on
“كيري – لافروف” في مئوية “سايكس – بيكو”!
الذكري المئوية لسايكس – بيكو، تلقي اليوم بظلال ثقيلة على المنطقة، تحسباً لاتفاقات سرية تحاك في هذه المرحلة لتقسيم العراق وسورية على نحو بدأت معه مقترحات الحكم الذاتي أو الفيدرالي تشق طريقها بلا مورابة..
بعد أسابيع قليلة تطل الذكرى المئوية لاتفاقية “سايكس – بيكو” الموقعة في 16 مايو عام 1916. لم تكن تلك ذكرى معطلة تنتظر المئوية، فقد استعادها العرب كثيراً، إلا أنها في هذه المرحلة تستعاد على نحو آخر، يكشف حجم التدهور الذي لازم العرب منذ مرحلة أحلام الوحدة العربية، والتنديد المتواصل بالاتفاقية التي صنعت الدولة القطرية العربية، إلى مرحلة تقسيم المقسم وتفتيت المفتت وذبح العرب على حراب السلاح الفتاك “دويلات الطوائف”.
قسمت تلك الاتفاقية المشرق العربي بين فرنسا وإنجلترا.. تحت مسمى الانتداب، وجعلت نصب عينيها تنفيذ المشروع الأخطر “الوطن القومي لليهود في فلسطين”. لم تكن الاتفاقية صفقة تقسيم بلاد العرب بين المنتصرين في الحرب العالمية الأولى فقط، بل تمخض عنها إصدار وعد بلفور المشؤوم في 2 نوفمبر عام 1917، لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.. حيث فتح باب هجرة اليهود وبناء مؤسسات ومليشيات وترتيب أوضاع تحت عين سلطة الانتداب الإنجليزي.. وحتى إعلان دولة إسرائيل على أرض فلسطين في عام 1948.
الثورة البلشفية في روسيا عام 1917، كشفت تواطؤ روسيا القيصرية مع الدول الاستعمارية في تقاسم ولايات الدولة العثمانية، منذ اتفاقية القاهرة السرية بين جورج بيكو المندوب السامي الفرنسي لشؤون الشرق الأدنى، ومارك سايكس المندوب السامي البريطاني لشؤون الشرق الأدنى، وسازنوف مندوب روسيا القيصرية.. وحتى انتقال هؤلاء الثلاثة إلى مدينة بطرسبورغ الروسية، حيث واصلوا مفاوضاتهم التي انتهت بتوقيع الاتفاقية الثلاثية.
الذكري المئوية لسايكس – بيكو، تلقي اليوم بظلال ثقيلة على المنطقة، تحسبا لاتفاقات سرية أخرى تحاك في هذه المرحلة لتقسيم العراق وسورية على نحو بدأت معه مقترحات الحكم الذاتي أو الفيدرالي تشق طريقها بلا مواربة. ولن يصدق أحد اليوم بأن هذه المنطقة تحتمل أي حكم فيدرالي من أي نوع.. إنه فقط المدخل لمشروع التقسيم الذي توالى الإعلان عنه بطريقة أو بأخرى منذ الغزو الأميركي للعراق، وليصبح جزءاً من سيناريوهات المشهد السوري اليوم.
بعد مئة عام على إنشاء الدولة العربية الوطنية بحدود “سايكس – بيكو”، هاهي تتعرض للتآكل والانهيار.. إلى الحدود التي قادت إلى النفاذ عبر فكرة دويلات الطوائف بعد أن عجزت – تلك الدولة – عن إدارة التنوع والتعددية في نسيجها الوطني، بل وحولت بلدانها إلى كيانات مغلقة تحكم بالأجهزة القمعية وتختنق فيها الإرادة الشعبية وتتآكل فيها منجزات يمكن الاعتداد بها أو حتى المحافظة عليها.
إنه سجل الفشل الذي يجور على المنطقة ويهدد كياناتها القطرية، التي أصبح تماسكها أمراً مشكوكاً فيه.. بل وتبدو مخاطر التقسيم إلى دويلات أمراً ليس متعذراً تحت وطأة ما يحدث الآن في العراق وسورية وليبيا واليمن..
صنعت “سايكس – بيكو” حدوداً سياسية، وأثمرت على دول عربية كبيرة بمقدراتها ومواردها لو أحسنت تلك النظم التي تعاقبت عليها إدارة مقومات تلك الكيانات.. إلا أن ما حدث كان تدميراً للنسيج الاجتماعي، وتعلية للراوبط العشائرية والطائفية والمذهبية، وتكريساً للعنف والقمع والاستبداد والفساد.. حتى بدا البلد العربي الواحد كانتونات اثنية تحتمي بيافطة دولة لا تؤمن بها..
العنوان العريض في هذه المنطقة، انهيار الدولة العربية، وتراكم الظروف المناسبة للتفتيت والتقسيم.. حتى بدا ان الطريق مفتوح للشروع في مخطط إعادة رسم حدود الشرق الأوسط.
ومن مفارقات ظهور تنظيم الدولة الإسلامية، الذي يستهدف حدود “سايكس – بيكو”، انه يسهم اليوم وبشكل فعال في رسم الخرائط الجديدة، وعوضاً عن “سايكس – بيكو”، الذي رسم حدود الدول العربية الكبيرة في المشرق العربي.. يحضر مخطط دويلات الطوائف التي سهلت مهمة تقسيم المقسم، على حراب الطائفية والمذهبية والتكوينات الاثنية.
ما كان يظهر من مؤشرات حول إمكانية تقسيم سورية والعراق قبل عدة سنوات كان أشبه بإطلاق الخيال ليلاحق ضجيجاً إعلامياً متواصلاً.. كما تتواصل يوميات القتل والتدمير في هذين البلدين.. ولكن الصورة اليوم تبدو مختلفة، فالتقسيم إو إعادة رسم الخرائط بين المكونات الاثنية والمذهبية لم تعد خفاء.. بل تجد تربتها وسط هذا الإنهاك الكبير، والتصريحات الروسية والأميركية التي شقت طريقها في فضاء اليأس وتعذر حسم هذا الصراع المكلف قد تجد استجابة من نوع ما.
لقد أصبح الحديث اليوم عن تقسيم سورية أمراً قابلاً للنقاش بل أصبح أمراً محتملاً، والفكرة الروسية التي أُلقيت في خضم الصراع الدولي والإقليمي على العراق وسورية لم تجد من الإدارة الأميركية معارضة.. بل تذهب بعض التحليلات إلى أن هناك مخططاً بديلاً للوضع السوري، إذا ما استمر الحال على ماهو عليه، ويمكن أن تكون هذه أحد عناوين “كيري – لافروف” لإعادة رسم ملامح الشرق الأوسط الجديد بعد أن انتهت صلاحية “سايكس – بيكو”.
انهيار الدولة في سورية والعراق، والحروب الطائفية المستعرة فيهما، وبروز تنظيم الدولة الإسلامية، والتركيز على المخاطر التي تطال مصالح روسيا وأميركا إذا ما استمرت الأوضاع على ماهي عليه.. واستهداف إزاحة فرنسا وبريطانيا عن بقايا نفوذهما في الشرق الأوسط.. كلها عوامل تدفع لإعادة رسم خرائط جديدة ترث القديمة تحت يافطة الحلول الممكنة على النمط الفيدرالي، وهو لا يعني إلا البداية المؤسسة لدويلات تستمد مقومات وجودها من الدعم الروسي والأميركي في المرحلة القادمة.
الاقتراح الروسي الذي يحظى بموافقة أميركية صامتة، يعني لأكراد سورية السيطرة على مناطق في شمال سورية لإقامة حكم ذاتي ابتداء، ويُمكِّن للعلويين دولة من خلال سيطرتهم على مناطق الغرب السوري الساحلي، الذي تتركز فيها اليوم القواعد العسكرية الروسية البحرية والجوية، كما أنه يجعل من درعا في الجنوب السوري مقاطعة قد تحظى بالحكم الذاتي..!!
وإذا لم يكن هذا مدخلاً للتقسيم عبر عناوين الحكم الذاتي أو الفيدرالي فماذا يكون التقسيم؟ أما العراق فهو عملياً اليوم مقسم بين كردستان العراق التي تظهر كدولة لها مؤسساتها وجيشها وحدودها تحت الحماية الأميركية. وما عملية تهجير العرب السنة في العديد من مدن العراق وبلداته إلا وتوحي أن ثمة خطوات تسبق الإعلان عن الكيان العراقي الشيعي، بينما يظل الاضطراب يلاحق الإقليم السني أو ما تبقى منه.
وإن كانت المسألة الكردية معقدة في ظل توزع العرق الكردي الجغرافي بين إيران وتركيا وسورية والعراق. فلا ينتظر من تركيا أن تكون شاهدة على ولادة دويلة كردية في خاصرتها الجنوبية – حيث تعيش أغلبية كردية – دون أن تدرك أن العاقبة ستحيق بها، وان الأهداف البعيدة لن تكون في صالح تركيا الدولة كما نراها اليوم. وبالمثل يتخوف النظام الإيراني من تمدد المشروع الكردي ليصل إلى أطراف المقاطعات الشمالية الغربية التي تحتضن الغالبية الكردية.. إلا أن الدول الكبرى الضالعة في مشروع الكيان الكردي، تدرك أن مشروعها يبدأ من الأرض الرخوة وليس بالضرورة أن يمتد اليوم ليصل للحواف الصلبة.
النفوذ الروسي سيتركز على دولة الساحل، حيث المياه الإقليمية الغنية بالغاز، كما سيمكنها هذا التموضع من الضغط على أوروبا.. وبناء قاعدة نفوذ كبرى في شرق البحر المتوسط.. أما الإدارة الأميركية فهي تراهن على الأكراد، باعتبارهم قوة واعدة لدعم المصالح الأميركية التي تأتي تحت عنوان حروب الإرهاب.. أما القوى الإقليمية المستفيدة من هذه المآلات، والتي تشارك اليوم في الصراع على العراق وسورية فلن تكون سوى إيران واسرائيل.. والشواهد الماثلة اليوم في العراق وسورية لصالح النظام الإيراني وإسرائيل لا تحتاج لمزيد من الكشف والتحليل. أما إنجلترا وفرنسا – في حال نجاح هذا المخطط – سيتراجع نفوذهما ويتهاوى بتهاوي منتجها القديم “سايكس – بيكو”.
هجا العرب كثيراً “سايكس – بيكو”، وهاهم اليوم يجدون أنفسهم متورطين في مخطط “دويلات الطوائف” المتنازعة والقاتلة والمقتولة.
الذكري المئوية لسايكس – بيكو، تلقي اليوم بظلال ثقيلة على المنطقة، تحسباً لاتفاقات سرية تحاك في هذه المرحلة لتقسيم العراق وسورية على نحو بدأت معه مقترحات الحكم الذاتي أو الفيدرالي تشق طريقها بلا مورابة..
مركز الشرق العربي