظام يتمترس خلف “محور الممانعة” المتشكل من تركيا وقطر وإيران، فقد سارع إلى التجاوب مع سياسة أوباما الجديدة. لهذا، أخذت تتطور العلاقة بين البلدين خلال سنة 2009 وسنة 2010، إلى الحدّ الذي جعل سفير النظام في واشنطن، عماد مصطفى، يعبّر عن فرحه للتطور الذي شهدته العلاقة بين البلدين. انتهى اهتمام أميركا بسورية، لهذا جرى التخلي عن سياسة بوش الإبن، وهو ما سمح بإعادة العلاقات وتطورها بشكل سريع.

مع السعودية التي كانت أكثر تأثراً باغتيال “صديقها” الحريري، فقد شهدت سنة 2010 أيضاً تحسناً في العلاقات خلال مؤتمر القمة العربي في الكويت. فقد التقى الملك عبدالله بن عبد العزيز بشار الأسد، وعطف عليه، وقرّر دعم سورية مالياً. طبعاً، لم تكن إيران المتحكم بالنظام الأساسي حينها، بل كانت كل من تركيا وقطر الدولتين الأكثر تأثيراً على النظام. ويبدو أن السعودية كانت تعرف أنها قادرة على جذب النظام إلى جانبها، بعد أن أخذ الخلاف مع قطر يتصاعد.

في هذا الوضع، يكون النظام قد حسّن علاقاته الدولية والعربية (كانت روسيا خارج المعادلة حينها)، وأخذ يرتب وضعه على أساس علاقات جيدة مع أميركا التي كان طموح المافيا الجديدة تطوير العلاقات معها منذ البدء، ومع السعودية التي ظلت حليفاً للنظام منذ أيام حافظ الأسد، ولم يخرّبها سوى قتل رفيق الحريري. وبالتالي، استقبل النظام سنة 2011 وهو في وضع مريح خارجياً. وكان محور الممانعة يتلاشى، في مواجهة تلاشي المحور الآخر.

بهذا، لم يكن النظام حين بدأت الثورة في تناقض مع أميركا ولا مع السعودية، وكان في علاقات “حميمة” مع كل من تركيا وقطر، وعلاقات ثابتة مع إيران. وبالتالي، كان يتكسر الحصار الذي فرضته أميركا حوله منذ سنة 2005، وينفتح على العالم، محسّناً من وضعه وتموضعه. وكان يعتبر أن وضعه “الطبيعي” أن يكون في علاقة جيدة مع أميركا، القوة المسيطرة عالمياً، والتي جهد، منذ ما بعد احتلال العراق، إلى تأسيس علاقة وثيقة معها. بالضبط، لأن نشاط المافيا الاقتصادي الذي يتحقق خارج سورية من الأموال التي تنهبها منها، يجب أن يجد ظروفاً مناسبة، لا أن يقع تحت بند العقوبات الأميركية، كما حدث منذ سنة 2005 واستمر إلى سنة 2010.

رابعاً: تتالي الثورات العربية

إذا كانت الرأسمالية تعيش أزمة عميقة، واحتقاناً قابلاً للتفجّر. وكانت أميركا نتيجة أزمتها قد أخذت تنسحب من الشرق الأوسط، ومن ثم كان النظام السوري قد أعاد ترتيب علاقاته العربية والدولية. فإن نشوء الثورات وامتدادها من تونس إلى مصر واليمن والبحرين وليبيا ثم سورية، وانتشار الحراك في الجزائر والمغرب وعُمان والأردن والعراق، قد أوجد حالةً من الخوف لدى دول إقليمية مثل السعودية وحتى إيران، ودولية مثل روسيا وخصوصاً أميركا. فالحالة تخيف نتيجة هذا الامتداد السريع، والذي يعني أن الثورات من الممكن أن تتوسّع في عالم يعيش أزمة عميقة، وأطراف نهبت خلال العقود السابقة بشكل مشابه.

باتت أزمة الرأسمالية التي تفجرت في المركز تلقي بظلالها في الأطراف، وهذا ما يجعل انفجار الثورات العربية مؤشراً على خطر قادم، خطر توسّع الثورات إلى بلدان أخرى، مهيأة للثورة، بعد أن نهبت وأُفقرت وهُمّشت. وأيضاً، كان امتدادها العربي يخيف دولاً، مثل السعودية، من انتقال الثورة إليها، نتيجة وجود ظروف اقتصادية اجتماعية (البطالة والفقر والتهميش) مشابهة.

هذا ما يوضّح طبيعة التعامل المختلف بين الثورات الأولى (تونس ومصر) والوسطى (اليمن والبحرين) والأخيرة (ليبيا، وخصوصاً سورية). فقد عملت الإدارة الأميركية على تحقيق تغيير سريع في كل من تونس ومصر، من أجل إنهاء الثورات بسرعة، حتى وإنْ كان ذلك على حساب إبعاد الرئيس. كان الهدف هنا هو منع تفاقم الثورة، وإنهائها قبل أن تمتدّ إلى بلدان أخرى. لقد أرادت “إطفاء الحريق” بالسرعة الممكنة، لكي لا يتوسّع إلى بلدان أخرى. حدثت هذه المحاولة في البحرين، حيث سحقت قوات “درع الجزيرة” السعودية الاحتجاجات، وفي اليمن عبر “المبادرة الخليجية”. وفي ليبيا، تقرَّر تدخل حلف الأطلسي عبر الطيران. لكن، يبدو أن الأمر بات بحاجة إلى شكل آخر، بعد أن استمرت الثورة في سورية، وباتت تهدد النظام، حيث يبدو أن أميركا كانت تعتقد أن النظام قادر على سحق الثورة.

أصبح مطلوباً وقف المدّ الثوري في سورية، وقف هذه الموجة التي كانت لا زالت تتوسع عبر الحراك في العراق والأردن والمغرب، واستمرار الثورة في اليمن، على الرغم من محاولات الالتفاف السعودية. بات الهدف وقف المدّ الذي انطلق من تونس، لكي لا يتوسع إلى بلدان أخرى، وكانت السعودية مهيأة لذلك، نتيجة انتشار البطالة والفقر والتهميش، وبالتالي، باتت هي المعنية أكثر في وقف هذا المدّ. باتت معنية بوقف الثورة في سورية وسحقها، هذه كانت أولويتها، وأساس سياستها منذ 15/ 3/ 2011. فالخطر بات ليس إيران، كما كان يروَّج، ولا تحالف النظام مع إيران كما كان يُكرَّر، بل الثورة. وعلى أساس ذلك، بنت سياستها التي قامت على مساعدة النظام في افشال الثورة. هذه نقطة مهمة، بغض النظر عن كل التصريحات التي كانت تُطلق، على الرغم من أن الموقف السعودي في السنة الأولى لم يكن واضحاً، أو داعماً للمعارضة السورية، حدث ذلك فقط نهاية سنة 2012، بعد أن صدرت مبادئ جنيف1، وجرى ترتيب المعارضة الخارجية، بما يجعلها توافق على تلك المبادئ، ومن ثم جرى تحويل “الملف السوري” من قطر إلى السعودية. وتغيّر نحو دعم بعض أطراف المعارضة بعد التدخل العسكري الإيراني، عبر حزب الله ثم مباشرة. لكن، في كل الأحوال، كان الهدف السعودي منع انتصارها عبر التزام السياسة التي قرّرها النظام، بإظهار أن الثورة “حراك سنّي”، ومجموعات سلفية إرهابية. فكان دورها تحويل ثورة الشعب إلى حراك سنّي، والكتائب المسلحة إلى مجموعات أصولية.

تطور الأمر مع استمرار الثورة، وتصاعد وحشية السلطة، وإدخالها المجموعات الأصولية طرفاً في الصراع، لتأكيد خطابها المسبق، لكن لتخريب بيئة الثورة، واختراق هذه البيئة عبر تلك المجموعات. وأيضاً استخدام كل أنواع الأسلحة ضد الشعب، والإيغال في القتل والتدمير. فقد بات منذ سنة 2013 ودخول قوى إيران الصراع ضد الشعب، أن أميركا خصوصاً، وكل الرأسمالية التي تخاف الثورات، باتت معنيةً بتحويل الثورة إلى مجزرة، لكي تكون مثالاً لكل شعوب العالم المفقرة والمضطهَدة، والتي تتحفز للثورة، بما يردعها. كانت الرأسمالية بحاجة إلى مثال، مثال كيف أن كل تمرُّد على النظم والرأسمالية يقود إلى مجزرة.

ربما هذا هو ما دفع أميركا لتسهيل دور داعش والنصرة في خدمة النظام، ومن ثم لتدخلها بحجة “الحرب ضد داعش”، حيث توسعت بعد هذا التدخل. حيث بدا أن الصراع هو “ضد الإرهاب”، أي “ضد داعش”، وليس صراع شعب ضد نظام من أجل الحرية والعيش الكريم. كل ما بات يركّز عليه الإعلام الغربي هو أن الثورات تقود إلى الفوضى، هذه الفوضى التي تستغل من المجموعات الأصولية، ويتحوّل الصراع إلى “حرب أهلية” و”صراع طائفي”، وعمليات قتل وتدمير وحشية. على الرغم من أن ذلك كله هو “من صنع” النظام والقوى الإمبريالية والدول الإقليمية (السعودية خصوصا، ومن ثم قطر وتركيا).

لهذا، نجد أن الإعلام وخطاب النظام بات ينطلق من أن سورية مثال جيد على كيف أن التمرّد يفضي إلى القتل والتدمير والتهجير، لكي يقول إن قبول الوضع القائم، على الرغم من كل سوئه، أفضل من التمرُّد عليه.

إذا كانت المرحلة الأولى من الثورة قد شهدت تدخلاً إقليمياً لوقفها، وصدّ موجة الثورات التي امتدت من تونس إلى سورية، فقد بات مطلوباً في المرحلة الثانية أن تتحوّل الثورة إلى مجزرة، لكي تكون مثالاً “مبهراً” في العنف والوحشية، يخيف شعوب العالم المتحفّزة للثورة، نتيجة أزمة الرأسمالية، وميلها إلى زيادة إفقار الشعوب، ودفعها إلى البطالة والتهميش. كان عمق أزمة الرأسمالية يفرض أن ينشأ مثال على نتائج كل تمرُّد عليها، مثال وحشي، يهدف إلى ردع الشعوب عن الثورة. إذن، هو مثال “مصنوع”، ككل أفلام هوليود. خصوصاً وأن الرأسمالية مضطرة لأن تزيد في نهبها واستغلالها وإفقارها الشعوب، نتيجة طابعها الذي يتسم بالمضاربة.

بالتالي، ما يجري في سورية هو من صنع متعدّد، على الرغم من كل “التناقض” الذي يبدو بين الأطراف المتدخلة في الصراع، فلم تكن مشكلة أميركا هي “الخلاف” مع النظام (على الرغم من أن الخلاف كان قد انتهى كما أشرنا)، بل كان في الخوف من الثورة. وأيضاً، لم تكن مشكلة السعودية علاقة النظام بإيران (كانت العلاقة قد عادت إلى “طبيعتها”) بل كانت في الخوف من امتداد الثورة إليها. وهكذا إيران وروسيا ودول أخرى ظلت تدعم النظام، علناً أو خفية. تمركز كل الهجوم على الثورة إذن، من كل الأطراف التي رأت في الثورات خطراً عليها، في عالم متفجّر وثوري. وهذا الرد هو نتاج الأزمة العميقة التي تعيشها الرأسمالية، ورد الدول التي نهبت شعوبها وأفقرتها، فقد كانت هناك ضرورة لـ “اطفاء الحريق”، وتحويل نتائجه إلى مثالٍ على ما يمكن أن يفضي إليه كل تمرّد أو ثورة.

خامساَ: طبيعة بنية النظام

كل ما أشرت إليه يتعلق بالوضع الدولي وعلاقة النظام الدولية، والذي كان يؤشّر إلى أن الهدف الرأسمالي كان “إطفاء الحريق”، وأن أميركا كانت تنسحب من “الشرق الأوسط”، على الرغم من أنها باتت معنية بتحويل الثورات إلى مجزرة، وأن النظام السوري كان قد استعاد علاقاته مع أميركا والسعودية، بعد أن كانتا في صدام معه. الآن، لا بد من تلمّس بنية النظام الذي كان يسعى إلى التكيف مع أميركا والرأسمالية، على الرغم من أنه كان مهدداً بالإسقاط من تلك الدول، قبل أن يركن إلى علاقاتٍ جيدة معها. وبالتالي، لماذا كان وضع سورية مشابهاً لأوضاع البلدان التي حدثت ثورات فيها؟

إذا كان النظام “تنموياً”، وكان “القطاع العام هو أساس الاقتصاد، فقد أخذت الأمور تتغير منذ سنة 1991، حيث صدر المرسوم رقم 10 الذي يتعلق بالسير في طريق توسيع دور القطاع الخاص، وتحقيق الانفتاح الاقتصادي. ربما توقفت هذه السياسة نهاية سنة 1996، بعد مرض حافظ الأسد، لكنه عاد بقوة بعد استلام بشار الأسد، حيث ظهر أن الفئات التي نهبت “القطاع العام”، طوال السنوات السابقة، خصوصاً آل مخلوف (خال بشار الأسد) وشاليش (أولاد عمته)، قد تقدّمت، لكي تفرض منظورها الاقتصادي، وتصبح الفئة المسيطرة، ليس في الاقتصاد فقط، بل في الدولة كذلك. فتسرّع في تحقيق الانفتاح الاقتصادي عبر “اقتصاد الصدمة” الذي اكتمل سنة 2007. وقد حدث خلال ذلك تحويل في بنية الاقتصاد، حيث انهارت الزراعة، نتيجة ارتفاع أسعار المازوت والبذور والأسمدة، وحدثت هجرة كبيرة من أهم المناطق الزراعية (منطقة الجزيرة)، كما جرت خصخصة المشاريع الناجحة في “القطاع العام”، وترك المشاريع الأخرى في حالة “موت سريري”، وأدى الانفتاح إلى انهيار صناعات أساسية، مثل النسيج والصناعات الغذائية والأدوية. وتشكّل اقتصاد يقوم على الخدمات والعقارات (بالتشارك مع الرأسمال الخليجي)، وأصبح الاستيراد السمة التي تحكم التجارة بعد تراجع الصادرات، واستيراد السلع التي كانت تنتج محلياً. بالتالي، تحوّل الاقتصاد إلى اقتصاد ريعي، تتحكم به فئة مافياوية عائلية (آل الأسد ومخلوف وشاليش) مع شركاء آخرين، بالتحالف مع البورجوازية التقليدية في دمشق وحلب. وهذا هو التحالف الطبقي الذي بات يحكم سورية بشكل مباشر منذ سنة 2007، وهو التحالف الذي بات يتحكم بنسبة 60 إلى 70% من الاقتصاد (والعائلة كانت تتحكم بنسبة 30%). ليظهر تمركز الثروة بيد أقليةٍ حاكمة، كانت تصدّر أرباحها إلى الخارج، من أجل الاستثمار في الخليج أو تركيا أو أوروبا الشرقية.

في المقابل، ونتيجة تحويل وضع الاقتصاد وتراجع فرص العمل لدى خريجي الجامعات، وصلت نسبة البطالة إلى 30/33% من القوى العاملة. وعلى الرغم من تصاعد أسعار السلع، نتيجة اللبرلة والتحوّل نحو الاستيراد، ظلت الأجور ثابتةً، أو ازدادت بشكل هامشي. فقد باتت أجور “القطاع العام” هزيلة، وكانت أجور القطاع الخاص أهزل، سوى التي تتعلق بالتقنيات الحديثة. لهذا، وحسب دراسةٍ أجريت سنة 2010، كان الحد الأدنى الضروري فيما يتعلق بالأجور هو 620 دولار (31 ألف ليرة)، بينما كان الحد الأدنى القائم هو 140 دولار (6000 ليرة)، ومتوسط الدخل هو 220 دولار (11 ألف ليرة). ولا شك أن هذا يظهر الفارق الكبير بين الضرورة والقائم، ويوضح مستوى الفقر الذي بات يحكم قطاعاً كبيراً من الشعب. وهذا طال العمال وموظفي الدولة وكثيرين من موظفي القطاع الخاص. وكان التشكّل الاقتصادي المشار إليه، وضعف القدرة الشرائية، يفضي إلى تراجع وضع فئات وسطى من المهنيين، الأطباء والصيادلة والمهندسين والمحامين والأساتذة، وانهيار وضع تجار متوسطين، مقابل استفادة فئة من كل هذه الفئات باتت تشكّل جزءاً من التحالف الطبقي الحالكم.

بهذا، باتت فئات فلاحية وعمالية، ومن الفئات الوسطى كبيرة العدد مفقرة، في اقتصاد كان يتحوّل إلى الريعية، ويمركز الثروة بيد أقلية، ويجمّد الأجور في وقتٍ كانت تشهد الأسعار، السلع والخدمات، ارتفاعاً كبيراً، ولا يسمح باستيعاب العمالة التي تدخل السوق سنوياً. لا شك في أن هذا الوضع هو وضع كل البلدان العربية التي شهدت ثوراتٍ وتحركات شعبية، ووضع كثير من بلدان الأطراف.

ربما كان الاختلاف يتمثل، أولاً، في تأخر انتصار اللبرلة (2007)، وثانياً طبيعة السلطة كدكتاتورية شمولية، واجهت معارضيها بوحشية، طوال سنوات حكمها، سواء بالسجن الطويل أو التدمير، كما حدث في حماة سنة 1982. وهيمنته على النقابات والاتحادات، وتفكيكه الأحزاب وتهميشها، وتدمير السياسة في المجتمع. لهذا، كانت ردود الفعل على التحولات الليبرالية ضعيفة، وربما لم تأخذ مداها، حيث بدأت الثورات العربية في 17/12/ 2010. ففي مصر، بدأت اللبرلة، منذ أواسط سبعينات القرن العشرين، وتصاعدت في تسعيناته. وفي تونس، بدأت اللبرلة كذلك منذ السبعينات. وكذلك في المغرب، وفي الثمانينات في الجزائر. وتأخر اللبرلة، مع عنف السلطة، لم يكن يسمح بحراكٍ احتجاجيّ جدي قبيل الثورات العربية، لتأتي الثورات نفسها عنصراً مفجّراً للثورة.

خلاصة

كان الوضع في سورية يشي باحتمالات الثورة. لكن، لم يكن الاحتقان قد تراكم بما يسمح بكسر حاجز خوفٍ بني على العنف والوحشية. لهذا، ساعدت الثورات العربية في تفجرّها. ونتيجة هذا الوضع، استمر توسعها عاماً كاملاً، لكي تصل إلى معظم سورية، أي من درعا إلى حلب.  وتطورت مواجهتها من عنفٍ إلى عنف أشدّ، حيث كان واضحاً أن النظام يريد الحسم العسكري فقط. وكانت طبيعة تكوينه تجعله يسير في هذا الطريق، حيث لا بد للمافيا الحاكمة، وللعائلة التي فهمت أن سورية ملكية خاصة لها، أن لا تقبل “الحل الوسط”، بل أن تسعى إلى الحسم، مهما كان العنف الضروري لذلك، والأساليب التي يمكن استخدامها من أجل الوصول إلى ذلك. ومن ذلك إطلاق “جهاديين” من السجون، لكي تشكّل تنظيمات أصولية إرهابية.

وكان الخوف من انتشار الثورات أكثر قد دفع نظم إقليمية لكي تشتغل على إعاقتها ووقفها. ودفع الطغم الإمبريالية إلى أن تدفع، مستفيدة من وحشية النظام ودخول القوى الأصولية وتدخل دول إقليمية، نحو أن تتحوّل الثورة إلى مجزرة، لكي تكون مثالاً يخيف شعوب العالم من كل ثورة. باتت سورية، إذن، مركز وقف الثورات وتحويلها إلى مجزرة. لهذا، تدخلت كل القوى، الإمبريالية والإقليمية، من أجل إجهاض الثورة وتحقيق ذلك. كانت هذه هي المسألة الأهم بالنسبة للرأسمالية عموماً، وهي الضرورة التي يجب أن تردع الشعوب، في عالمٍ مقبل على الثورات، نتيجة الأزمة العميقة التي تعيشها الرأسمالية.

وإذا كان يُفهم ما جرى في سورية، انطلاقاً من المنظور الذي حكم اليسار في الحرب الباردة، حيث باتت أميركا هي التي تفتعل الصراع في سورية عبر “مؤامرة”، فإن فهم استراتيجية أميركا ما بعد الأزمة يمكن أن تلقي الضوء على دورها ومواقفها. ولقد أشرت إلى أن العلاقة الأميركية السورية عادت “إلى طبيعتها” سنة 2010، والى انسحاب أميركي من المنطقة، فإن الموقف الأميركي كان مربكاً في السنة الأولى من الثورة، لكنه لم يكن يسمح بتدخل دول “حليفة”، مثل تركيا وقطر في الصراع، ومن ثم تفاهم مع روسيا على الحل، وبات يدعم الدور الروسي لرعاية مرحلة انتقالية (كما صرّح باراك أوباما بداية سنة 2012). وحين تدخلت إيران، ولم يستطع الروس تحقيق الحل، جاء تدخلهم غير المباشر أولاً، ثم بشكل مباشر. لكن، من أجل محاربة داعش (كما قالت). ولا شك في أنها شاركت في توسيع دور المجموعات الأصولية، داعش والنصرة، وضبطت ما يمكن أن يرسل من سلاح للكتائب المسلحة، ودعمت الدور السعودي في الأسلمة والسيطرة على المسلحين. بمعنى أن الموقف الأميركي تطوّر من محاولة تحقيق حل روسي ينهي الثورة، إلى دعم تفاقم الصراعات وتحويلها إلى صراعاتٍ طائفية وأهلية، وإرهابية. وما أرادته، هنا، كما أشرنا قبلاً، هو تحويل الثورة إلى مجزرة. لكنها لا زالت تعمل على أن تكون روسيا راعية الحل، والمسيطرة على سورية. على الرغم من الخلافات والاحتكاكات التي تظهر أحياناً، وعلى الرغم من الغباء الروسي الذي يفشل الوصول إلى حلول، فأميركا لا تعتبر نفسها معنية بالسيطرة على سورية، هي تريد العراق. لهذا، لا تعمل في سورية من أجل منافسة روسيا، بل من أجل مساعدتها على السيطرة.

المصدر: العربي الجديد

أخبار سوريا ميكرو سيريا