د. محمد لطفي: هل تخلّى بوتين حقا” عن الأسد؟


د. محمد لطفي: هل تخلّى بوتين حقا" عن الأسد؟يمكن لهذا السؤال أن يتصدّر اليوم قائمة الأسئلة المتداولة حول العالم أو على الأقل في الأوساط المهتمّة بشؤون الشرق الأوسط, ولكنني أجد أن السؤال الأجدر بالتداول الآن هو:
هل كانت روسيا حقا” تدعم الأسد, أو بمعنى آخر, هل كان الأسد في يومٍ ما رجلَ روسيا في الشرق الأوسط؟
في استعراضٍ سريع لمسيرة العلاقات الروسية السورية منذ مطلع السبعينات غداة استلام حافظ الأسد لمقاليد الحكم بعد الإطاحة بقيادة البعث الثلاثية, لابد لنا من الوقوف عند ثلاثة منعطفاتٍ رئيسةٍ رسمَت الخطوط العريضة لهذه العلاقة المتينةِ ظاهرا”, والهشّةِ باطنا” حسبما ستبيّنه الأحداث هنا لاحقا”.
المنعطف الأوّل تبدّى باكرا” بعد انقلاب السادس عشر من تشرين الثاني, من خلال التنسيق المكثّف بين الطرفين, والذي أدى بالنهاية للتغلغل الأوّل للروس في سوريا, الأمر الّذي أفاد به حافظ الأسد من خلال الحصول على صواريخ سام 6 التي لعِبَت دورا” حاسما” في تحقيق القوات السورية نصرا” ابتدائيا” في الأيّام الأولى من حرب العاشر من رمضان.
وفيما عدا تلك الصواريخ المضادّة للطيران فإن الرّوس لم يقدّموا فعليّا” للأسد أي شيء آخر يمّكنه من حسم المعركة على هضاب الجولان حتى النهاية, بل وحتى أنّه لم يستطع المحافظة على مكاسب الأيام الأولى من الحرب, فاضطرّ لاحقا” وسريعا” لتوقيع اتّفاق وقف إطلاق النار وفضّ الاشتباك بعد يومين من أوّل زيارة قام بها هنري كيسنجر لدمشق.
وعندما حاول الأسد الأب لاحقا” معاتبة الروس على تركه ضعيفا” وحيدا” في مواجهة الضغط الأمريكي المباشر, قرر بريجنيف آنذاك متابعة حَقْنه بإبر المخدّر الروسي, فتم تزويد الجيش السوري فيما بعد ببعض دبّابات ال ت 72, وبعدّة أسرابٍ من طائرات الميغ 23 المتطورّة آنذاك, والتي اتّضح لاحقا” – بعد المجزرة التي تعرّضت لها تلك الأسراب فوق سهل البقاع اللبناني أوائل الثمانينيات- أنّها كانت تمثّل الطراز التصديريّ من هذا الصنف من الطائرات (تسميه الأوساط الغربية فلوغر جي), والّذي يفتقد للكثير من الميزات الفنيّة والتعبويّة التي جعلَتهُ متخلّفا” بالمقارنة مع الطراز الأصلي (فلوغر بي) الّذي كانت القوات الجويّة الروسيّة تتسلّح به.
وكنتيجة لهذه الانتكاسة العسكرية الكبرى التي تعرّض لها الجيس السوري في رحاب المستعمرة اللبنانية جوا” وتاليا” على الأرض, بدأ حافظ الأسد بالعزوف تدريجيا” عن الاعتماد على الروس كحليف استراتيجي يُعتَمَد عليه في النائبات, وسريعا” ما وجَد الثعلبّ العلويُّ ضالّته في إيران الشيعية, الناشئة حديثا” على إرث إمبراطوريّة الشاهنشاه رضا بهلوي, والتي أَعلَنَت سريعا” عن نيّتها تصدير ثورتها للخارج, فسارع الرّجل بالوقوف مع (ثورة الخميني) في معركتها الأولى مع (عراق صدّام حسين), ضاربا” عرض الحائط بكلّ المنطلقات النظريّة لحزب البعث العربيّ الّذي كان يشغل ساعتها منصبَ أمينه العام القومي والقطري بآنٍ معا”.
لم يَحلُ الموقف لروسيا السوفييت آنذاك, ولم يرُقْ لهم أن يخسروا موطئ قدمهم الثاني في المنطقة بعد عَدَن, وسرعان ما استدعى يوري أندروبوف – قيصر روسيا القوي لسبعة أشهرٍ فقط- حافظَ الأسد لموسكو, حيث تمّ إغراؤه بتغيير اتفّاقيّة الصداقة الروسية السوريّة, والتي أُضيفَ لها بندٌ سابعٌ نصّ على تزويد الجيش السوري داخل سوريا وخارجها – تلافيا” لما حصل في لبنان- بأحدث طُرُز الأسلحة الروسية المختلفه.
وتمّ توكيل مصطفى طلاس بملف التفاهم مع الروس بناء” على رغبة الروس أنفسهم, إذ كان الرجل مخلصا” للروس- من وجهة نظرهم- أكثر من سيّده ومولاه حافظ الأسد.
وقد مثّل هذا التطوّر ثاني أهم المنعطفات في تاريخ العلاقات بين حكومتي البلدين, الأمر الّذي أفاد منه حافظ الأسد كثيرا” في الاستمرا والصمود, في الفترة التي أحكَمَ فيها الغربُ حصارهم على نظامه بعد أحداث حماة الدامية, وبعد اتهام المخابرات السورية بالترتيب وتدبير بعض الأعمال الإرهابية في لندن وغيرها من المدن الأوربية.
وقد شَهِدَت هذه المرحلة وجودا” مكثّفا” للمستشارين الروس عسكرييهم ومدنييهم, فيما دخّلَت بعض شركات المعسكر الشيوعي السوق السورية لتساهم في بعض المشاريع الإنشائية والزراعية كعنوانٍ لمرحلة افتُرِضَ لها أن تعطي انطباعا” عن تشاركٍ استراتيجيٍّ يمكن البناء عليه طويلا”.
ولكن سقوط الاتحاد السوفييتي المفاجئ, وانهيار المعسكر الشيوعيّ بأكمله مطلع التسعينيات أعاد للأسد المراوغ مشروعه القديم بالتنسيق مع حليف الطائفة الشيعيّ في طهران, فيما كان من الاجدى به أن يحذو حذوَ إيرانَ نفسها حينما استقطَبَت العلماء والعسكريين وخبراء التصنيع الحربي الروسي, فصنعَتْ على أكتافهم نهضتها العلمية والعسكرية اللافتة خلال فترةٍ وجيزة من الزمن.
ويموت حافظ الأسد, ويتمّ التوريث الأوتوماتيكي لابنه بشار من بعده وبرعاية وإشراف أمريكيّ لافِتٍ, سُرعان ما اتضحَ ثمنه بقطيعةٍ شبه كاملةٍ مع الشريك السابق, حليف المستقبل في روسيا.
وكان أوّل بوادر تلك القطيعة استعصاء نظام بشّار الأسد واستنكافه عن سداد ما يترتّب عليه من ديونٍ لروسيا إبّان الحقبة السوفييتيّة فاقت الثلاثين مليار دولار.
ثم تبَع ذلك وبشكل دراماتيكيٍّ إحلالٌ للوجود الإيراني مكان الوجود الروسي السابق, بدء” بالاقتصاد, ولاحقا” من خلال العسكر.
وكان لابد لإكمال ذلك المخطط من إزاحة كل الرّفاق المحسوبين على معسكر موسكو من خارطة المشهد السياسي والعسكري في سوريا. فكانت التسريحاتُ والإعفاءات تتوالى بين كبار القيادات المعروفة بطيب علاقاتها مع الرّوس, والتي تجلّت بإحالة وزير الدفاع الوحيد على مدى أربعين عاما” مصطفى طلاس إلى التقاعد, والعمل على ترحيله بهدوء خارج حدود البلاد, ليُطوى بذلك آخر ملفّات العلاقة المريبة بين نظامين تشابها بالأسلوب فيما اختلفَت غاياتٌ كلٍّ منهما تجاه الآخر.
وهنا يقفز للعلَن سؤال آخر, لماذا انبرى الروس إذا” مؤخّرا” للوقوف إلى جانب نظام بشار الأسد, بعد أن عَرَفوا عنه وخَبروا منه مدى إخلاصه لهم وحرصه على علاقة استراتيجية تربطه بهم؟
وللجواب على هذا السؤال يكفي أن نركّز هنا على أمور ثلاثةٍ أيضا”.
الأمر الأوّل يتعلّق بمواصفات عقليّة بشار الأسد ونظامه التي ورِثها عن نظام أبيه, والمتمثّلة بالاستعداد للتحالف مع الشيطان في سبيل البقاء, الأمر الّذي دفعه للارتماء سريعا” ومجدّدا” في أحضان من خلا بهم هو وأبوه سابقا”, حتى عندما كانوا في أمسّ الحاجة لبقاء صديقٍ أو شبه صديق يؤنسُ وِحشتَهم في منتصف التسعينيات.
أمّا الأمر الثاني, فاقتضاه عجزُ إيران – المُعاقبةُ من الغرب- غداةَ انطلاق الثورة السوريّة عن لعِب دور الحليف الكامل القادر على حسم معركة بقاء بشار الأسد ونظامه, في ظلّ التحالفات الإقليميّة والدوليّة التي تشكّلَت آنذاك استعدادا” لخلعِه, فكان لابدّ من الاستعانة بعدوّ عدوّي, وليس أفضلُ من روسيا للعب دور السَنَد القادم من بعيد, خاصّة” في ظرفٍ كانَت فيها روسيا بوتين بأمسّ الحاجة لفتح جبهةٍ ثانيةٍ مع الغرب تخفف عنها عبءَ جبهة أوكرانيا وشبه جزيرة القرم.
وأمّا الأمر الثالث, وهو برأيي الأهم, فهو أنّ روسيا قد وجدَت الظرف مناسبا” أخيرا” لتغيير قواعد اللعبة بينها وبين حكّام دمشق, فجاءت وبكلّ ثقلها السياسي والعسكري, ظاهرا” لتعويم نظام بشار الأسد, وباطنا” للسعي الحثيث بغيةَ إقصائه -هو وعائلته التي سامَتها طوال أربعين عاما” مرارة الغدر والخداع- وتنصيبِ رجلٍ ونظامٍ يكون مستعدا” للدوران طويلا” في الفلك الروسي, من خلال إنشاء وتفعيل القواعد الروسية على الساحل السوري, الأمر الّذي لطالما حلُمَ الروس به وسَعَوا مرارا” لتحقيقه دون جدوى مع الأسد الأب ومن ثمَّ الإبن.
وهكذا, يبدو للمراقب مؤخّرا” أن كلّا” من حَليفَيّ الأمس القريب قد بانَت له مخطّطات الآخر تجاهه, فسارع كلُّ منهما لتقديم طلّب الطلاق, وفَسْخِ علاقةٍ كان رابطها الوحيدُ هو المصلحةُ المؤقّتةُ من طرفِ عائلة الأسد, فيما كانت ولازالت نوايا الروس – وأنْ تبدّلَ مسمّاهم السياسيّ- هي السيطرة, ومدّ نفوذ القياصرة, لبقعةٍ من الأرضِ لم يصلوها فاتحين حتّى الآن ولا مرّةٍ على مرّ التاريخ.

د. محمد لطفي: هل تخلّى بوتين حقا” عن الأسد؟ الاتحاد برس.